حول النغمة الشبابية الرافضة للأحزاب

ما من شك أن الأحزاب السودانية تعاني من مشاكل بنيوية تعود في بعضها لضعف المؤسسية ولمجافاتها القواعد الديموقراطية، التي أدت إلى أن يبقى رؤساؤها في مواقعهم لما يصل، إلى نصف قرن، أو يزيد. ولكي نكون منصفين فإن الأنظمة العسكرية التي تسلطت على الحكم في البلاد ثلاث مرات وبلغت جملة مدتها 54 عامًا، أضعفت هذه الاحزاب. فقد أفقرتها، وقسمتها، وسجنت وطاردت، قياداتها العليا والوسيطة، لعشرات السنين. أما عللها البنيوية، فتختلف في الأحزاب التقليدية عنها في الأخرى الحديثة. فقد انخرطت الأحزاب ذات الإيديولوجيا القابضة؛ يسارها ويمينها، في الانقلابات العسكرية. ولم يسلم من ذلك لا الشيوعيين، ولا الإسلاميين، ولا البعثيين. أما الأحزاب التقليدية المرتكزة على قواعد طائفية، فقد شاركت في محاولات التغيير المسلحة، مثلما جرى في الجزيرة أبا، وفيما سمي بالغزو الليبي في عام 1976. يضاف إلى ذلك أن الحزبين الكبيرين، لحرصهما على مصالحهما الاقتصادية، لم يتأخروا قط من المشاركة بعضويتهم في كل البرلمانات الزائفة، التي أقامتها الأنظمة العسكرية، وفي الوزارات، وغيرها. وقد استمر ذلك النهج حتى قيام ثورة ديسمبر 2018، المجيدة.
الأجيال الجديدة من الشابات والشبان، الذين أنجزوا هذه الثورة العظيمة، أحدثوا نقلةً غير مسبوقة في الساحة السياسية السودانية. فقد صمدت سلميتهم أمام كل اختبارات العنف المفرط من جانب سلطة الإنقاذ الغاشمة. مع أن عنف السلطة المفرط يقود عادةً إلى رد فعلٍ عنيفٍ من جانب الثوار. هزمت هذه الثورة السلمية نهج التغيير العنفي؛ كالذي جرى من الأحزاب في 1976، وجرى من حركة خليل إبراهيم في 2008. يضاف إلى ذلك، ما سُمِّى: “الانتفاضة المحمية بالسلاح”. جاء التغيير، في ديسمبر 2018، من حيث لم يحتسب أحد. وجاء بقوة إجماعٍ شعبي، أعجزت العنف المفرط وهزمته. ولا أحد يستطيع من كامل الطيف السياسي أن يدعي بأنه كان وراء هذا الذي جرى، على هذا النحو المدهش.
قلب شباب الثورة الطاولة على البنية المفاهيمية، التي حكمت مسلك مختلف القوى الحزبية، عبر الستين سنةً الماضية. ولقد أظهر هؤلاء الشباب روحًا جديدةً، وطاقةً جديدةً، وسمتًا أخلاقيًا جديدًا، وتوثُّبًا وشغفًا بالتغيير الجذري، لا أرى أن القيادات الحزبية الراهنة مؤهلة، معرفيًا وأخلاقيا، للتفاعل معه، والاستجابة له في مستواه. ولا غرابة إذن، أن سادت وسط هؤلاء الشباب نغمة رفض الأحزاب، جملةً وتفصيلا. فقد رأوا كيف كان البشير يلعب بهذه الأحزاب بسبب لامبدئيتها، وتهافتها على الحطام. لقد نقل هؤلاء الشباب، ولأول مرة، في فترة ما بعد الاستقلال، الصراع من أرض معركة المعادلة الصفرية، غير المنتجة، بين اليمين واليسار، إلى أرض معركةٍ جديدة. طرفاها هذه المرة: هذه القوة الشبابية الجديدة، وجملة المفاهيم الرثة التي حكمت سلوك اليمين واليسار.
لكن، لابد من قول ما هو بديهي، وهو: لا توجد ديمقراطية بلا أحزاب. هذه القوة الشبابية يمكن أن تحرس هذه الفترة الانتقالية إلى نهاياتها، وقد أثبتت قدرتها على ذلك. لكن التحدي الأكبر للثورة ليس الفترة الانتقالية، وإنما ما بعدها. فإن لم ينظم الشباب أنفسهم ويتحولوا من ثوار يعبئون الشوارع، إلى قوة حزبيةٍ منظمةٍ تعبئ صناديق الاقتراع، فإن القوى القديمة التي بدأوا في إخراجها عبر الباب، ستعود عبر الشباك، وسيكون في يدها، حينها، صكٌّ مستندٌ على الشرعيةٍ الدستورية. (لهذا الحديث بقية).
عشان كده نبه كثير من الكتاب و الحادبين علي الوطن الي ضرورة إنشاء حزب يمثل هؤلاء الشباب الغير مسيسين بعيدا عن الأحزاب التقليدية و ليكون هو حزب الأغلبية الصامتة و لتكون لهم الكلمة في الانتخابات القادمة ..علي لجان المقاومة التفكير جديا في ذلك و من الآن. .و إلا سنعود الي دائرة الأمة و الاتحادي و الاخوان و الشيوعيين مرة أخري و كأنك يا ابو زيد ما غزيت
((لكن، لابد من قول ما هو بديهي، وهو: لا توجد ديمقراطية بلا أحزاب)) !!؟
مازال النخبة حائرين لا يقدرون بثقافتهم التقليدية على التفكير خارج ذلك الصندوق العتيق ولا على استيعاب التحول المفاهيمي والتنظيمي الواقعي الذي جاءت به ثورة شباب هذا الجيل الحاضر رفضاً لجملة تركة الماضي وتخلصاً من كامل ركام تجارب الحكم (الديمقراطي والشمولي) ومن المفاهيم والبدهيات التي قامت عليها.
إن ما رآه الكاتب بدهياً في الفكر الديمقراطي المتحصل من التجربة الغربية بقيامها على أحزاب سياسية، ذلك أن الفكر السياسي الغربي اتخذ الأحزاب أولاً وسيلة لتمثيل الشعب وللنيابة عنه في إدارة أجهزة الحكم، وثانياً اتخذها وسيلة لتداول سلطة الشعب بين الأحزاب المتنافسة العاملة في الساحة السياسية. ولو أن الممارسة الغربية اتخذت وسائل أخرى لتمثيل الشعب وتداول السلطة بين ممثليه من الأحزاب، أو اتخذ بدائل أخرى لفكرتي التمثيل والتداول الحزبي للسلطة ذاتهما مثل التمثيل المباشر بين النائب المُرَشح أو المنتخب وجمهور الناخبين الذين يختارونه وذلك بتخطي علاقة ووساطة الحزب الذي ينتمي إليه المرشح أو النائب – أقول لو كان هذا خيار الممارسة الديمقراطية الغربية لما نشأت الأحزاب الغربية أصلاً ولما صارت لازمة للديمقراطية الغربية، بداهة بل أصلاً.!
إن مزايا التمثيل المباشر من النائب للناخبين في دائرته أولاً هو التمثيل الحقيقي حيث يقوم النائب بعكس آراء الناخبين في دائرته في البرلمان، سواء تعلقت تلك بالمطالب المحلية أو القضايا والمصالح العليا للدولة، حيث يمكنه الرجوع لدائرته لأخذ التفويض منهم بدلاً من أخذه من الحزب الذي ينتمي إليه، علماً بأن موقف الحزب قد يكون مغايراً تماماً لآراء جمهور الناخبين. فالعلاقة هنا فيما النائب وناخبيه علاقة مباشرة ويوصف النائب بأنه (مندوب تعليمات Instructed delegate . بينما لا توجد هذه الصلة المباشرة بين مواقف الناخبين وبين سلوك ومواقف ممثلهم الحزبي أو المستقل، فالنواب هنا يقررون بأنفسهم وعلى أساس آراءهم الشخصية، أو الحزبية التي قد تتلاقي عرَضاً مع مواقف جمهور الناخبين أو لا تلتقي مطلقاً، حيث يكون النائب مستقلاً في سلوكه السياسي Independent Deputy وقد لا يمثل إلا نفسه!
وتبعاً للعلاقة بين النائب والناخبين تختلف نظم المساءلة للنواب المنتخبين في الديمقراطيات التمثيلية، المباشرة والحزبية. ففي نمط التمثيل المباشر، تعتمد المساءلة على العلاقة المباشرة بين المصوت في الدائرة والنائب، والذي يمكن أن تكون مساءلته في عقابه في الانتخابات التالية أو طرح عدم الثقة فيه وسحبه من جمهور دائرته بانتخابات تجرى لذذلك الغرض كالانتخابات التكميلية لنائب متوفي أو مستقيل أو فاقد للأهلية. أما في نظام التمثيل الحزبي، فالحزب هو الذي يحاسب النواب التابعين له أولاً حزبياً أو النواب الآخرين بالإضافة إلى نوابه في البرلمان، ثانياً، بواسطة أغلبيته وقد يحمى نوابه بهذه الأغلبية من أية مساءلة! ويكفي هذا سبباً لنبذ التمثيل الحزبي علاوة على مساوئ الأحزاب السودانية البنيوية والطائفية والفكرية التي ذكرها الكاتب والمتناقضة مع مبدأ الديمقراطية ذاته.
وفوق هذا وذاك مما تقدم، يبدو أن التحول الذي جاءت به ثورة الشباب لا ينحصر في اختيار نمط التمثيل الديمقراطي فحسب، بتفضيل النمط المباشر على الحزبي غير المباشر، وإنما لها موقف من فكرة التداول ذاتها للسلطة! فالسلطة في جميع الأحوال وكافة نظم الحكم المعروفة – عدا مَلكِية القرون الوسطى والثيوقراطية – مصدرها الوحيد هو الشعب – حتى الدكتاتوريات تزعم أنها مفوضة من الشعب! – وعليه تطرح هذه الثورة لماذا تسمح للأحزاب بتداول سلطة الشعب فيما بينها أو احتكارها لدى حزب الأغلبية بعد أن قررت رفض تمثيل الشعب بواسطة الأحزاب فلماذا تحتفظ ببداهة فكرة تداول السلطة لدى أمثال الكاتب وجيله من (بُدهاء) العقل السياسي التقليدي؟؟!
الرد على دكتور علي بابكر الهدي دعوة للتنازل عن ديمقراطية ويستمنستر إلى التوافقية
((إن المبدأ الأساسي الأول للديمقراطية هو مشاركة كل المتأثرين بأي قرار في عملية صناعة واتخاذ هذا القرار إما مباشرةً، أو بطريقة غير مباشرة عبر اختيار ممثلين لهم. أما المبدأ الثاني فهو سيادة رأي الأغلبية))!!
نحن لا نختلف مع قول اللورد آرثر هذا ولكن مشكلتنا في السودان تنحصر في المبدأ الأول، التمثيل تحديداً وفي التمثيل التمثيل غير المباشر أي بواسطة أحزاب بدلاً من التمثيل الحقيقي وهو المباشر الذي طرحناه في ردنا على مقالة دكتور النور حمد الترابي الذي لا يرى تحقق الديمقراطية إلا بشرط واحد هو التمثيل الحزبي غير المباشر!!
إن جل التركة السودانية في الديمقراطية كانت تجربة حزبية وقد كانت مصحوبة بأمراض الطائفية والمذهبية السياسية وخلافها ولم تكن أحزابنا تشبه أحزاب ديمقراطية ويستمنستر أو الكونغرس الأمريكي فيما تقوم عليه الأحزاب الغربية وهو البرنامج الاقتصادي السياسي الاجتماعي وليس الولاء الطائفي أو الجهوي أو الانتماء القومي لقوميات خارج السودان!
نحن لا نريد مطلقاً لهذه التجربة السابقة أن تستمر أو تتكرر. وبدلاً من ذلك نريد ممارسة الديمقراطية بعيداً عن الحزبية وذلك عن طريق التمثيل المباشر بين الناخبين وممثليهم من مواطنين أكفاء يعرفونهم وينتمون معهم إما لمنطقة جغرافية واحدة أو فئة مهنية وحرفية واحدة أو فئة نوعية معينة من فئات المجتمع ذات المصالح المشتركة.
ولعله من نافلة القول أن ممارسة الديمقراطية بهذا الشكل يغنينا تماماً عن مشاكل المبدأ الثاني للديمقراطية وبالذات مشكلة الأغلبية المكانكية وهضم حقوق الأقلية – وذلك لعدم إمكانية التكتل الحزبي داخل البرلمان وإنما يكون التكتل حرا وموضوعيا وفقاً للقناعة بعد المداولة للمسألة المحددة وليس بالقناعات الحزبية المسبقة السابقة للمداولات أو المفروضة على نواب كتلة من الكتل.
بالمقابل فإن ما اقترحه كاتب المقال وأسماه بالديمقراطية التوافقية لا نعتقد بأنه كفيل بحل معضلة الديمقراطية الحزبية السودانية الموروثة. إذ يكاد من المعلوم سلفا شكل التوافق الذي يمكن أن يتم بين أحزاب طائفية أو مذهبية، فيكون اتفاقاً طائفياً أو مذهبياً وليس وطنياً قائماً على مصلحة الوطن أو المواطن. ما الفائده إذا كانت هذه التوافقية المفترضة تنعقد وتنفض على مصالح حزبية ليست وطنية وقد جربنا هذه الائتلافات والاختلافات بين حزبي الأغلبية الطائفيين وكانت النتيجة الثابتة والدائمة هي الانقلابات العسكرية كما حصل في أول إنقلاب عسكري بقيادة عبود ومروراً بإنقلاب نميري إلى آخر إنقلاب والذي نفذه الأنجاس فأذاقونا الأمرين ثلاثين سنة ولازلنا نحاول التخلص منهم ومن خرابهم.