مقالات وآراء

كيف تنفق الحكومة الانتقالية الترليونات التي تطبعها..؟

مجاهد بشير

لم يجد السيد رئيس الوزراء غضاضة خلال آخر حواراته التلفزيونية في المناورة لتجنب الرد بشفافية على سؤال عن الأثر التضخمي لزيادة رواتب موظفي الحكومة، وتحدث بدلا من ذلك عن برنامج لنقل السلع مباشرة من المنتج إلى المستهلك، في وقت يعلم فيه أي باحث أو اقتصادي مبتديء، أن السبب الرئيس للتضخم هو طباعة الحكومة للعملة، ووفقا لبيانات بنك السودان المركزي، قفز عرض النقود من ٦٢٠ ترليون جنيه ساعة أداء حمدوك القسم في أغسطس ٢٠١٩  إلى ٧٦٥ ترليون جنيه بنهاية مارس ٢٠٢٠ فيما لم تنشر بيانات الشهرين الأخيرين بعد، وهي الفترة التي شهدت زيادة المرتبات وتسارع انهيار الإيرادات الحقيقية بسبب أزمة فيروس كورونا.

قد يفهم المرء لماذا كان البشير يطبع العملة لدعم الاقتصاد المشوه، فهو ديكتاتور يفتقر إلى القدرات الكافية للحكم استمتع بالسيطرة على موارد البلد واحتكار السلطة هو وجماعته على مدار ٣ عقود، وبالتالي لا يرغب في رفع أسعار الخبز والوقود والكهرباء والمستوى العام للأسعار بصدمات هائلة، لأن الجماهير حينها ستجوع وتخرج إلى الشوارع وتسقط نظامه، لذلك يطبع العملة لشراء الذهب والدولار لاستيراد المواد الأساسية وتوفيرها للجماهير بأقل من سعرها العالمي والمحافظة على كرسي الحكم لأطول فترة ممكنة، على اعتبار أن التضخم الناتج عن طباعة العملة أقل حدة من الصدمات التضخمية الهائلة شبه المتزامنة التي تنتج عن تحرير أسعار الخبز والوقود والكهرباء وسعر صرف الجنيه بشكل كامل، وبالتالي احتمال خروج الغضب والجوع عن السيطرة، وانهيار النظام السياسي.

أما أن يتشبث الحكام الجدد بذات سياسة البشير، رغم أنها سرطان يؤدي للدمار الاقتصادي الشامل، دون أدنى فرصة للنجاة، فهذا لا يمكن تفسيره منهجيا إلا من خلال عدم الكفاءة والأهلية والعجز عن التحليل والفهم واتخاذ الخطوات الصحيحة، أو جنون السلطة والرغبة المستميتة في الحفاظ عليها لأطول فترة ممكنة، أو الفرص المذهلة واللامتناهية للفساد والثراء التي تتيحها سياسة طباعة العملة وتقديم الأموال دون رقابة للشركات ورجال الأعمال المشاركين في مولد استيراد المواد الأساسية بعد استلام الجنيهات المطبوعة من الحكومة.

إن الخيار الوحيد الذي تطرحه الأزمة الاقتصادية الحالية فيما نرى، هو خفض المصروفات الحكومية بشكل حاد كما بينا سابقا، من خلال رفع الدعم بالكامل عن كل السلع والخدمات المدعومة على مراحل، باستثناء الدقيق فيتم دعمه جزئيا بحيث لا يقل سعره عن دول الجوار، وإيقاف البذخ في الصرف الحكومي على المسؤولين ومركباتهم الفخمة ونثرياتهم وحوافزهم ، وتسريح من لا حاجة لهم من موظفي الدولة، إلى جانب الالتزام بالشفافية والكشف عن كافة البيانات المالية الحكومية دوريا، وبالتفصيل.

كما أن زيادة الضرائب على كافة السلع غير الضرورية بنسب هائلة تصل إلى ألف في المئة أو ألفين، كفيلة بخفض الطلب عليها وعلى الدولار، وتحصيل أموال للخزانة العامة من الإخوة المواطنين والمقيمين المترفين الذين يستهلكون هذه السلع المستوردة، والتشدد في تحصيل الضرائب من كافة القطاعات، وحصر الإعفاءات الضريبية على تحفيز القطاعات الإنتاجية عند الضرورة.

إن كل هذه الإجراءات والسياسات لا معنى لها في حد ذاتها ما لم تصحبها قفزة في الإنتاج الزراعي، وكررنا مرارا أنه لابد من جلب خبراء أجانب من دول متطورة زراعيا، ليحددوا لنا من الناحية العلمية ما هي المنتجات الزراعية التي يمكن مضاعفة إنتاجها في ظروف السودان، ويقبلها السوق العالمي من الناحية التجارية، ويديرون العملية كلها، فيما تكتفي وزارة المالية بطباعة العملة لتوفير التمويل لهذه المشروعات بالجنيه أو الدولار، كما سيقدم الخبراء الصيغة التنظيمية المناسبة للعملية، هل هي شراكات مع المزارعين أو القطاع الخاص أم انشاء شركات حكومية وغيرها من القضايا التقنية والتنظيمية.

أما فكرة حل الأزمة الاقتصادية بالذهب فهي خرافة حقا، فإنتاج الذهب في السودان لا يتجاوز ٣ مليارات دولار سنويا بتقدير متفاءل، أو ٥ مليارات عند المبالغة القصوى وقبول تقديرات بنك السودان، وتقديري الشخصي أن حجم الإنتاج الفعلي والصادرات المسجلة أو من خلال التهريب خارج السجلات حوالي ٢.٥ مليار دولار سنويا، والذهب قليل في كميته يصعب العثور عليه وليس كالبترول الذي يتدفق بحارا من الأموال  في باطن الأرض ولا تفعل الحكومة غير التعاقد مع شركات لاستخراجه ومنحها نسبة محددة أو متناقصة من الإنتاج مقابل جهد وتكلفة الاستثمار والتشغيل، بينما تحصل الحكومة دون أي جهد على معظم العائدات، فالوضع بالنسبة للذهب معاكس تماما، وتتكبد الشركة المستخرجة للذهب الكثير من النفقات، وتدفع عوائد جليلة عن الإنتاج الكلي تكون في الغالب أقل من ١٠% وضرائب عن الأرباح، وهذه عوائد لا يمكن مقارنتها بنعمة النفط بتاتا.

كما أن قطاع التعدين السوداني غير منظم ويجب تنظيمه أولا، في شركات أهلية للمعدنين أنفسهم أو مستثمرين أو شركات حكومية، لأن الشركة تكون لديها سجلات ومنظومة تسهل مراقبة الحسابات وحجم الإنتاج، أما أن تسمح للأفراد بالتعدين، فيبذل الرجل جهده وماله ويتكبد المشاق في الإنتاج، ثم تأتي لتفرض عليه أن يبيعك ذهبه بالسعر غير العادل الذي تحدده أو أن يصدره للخارج بشروطك أنت فهذا هو الجنون بعينه، فمن حق منتج الذهب أو التاجر الوسيط بيعه داخل أو خارج السودان كيف شاء وبأعلى سعر للدولار، لا بسعر الصرف الحكومي غير العادل وغير الحقيقي، وأكثر ما يمكن أن تطلبه من مثل هذا المنتج أن يدفع الضرائب والعوائد الجليلة إن وجدت طريقة لحصر إنتاجه وضبطه.

إن تعويم الجنيه والسماح للبنوك والصرافات المرخصة بشراء العملات الأجنبية وتحويلات المغتربين وبيعها بأي سعر، دون امتلاك البنك المركزي احتياطي عملات أجنبية، أمر لا مفر منه رغم المخاطر الكبيرة التي تحيط بالعملية والفشل المحتمل والتداعيات غير المحسوبة، فلا بديل عن سعر صرف حقيقي لتنظيم كافة الأنشطة الاقتصادية وتوفير المنتجات المستوردة في السوق المحلي بالأسعار الحقيقية لمن يستطيع الشراء، ومعالجة سلسلة تشوهات وأبواب فساد، والأهم، ضمان حصول المنتجين والمصدرين خاصة على القيمة الحقيقية العادلة مقابل جهدهم.

لابد من الإشارة هنا إلى اعتراضات بعض من يطلق عليهم خبراء وساسة، والقول بوضوح أن كوننا أمة فاشلة تعجز عن إنتاج ما يسد رمقها لا علاقة له بتاتا بصندوق النقد الدولي، بل هو نظام اقتصادي ومالي وتجاري عالمي مهيمن لم تجد الأمم الكبرى كروسيا والصين بدا من العمل وفق قيوده ومحدداته، ولا يمكن المزايدة على المطالبة العقلانية بأن نعيش في حدود دخلنا وإنتاجنا وصادراتنا وقدراتنا الحقيقية، وأن نكف عن طباعة العملة لتمويل الاستهلاك ونمط الحياة العبثي غير المنتج، بشعارات متهافتة من قبيل لن يحكمنا البنك الدولي..ويا ليتنا كنا مؤهلين لتحكمنا مؤسسات التمويل الدولية..بل نحن خارج التصنيفات الإئتمانية الدولية ولا يمكن أن نحصل على تمويل إلا من باب الشفقة والإغاثة أو لاعتبارات سياسية.

نعلم أن الخيارات التي ندعو لها ستضع أعباء غير مسبوقة على كاهل الإخوة المواطنين، وقد تؤدي الاضطرابات الاجتماعية والأمنية والسياسية الناتجة عن تطبيقها إلى انهيار السلطة الحالية، لكن هذه مسؤوليتنا نحن وأسلافنا الأولين أن توارثنا هذا الفشل والتأخر الحضاري والاقتصادي، ولابد من مواجهة الواقع بشجاعة وأدوات عقلانية وعلمية، وتجرع الدواء المر، فإما شفي المريض بالتدريج وبلغ الصحة والعافية، أو واجهنا جميعا القدر المحتوم.

مجاهد بشير
[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..