أخبار مختارة

مَن يصنع دستور السودان القادم؟

عدلان عبدالعزيز

تُناقش هذه الورقة، وتقترح آلية صناعة دستور السودان القادم. في الفترة بين ١٦ مايو- ٤ يونيو ٢٠١٨، كنتُ قد نشرت في موقع “الراكوبة” الالكتروني سلسلة من ثلاث حلقات بعنوان “من سيحكم السودان بعد البشير؟”* ناقشت فيه ضرورة الاستعداد لمرحلة ما بعد سقوط البشير بتسمية ثمانية أعضاء لمجلس السيادة القادم، فكانت تعليقات عدد من القراء تزعم أن ذلك ليس هاماُ، و”كدي نصل مرحلة إسقاط النظام”! وكانت النتيجة أن دخل مفاوضو قوى إعلان الحرية والتغيير بدون اتفاق على أسماء فتعطل استلام السلطة، ومرة أخرى بعد صعوبة وتأخير تمّت تسمية مجلس الوزراء، وبعد أكثر من عام من انتصار الثورة ما زالت قائمة الولاة المدنيين محل تجاذب، وقائمة المرشحين للمجلس التشريعي في طور الاعداد. فهل نتعلم من تجاربنا السابقة ونستعد لأهمّ حدث في تأسيس الدولة السودانية الحديثة؟ وهو الدستور الذي يجمع السودانيين في دولة المواطنة التي تسع التعدد العرقي والديني والثقافي.

ورد في الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية، في النسخة المنشورة في الجريدة الرسمية لجمهورية السودان؛ الفصل الثاني، مهام الفترة الانتقالية، المادة ٨، البنود التالية:
(٩) إنشاء آليات للإعداد لوضع دستور دائم لجمهورية السودان،
(١٠) عقد المؤتمر الدستوري قبل نهاية الفترة الانتقالية.
نلاحظ هنا، أن الوثيقة الدستورية أشارت في البند (٩) إلى أن من مهام الفترة الانتقالية “إنشاء آليات” لوضع الدستور الدائم، كما أشارت في البند (١٠) إلى أن من مهام الفترة الانتقالية “عقد المؤتمر الدستوري.

أيضاً، حددت الوثيقة الدستورية في الفصل الثاني عشر، المفوضيات المستقلة، المادة ٣٩ (٣)، أن مجلس السيادة، بالتشاور مع مجلس الوزراء، يعين رئيس وأعضاء ثمان مفوضيات، من بينها:
(ج) مفوضية صناعة الدستور والمؤتمر الدستوري،

نُلاحظ أن هناك ربط مباشر بين صناعة الدستور والمؤتمر الدستوري، حيث تجمعهم مفوضية واحدة. إذاً فدستور السودان الدائم القادم تتم صناعته في المؤتمر الدستوري. ومن الواضح أن التفاصيل المُتعلقة ب “مَن يصنع دستور السودان القادم؟” قد تُركت ل مفوضية صناعة الدستور والمؤتمر الدستوري. فهي الجِهة التي ستوصي بعدد أعضاء المؤتمر الدستوري وأسس وكيفية اختيارهم. إذاً هناك حروف تحتاج أن نضع النقاط فوقها، كما أن هناك مساحات تُركت فارغة علينا أن نجتهد لنملأ فراغها، وذلك ما حدانا فتح هذه المُناقشة.

للإجابة على سؤال “مَن يصنع دستور السودان القادم؟”، يجب على الدستور القادم أن يكون:
أولاً؛ مُعبراً عن القيم الكونية التي توافقت عليها البشرية باعتبارها قِيم ومبادئ فوق دستورية، بمعنى أنها مبادئ غير خاضعة للتصويت عليها. هنا تجب الإشارة إلى أن الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية احتوت على تلك المبادئ، وان لم تسميها مبادئ دستورية، وان جاءت متأخرة على ديباجة الوثيقة، فقد وردت في الفصل الرابع العشر تحت مُسمى “وثيقة الحقوق والحريات”، وتشمل الاتفاقيات والعهود والمواثيق الدولية والإقليمية لحقوق الانسان والمُصادق عليها من قِبل جمهورية السودان. المبادئ فوق الدستورية تُعبر عنها مواد الوثيقة الدستورية في الفصل الرابع عاشر بكل المواد التي تحويه من المادة ٤٢ إلى المادة ٦٧. كما وينتظر من السودان المصادقة على “إعلان روما” الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية، بالإضافة إلى خمس اتفاقيات دولية لحقوق الإنسان، وهي مناهضة التعذيب، القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة “سيداو” بجانب حماية جميع الاشخاص من الاختفاء القسري، وحماية العمال والمهاجرين وافراد اسرهم، العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

ثانياً؛ مكونات المؤتمر الدستوري يجب أن تشمل تمثيل عادل للمجموعات العرقية والدينية والثقافية، بحيث تعكس التنوع العرقي والديني والثقافي والجغرافي في السودان. بداخل ذلك التنوع يوجد كذلك تنوع سياسي وذلك واقع موجود لا سبيل لإنكاره، ولكن لا يجب أن يكون مِعياراً للتمثيل في المؤتمر الدستوري بحسبان أن العامل السياسي، عامل مُتغير، بينما العوامل العرقية والدينية والثقافية عوامل تتمتع بثبات تاريخي نسبي ولا تتغير بسهولة. هُناك مِعياران، نقترحهما معاً، بحيث يضمنّا تمثيلاً أكثر عدلاً.

التمثيل في المؤتمر الدستوري يجب أن يجمع بين الجغرافيا وعدد السُكان. فيكون هناك عدد متساوٍ للتمثيل بحسب عدد الولايات، كما يجب أن يكون هناك صيغة لتمثيل يعكس الكثافة السُكانية. وفي ذلك نقترح أن تتكون عضوية المؤتمر الدستوري من مائتي عضو (٢٠٠)، منهم تسعين عضو (٩٠) يمثلون ثمان عشرة ولاية (١٨) بواقع خمسة (٥) أعضاء لكل ولاية، شرط أن يكون بينهم اثنين من النساء على الأقل، وألا يكون الخمسة أعضاء من مجموعة سُكانية واحدة أو انتماء سياسي واحد، وألا يقل عمر العضو عن ٢١ سنة.

أما من ناحية التعداد السُكاني، فنقترح أن يكون عدد الأعضاء مائة وعشرة (١١٠) عضو، بحيث أن التمثيل يكون بواقع ممثل واحد لكل ثلاثمئة واثنين وثمانين ألف نسمة (١ :٣٨٢٠٠٠) حيث أن عدد السكان بحسب تقديرات البنك الدولي لسنة ٢٠١٨، يبلغ ٤١٨٠١٥٣٣، فقربنا العدد إلى اثنين وأربعين مليون نسمة. فإذا ما تمّ إجراء تعداد سكاني حقيقي، فقد لا تختلف النسبة كثيراً. وبالطبع الكثافة السُكانية لها أيضاً توزيعها الجُغرافي. ذلك المزج بين المعيارين يضمن توزيع أكثر عدلاً بالنسبة للجغرافيا في ارتباطها بعدد السُكان، حيث كِلا المعيارين يجد نصيبه من التمثيل.

هناك تحديات جلية في كيفية تمثيل الوفود في المؤتمر الدستوري؛ أكبرها تمثيل حركات الكفاح المُسلّح. حمل السلاح لا ينبغي أن يعتبر ميزة إضافية لحق المواطنة، كما أنه بطبيعة الحال لا ينتقص منها. دعت ظروف معينة شقيقات وأشقاء أعزاء لحمل السلاح دفاعاً عن حق مُجتمعاتهم في العيش بكرامة، كما دفعوا أثماناً نضالية باهِظة لئلا تطغى فئة سُكانية على أخرى فتغمطها حقوقها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. كذلك، حاملي السلاح لابدّ وأن يكونوا أحرص الناس على التمثيل العادل في المؤتمر الدستوري المنوط به صناعة الدستور الدائم القادِم. تأخرت عملية السلام كثيراً ولابدّ من حث الخُطى في تقديم البرامج والضمانات التي تُخاطب جذور المشكلة السودانية التي كانت سبباً في حمل السلاح، ونعتقد أن المبادئ الدستورية التي تمت الإشارة إليها أعلاه تُشكّل نقطة انطلاق يجب التأكيد عليها وتضمينها اتفاقات السلام، وهي أصلاً موجودة في الوثيقة الدستورية، ويأتي تضمينها في اتفاقيات السلام كتعزيز لها لينطلق المؤتمر الدستوري من نقطة مُتقدمة غير قابلة للتصويت أو التراجع عنها. المناطق التي تسيطر عليها حركات الكفاح المُسلح يُمكن أن تبعث بوفودها للمؤتمر الدستوري بعد اختيارهم بنفس المعايير القومية المُتفق عليها من حيث عدد السُكان في تلك المناطق وحجمها الجغرافي (نفس الأمر ينطبق على أي معسكرات نزوح تكون موجودة)، بالإضافة إلى ذلك، لحركات الكفاح المُسلح تقديم مُرشحيها خارج نطاق سيطرتها، مثلهم مثل بقية قوى المجتمع السوداني.

تحدي آخر يتمثل في ضرورة إجراء التعداد السُكاني قبل توزيع الدوائر الجغرافية (إذا ما تمّ الاتفاق على مائتي وثمانين ألف نسمة داخل الدائرة)، الذي يقوم علية السجل الانتخابي. كذلك فترة انعقاد المؤتمر الدستوري، ففي الولايات المتحدة الأمريكية، كان قد استمر مؤتمرهم الدستوري، والذي انعقد في مدينة فيلادلفيا عام ١٧٨٧م، بحضور ٥٥ مندوباً، وتمخض عنه دستور البلاد، استمر قرابة الأربعة أشهر! عموماً العدد والشكل المقترح لتمثيل الوفود، نتعامل معه كمقترح، الحوار حوله ربما يوصلنا لصيغة تمثيلية أفضل، لكن من المهم بدء الحوار حول تلك القضايا الآن. إغفال التفاكُر والاستعداد المبُكر ل تحديد؛ مَن يصنع دستور السودان القادم، من الأخطار التي تهدد الانتقال الآمن لسودان مُستقر ومزدهر، ويجب أن نكون قد تعلمنا درساً من تجربتنا السابقة في إغفالنا لسؤال من يحكم السودان عشية انتفاضة ديسمبر المجيدة فأضعنا وقتاً ثميناً ودفعنا أثماناً باهظة من عرق ودماء الثوار لننتهي إلى شكل الشراكة القائمة حالياً.

عدلان أحمد عبد العزيز
١٧ يونيو ٢٠٢٠
*المقالات السابقة http://www.alrakoba.net/author/user1100

‫8 تعليقات

  1. كلام جميل لابد من البحث عن الصيغة التمثيلية الأفضل خلاف التمثيل الحزبي وما اقترحته من التمثيل الجغرافي السكاني (الديموغرافي) هو عين العقل وهي الصيغة التمثيلية ذاتها التي يجب أن ينص عليها في الدستور القادم بالنسبة لتمثيل النواب في البرلمان والمجالس التشريعية القادمة على أن يتم ترشيح النواب على أسس غير حزبية أو عرقية أو قبلية أو دينية شريطة أن يكون المرشح من سكان المنطقة لأكثر من عشر سنوات.
    ولكن يجب بدء النقاش والحوار والترويج لهذه الصيغة التمثيلية غير الحزبية من اليوم في وسائل الإعلام الرسمية وخلافها في الصحف الإلكترونية والورقية ووسائط التواصل الاجتماعي حتى يستنير عموم الناخبين ويقبلون بها وعليها عن قناعة راسخة كجزء أساسي في ثقافة العهد الجديد الذي أرادته الثورة أن يكون قطيعة تامة بينه وبين تركة وتجارب الحكم والأنظمة السابقة وخاصة الحزبية والعسكرية على حد سواء.

  2. مقال جميل اخ عدلان
    مهم جدا الاسراع بتشكيل لجنة من وزارة الإحصاء وقسم الرياضيات جامعة لخرطوم، لتصيح وتعديل ما يسمى بالرقم الوطنى،
    للإستفاده منه فى كل مراحل التعداد السكاني، والتصويت، وتوزيع وترتيب بناء الوطن…،
    6 أرقام تاريخ الميلاد، بالإضافة لخمسة (خانات) ارقام اخرى ذات معنى يتفق عليها من موسسات الدولة، مثل زكر ام انثى، بالميلاد ام التجنس، الاقليم او المديرية وو…، (11) رقم، 6 أرقام منها تاريخ الميلاد و5 أرقام يمكن حفظها.

    1. تحية طيبة الأخ فائز عبد الرحمن،

      قدم محمود محمد طه رئيس الحزب الجمهوري، كتاب أسس دستور السودان صادر في نوفمبر ١٩٦٨، الفصل السادس، الهيئة التشريعية، حيث ورد في صفحة ٢٩:
      “ان الشعب هو صاحب السيادة، ولكنه لا يستمد حقه هذا من مجرد وجوده، انما يستمده من انطباعه على القانون، وفهمه إياه وامتثاله له، فالشعب لا يستحق السيادة الا إذا كان قائماً بتنفيذ ما يرضى الله”. وأيضاً “وما نعني بالقانون المستقل بوجوده عن وجود العقل البشري”.
      هاتان الفقرتان لوحدهما تجعل من “أسس دستور السودان” الذي قدمه محمود محمد طه، وثيقة تجاوزها الوعي بالحقوق عند شعب السودان المتنوع دينياً وثقافياً واثنياً. وأعتقد أن الإخوان الجمهوريون يمكن أن يطوروا تلك الوثيقة بما يجعلها تستجيب لمتطلبات التطور الهائل في الوعي بقضايا الحقوق المدنية في السودان وفي العالم.

      على العموم، نقاش مُتن الدستور ومواده المُقترحة، يجب أن يكون داخل المؤتمر الدستوري، والمقال هنا يركز على كيفية اختيار أعضاء المؤتمر الدستوري بحيث نصل لإجابة عادلة على سؤال مَن يصنع دستور السودان القادم؟

  3. نشكر ونثمن مقترح الاخ الاستاذ باشمهندس عدلان، ويجب وضع هذا المقترح قيد التنفيذ وعدم إضاعه الوقت والفرص مره اخري.

  4. الأخ عدلان شكرا على هذا المقال الرصين والهام
    ظل الساسة في بلادنا يتحدثون عن المؤتمر الدستوري منذ اتفاقية الميرغني قرنق واضاعوا فرصة عقده ايام المعارضة ضد الانقاذ وامل الا يضيعوا الفرصة الان خلال الفترة الانتقالية لان ذلك سيكون له ما لا يحمد عقباه
    مشكلة ساستنا غياب الرؤية والاستراتيجية وبعد النظر ولا اعتقد ان الحال قد تغير
    دعنا ندعو وندفع في اتجاه تنفيذ ما ذكرت بالبدء في حوار جاد وسط القوى السياسية والحاملة للسلاح حول هذا الموضوع بدلا من النتظار لأخر لحظة كما هي عادة ساستنا والسمة البارزة لممارستهم السياسية

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..