مقالات سياسية

الزراعة السودانية ومشاكلها ومناهج العلوم الزراعية بالكليات (4)

ب/ نبيل حامد حسن بشير

بسم الله الرحمن الرحيم

2) العلم والتعليم الزراعي

بدأ التعليم الزراعي )الأكاديمي(  في السودان بكلية غردون، ثم جامعة الخرطوم بكلية الزراعة بعد الاستقلال،   يتخرج فيه الطالب بدرجة  )عامة) في الزراعة ، ثم بدأت  شبه التخصصات  options  في الستة أشهر الأخيرة من الدراسة (بكالوريوس شرف). وسار الطب البيطري والانتاج الحيواني بنفس الوتيرة، ثم أصبح الانتاج الحيواني أحد أقسام كلية الزراعة، ثم اسست كلية للإنتاج الحيواني وأخري للغابات بمجمع شمبات في بدايات تسعينات القرن الماضي.  أما المعهد الزراعي الذي يخرج (فنيين ) بدرجة دبلوم لعامين، ثم عدل الى ثلاثة أعوام ، فقد أنشأ بعد الاستقلال وكان يتبع لوزارة الزراعة، ومعهد بيطري، يتبع لوزارة الثروة الحيوانية بحلة كوكو، وهو حاليا يتبع لجامعة السودان  للعلوم والتكنولوجيا ككلية أكاديمية ، مثله مثل معهد شمبات الزراعي الذي تحول الى كلية الدراسات الزراعية بذات الجامعة. أي أنه يوجد بضاحية شمبات كليتان للزراعة أحداهن تتبع لجامعة الخرطوم والأخرى لجامعة السودان. الكليتان تخرجان حاليا  خريج زراعي (أكاديمي)، وفقدنا   المعهد الذي كان يخرج الفنيين، علما بأنهم النوعية التي يعتمد عليها في التطور الانتاجي والعلمي في كل دول العالم المتقدم، والسبب في ذلك  يرجع الى التقييم الوظيفي والمجتمعي وديوان شؤون الخدمة الذي يضع الفني في درجة أقل من الأكاديمي!!! حدث ذات الشيء بالنسبة لمعهدي ابوحراز ابونعامة حيث تم تحويلهما الى كليات زراعية (أكاديمية)   بجامعة الجزيرة وجامعة سنار على الترتيب بعد سيئة الذكر (ثورة التعليم العالي).

بدأ التعليم الزراعي بمناهج وضعها الانجليز  بحيث تناسب الزراعة السودانية، تواكب متطلبات  ذلك الزمان واحتياجات الزراعة السودانية في ذلك الوقت،  و تدرس باللغة الانجليزية ، مثلها مثل كل كليات  كلية غردون الجامعية، واستمر الحال علي  ذلك  بجامعة الخرطوم والمعاهد الفنية حتى جاءت  ما يطلق عليها افتراءا (ثورة التعليم العالي) في  العهد البائد التي دمرت كل التعليم وبكل مراحله.

 كان نظام التعليم  يعتمد على  نظام  العام الدراسي السنوي ، ويجلس الطالب للامتحانات بنهاية العام، وقد يأتي ممتحنين خارجيين من بريطانيا أو من مصر أحيانا. كان أغلب الأساتذة  بريطانيون أو هنود  حتى وقت الاستقلال مع استمرار البعض منهم بعد الاستقلال، خاصة في العلوم الأساسية من كيمياء وفيزياء وجيولوجيا ورياضيات. كما أرسل المبرزين من الطلاب لإكمال  دراستهم بجامعات بريطانيا للتأهيل العالي ، اما بعد التخرج أو اثناء الدراسة،  ليصبحوا أساتذة بكلياتهم فيما بعد.  في منتصف الخمسينات تم ابتعاث البعض لأول مرة الى الولايات المتحدة، خاصة جامعات كاليفورنيا، وتركوا سيرة متميزة عن الخريج السوداني بصفة عامة.   البعض منهم التحق بالجامعة، وبعض أخر بهيئة البحوث الزراعية والبقية بإدارات الوزارة، خاصة البساتين. كانت كل كلية لا تستوعب أكثر من 10 طلاب بعد المعاينات الدقيقة حتي فترة حكة حكومة نوفمبر  وازدادت الأعداد الى ما يقارب الخمسين في حكومة مايو، وفاقت الخمسمائة في العهد البائد.   نستطيع أن نقول أن الحريجين الأوائل لكلية الزراعة حتى  دفعات بدايات السبعينات تميزوا بقدرات ومستويات عالية جدا وتميزوا علميا واداريا وقدموا الكثير للزراعة السودانية. 

كما ذهب عدد من الطلاب الى مصر للالتحاق بالمعاهد والجامعات المصرية (مشتهر و القاهرة واسكندرية) على نفقتهم الخاصة،  بعد الاستقلال أو قبله بأعوام قليلة،  وتخرجوا في مجالات هامة  (الوراثة، والوقاية والحشرات وأمراض النبات والمبيدات)  على ما أعتقد تخرجوا في   1958م  واحتلوا مناصب مرموقة بالجامعات والابحاث والوزارة.  حصلت الوزارة أيضا على منح من المانيا الغربية في ذلك الوقت  للدراسات العليا واستفاد منها عدد محدود من الخريجين، واصبح لدينا خبرات متنوعة بريطانية ومصرية والمانية، أسست لنا  ما يناسب ذلك الزمان من زراعة وتعليم زراعي وبحوث، مع توفر الامكانيات المناسبة لمتطلباتهم التعليمية والبحثية والادارية.

استمر الحال علي ما هو عليه مع بعثات منتظمة لبريطانيا والولايات المتحدة  والاتحاد السوفيتي  والمانيا  وفرنسا حيث كان مساعد التدريس أو مساعد الباحث يذهب للماجستير بعد عامين من تخرجه والتحاقه بالوظيفة، أما العاملين بالوزارة  فيذهبون أيضا لبعثات داخلية أو خارجية في فترة لا تتعدي 7 أعوام من تخرجهم.  أما الباحث أو الاستاذ الجامعي فقد كان من حقه أن يقضي عام كامل بإحدى الجامعات أو المراكز البحثية العالمية كل اربع سنوات  حتى يطور نفسه ويواكب المستجدات في ما يسمي بإجازة سبتية sabbatical leave. 

نتيجة كل هذا كانت الامتدادات في المشاريع أفقيا، وبعض الحزم التقنية، خاصة الدورات الزراعية، وبعض الدراسات الخاصة بإنتاج اصناف جديدة  لبعض المحاصيل الحقلية والبستانية ، ودراسات على الآفات بأنواعها وطرق مكافحتها، خاصة المكافحة الكيماوية، اضافة الى  القليل من الدراسات في الري والهندسة الزراعية، والأخيرة أغلبها بالجامعات  ومن نتائج بحوث طلاب  الدراسات العليا.  

في منتصف السبعينات أسست جامعتي الجزيرة جوبا. فكانت كلية العلوم الزراعية من نصيب الأولي، وكلية الموارد الطبيعية من نصيب الثانية.  كلية العلوم الزراعية انتهجت منهجا  مختلفا عن كلية الزراعة بجامعة الخرطوم حيث تبنت النظام الأميريكي الفصلي semester المعتمد على نظام الساعات المعتمدةcredit hours ، وبدأت التخصصات من الفصل الدراسي السابع (4 فصول تخصص بدلا عن  6 أشهر بالخرطوم)، ثم حولته الى الفصل الخامس (6 فصول دراسية) في تخصصات المحاصيل،  والبساتين والتربة، والهندسة الزراعية والري، وقاية النباتات، المبيدات والسميات، الارشاد الزراعي، الانتاج الحيواني، البيئة والموارد الطبيعية،  الأغذية والاقتصاد الزراعي. تقوم الكلية  بتقييم وتحديث المناهج كل خمس سنوات تبعا للمستجدات في العلوم واضافة مخرجات البحوث.  ثم قامت  كليات للعلوم الزراعية بالعديد من الجامعات الاقليمية  مثل  دنقلا، نهر النيل، القضارف، كسلا، وابونعامة،  الأبيض، الدلنج، بخت الرضا، الفاشر ونيالا و زالنجي. اغلبها تبني نظام جامعة الجزيرة.  بكل هذه الكليات  قامت برامج للدراسات العليا، ووفرت الكثير جدا من المعلومات وملأت الفراغات المعلوماتية والبحثية، خاصة التطبيقية منها وفقا للمتوفر من الامكانيات المحدودة جدا،  وقامت بإعداد الكثير من الباحثين للهيئات والمراكز البحثية الزراعية وللمشاريع المروية والمطرية  والقطاع الخاص والشركات، وعدد كبير جدا يعمل بدول الخليج العربي.  

المشكلة الأساسية في هذه الجامعات الأن أن أغلبية الأساتذة  تأهلوا محليا، وينطبق ذات الشيء على الباحثين، والسبب في ذلك هو نوقف المنح الدراسية بسبب ممارسات النظام البائد. كما توقفت  الإجازات السبتية وقللت الحكومة من تمويل المشاركة في المؤتمرات  والورش الدولية والاقليمية، كما توقفت برامج استجلاب الأساتذة الأجانب. أي أصبحنا في حالة انغلاق علمي. ابتعث البعض الى ماليزيا والصين والهند وتركيا. منهم من عاد للبلاد بعد انتهاء الدراسة ومنهم من  قرر الهجرة وبخل بما تعلمه على بلاده. 

كل الكليات الزراعية والمراكز والهيئات البحثية حاليا  تفتقر للإمكانيات المعملية  والفنيين المؤهلين لإدارة هذه المعامل، بل أن الفنيين القدامي لجأوا لعملية التجسير الى درجة البكالوريوس الأكاديمي وفارقوا المجال الفني، كما  لا يوجد بأي منها  هذه الكليات معامل معتمدة. بل أن الجزئيات العملية من المواد العلمية أصبحت تدرس نظريا أو تستغل ساعاتها لتكملة الجزء النظري بسبب عدم توفر الأجهزة أو للتكلفة العالية للجزء العملي. عليه نجد أن الخريج الخالي    شديد الضعف  من الناحية العملية، كمثال خريج زراعي لا يعرف كيف يجهز  عقل الأشجار بأنواعها، لا يعرف  كيف تعمل البيوت المحمية، لا يعرف كيف يقوم بتشغيل الجرار والحصادة ، ولا يستطيع معايرة الزراعات وماكينات الرش عمليا…الخ.  لم يسمع بمفاهيم مثل الزراعة الذكية، والزراعة بدقة، ومقدراته ضعيفة جدا في التقانة الأحيائية، بل في الادارة الزراعية / المزرعية والارشاد الزراعي،  والأهم من كل ذلك  كيفية مواجهة المشاكل ووضع الحلول المناسبة لها.

في الحلقة القادمة سنناقش المناهج الحالية و المناهج المقترحة  لتواكب المستجدات و الاحتياجات المحلية والاقليمية والعالمية.  أللهم نسالك اللطف ( أمين).

ب/ نبيل حامد حسن بشير
جامعة الجزيرة
1/7/2020م
[email protected]

 

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..