انقلاب حمدوك!

1

المجد للحشود لا للجيوش ولا للصناديق.لقد ولى زمان الانقلابات أم مارشات وجاء زمان آخر تكون فيه الشوارع التي تفيض بالمتظاهرين الغاضبين و بالحشود هي من يتخذ القرارات الحاسمة.هذا ما بدأ يُعرف فى الفقه السياسي المعاصر بشرعية الشارع ، وهى الشرعية الجديدة التي تتدثر بها النخب السياسية المرتعبة من الصناديق لتصل إلى السلطة متحالفة مع العسكر أو بدونهم. وهى مجرّبة ولها نماذجها.

2
شرعية إنقلاب حمدوك سيستمدها مباشرة من الشارع وهو ليس انقلاباً على العسكر بل بموافقتهم وحمايتهم، وتحت وهج ذات المطالب التي خرجت بها الجماهير للشوارع. انقلاب أبيض نظيف ستسعد به أطراف من قحت وتشقى به أخرى لأن حساباتها التكتيكية خاطئة لكونها ببساطة تتكيء على قوة لا تملكها ، وهي قوة الشارع الحي الغاضب المتغيرة ، إضافة إلى أنها فقيرة من القوة العارية. قالوا إن ماهزم خطط وتدابير عبد الخالق محجوب والترابي فى صراعهما مع الحكومات أنهما نظرا لقوة الحزب لا لقوة الدولة.

3
فكرة انقلاب حمدوك بسيطة ، خرج الشارع يهتف بمطالب محددة وامهل الحكومة اسبوعين للاستجابة لتلك المطالب . استلمت الحكومة المطالب وهى حرة فى كيفية الاستجابة لها.لا أحد يقول للحكومة عليك تنفيذ المطالب بهذه الطريقة أو تلك، فهي من الآن وصاعدا حرة تعمل لتنفيذ المطالب و بطريقتها الخاصة.

4
فى البداية لابد من الاعتراف أنه لم يعد هناك ما يسمى تحالف قحت فقد مات واستخرجت له 30 يوينو شهادة الوفاة.
ولنفهم حيثيات انقلاب حمدوك لابد من معرفة خريطة التيارات المتصارعة في الخفاء للسيطرة على الدولة ومراكز القرار..
التيار الأول هو تيار يسار لامنتمي و منقسم لمجموعتين الأولى يسميها الحزب الشيوعى مجموعة الهبوط الناعم والثانية مجموعة المزرعة وهما مجموعتان خرجتا من عباءة الحزب الشيوعي فى فترات مختلفة ولهما ثارات معه.وهاتان المجموعتان هما المتنفذتين فى قرارات الدولة وسياساتها بأكثر ما تفعل الحرية والتغيير.
الثانى هو تيار البعث بكل تفريعاته وهو خطير، فعله غير ظاهر يحب العمل في الخفاء لكنه مؤثر، تتسرب كوادره إلي مواقع السلطة و القرار دون ضجيج .التيار الثالث يضم حزب الأمة والتجمع الاتحادي والمؤتمر السوداني وهؤلاء متواجدون في فضاء السلطة ولكن أثرهم ضعيف.

5
فى تحليل الحزب الشيوعي غير المكتوب أن مجموعة الهبوط الناعم وجماعة المزرعة على رأسهم شلة المستشارين بمجلس الوزراء اختطفوا الدولة وهم يعطلون مشاريع الحزب السياسية والاقتصادية ويعطلون رغبته فى تصفية خصومه من العسكر والكيزان، فهو يعمل لإنجاز ذلك قبل نهاية الفترة الانتقالية لأنه لا سبيل له في إنفاذ أجندته بعد ذلك.صحيح أن كوادره الوسيطة تتسرب بهدوء داخل أروقة السلطة وتملأ فراغات الوظائف المهمة التي تهديها لهم لجنة إزالة التمكين، ويمرر لهم السيد حمدوك قوائم الحزب للتوظيف بمجاملاته المعهودة.

ركز الحزب الشيوعى هجومه على جماعتى الهبوط الناعم لكن ليس له أداة للضغط لإنفاذ أهدافه إلا الشارع و ( الشارع بس). ولذا سارع بتعبئته ضد العسكر وضد حكومة حمدوك تحت ستار تصحيح المسار.

أجندة الحزب التي طرحها لاستثارة الشارع تلتقي مع آخرين ولكنها أيضا تختلف عنهم فى بعض بنودها وأولوياتها وتفاصيلها، وبعضها يختلف كلياً مع مكونات أخرى فى تحالف قحت الذي كان، مستغلا غضب الشعب العام من أداء حكومة حمدوك. للحزب الشيوعى أجندة أخرى لتحركاته ولندرك ذلك لنسأل عن مسئولية حكومة حمدوك فى تعطيل انفاذ الأجندة المعلنة ؟.

6
مثلا تعيين الولاة المدنيين، الحزب الشيوعى يعلم التعقيدات التي واجهت وتواجه هذا المطلب، تأخير عملية السلام كان سبباً موضوعياً إذ كان مطلب التأجيل مطلباً أساسياً من قبل الحركات المسلحة، فتم تأجيل التعيين لحين إكمال عملية السلام الجارية في جوبا.

ثم التعقيد الثاني هو المحاصصات التي تتنازع عليها الأحزاب، حزب الأمة يطالب بالنصيب الأكبر فى حكام الولايات ولم يرض عن الأربع ولايات التي خصصت له. يعني ذلك أن حكومة حمدوك التي انتظرت طويلا لتصلها قائمة المرشحين وبعد أن وصلتها من قوى الحرية والتغيير انتظرت توقيع السلام، فما ذنب حكومة حمدوك وما دورها فى التأخير ولماذا تعرقل أصلا تعيين الولاة بلا داعى.؟.

المطلب الثاني إجراءات العدالة فى حق الشهداء وهو مطلب رئيس وعادل والجميع متفق عليه ولكن ماذا يفعل حمدوك أكثر من تكوين لجنة للتحقيق؟. صحيح أن اللجنة تأخرت لأسباب معلومة وغير معلومة ولكن كيف يمكن أن تطالب الحكومة بحسم هذا الملف خلال اسبوعين، هل بمقدور السيد نبيل أديب استكمال تحقيقاته وتقديم الجناة إلى المحاكمة خلال هذه الفترة ؟ عملياً لايمكن ولذا هو مطلب عاطفي لإرضاء أسر الشهداء الذين سيحتشحدون في الشارع تحت ظلال تلك الشعارات. ولذا صدر قرار فى اليوم التالى لمظاهرات 30 يوينو بإمهال لجنة السيد نبيل أديب ثلاثة أشهر أخرى.!!.

7
المطلب الثالث تشكيل المجلس التشريعي وهو مطلب يتعلق بالسلام ومطالبات الحركات المسلحة وهل الأولوية للسلام أم هي للمجلس التشريعى؟. وهل توقف التشريع أصلاً بسبب عدم تكوين المجلس التشريعي؟ . إذن لماذا العويل، ببساطة لأن الحزب الشيوعي الذى يتوقع أن يظفر بوضع مريح فى المجلس كونه سيدخل فيه بأكثر من (صرفة) فأكثر من تكوين هلامي داخل نادي قحت تحت سيطرته ، وبذلك يستطيع إصدار التشريعات بحسب أجندته بواسطة نوابه أو كوادره فى المجلس التشريعي إضافة إلى تحالفاته المعلومة من بعض أحزاب اليسار البعثي.

8
رابعا تكوين المفوضيات المستقلة وهو مطلب معقول ولكنه جاء متأخراً ، وخاصة فى قضية السلام التي قطعت أشواطاً مهمة الآن وظل الحزب يعارض عملية السلام فى جوبا، فعلى عدالة هذا المطلب كان ينبغى أن يوجه إلى الحرية والتغيير أولا فهي التي ينبغي أن ترشح وتختار ممثليها فى تلك المفوضيات وهي لم تفعل ولا يمكن لحكومة حمدوك أن تفعل وحدها.

9
هناك مطالب تتعلق بتسريع محاكمات رموز النظام السابق وتصفية الشركات الأمنية وهى مطالب بلا قيمة وليس من مصلحة حكومة حمدوك الوقوف ضد إنفاذها والمطلب الأهم والأخير والذي لا سبيل له هو دعوة الحكومة لرفض وصفة صندوق النقد الدولي الذي تمضي سياساتها الآن على قدم وساق وتشرعنت بعد مؤتمر برلين الأخير.( اقرأ مقال د. خالد التجاني اليوم. قراءة فى كواليس مؤتمر برلين الشركاء يحسمون وجهة السودان الاقتصادية لصالح توافق واشنطون.). يستحيل إيقاف تنفيذ تلك الوصفة القاتلة إلا إذا استطاع الحزب الشيوعى ومجموعة اليسار البعثي الإطاحة بحكومة حمدوك والبدوى وبأعجل ماتيسر.

10
هذه هى المطالب التي يتخذها الحزب الشيوعى أداة لتثوير الشارع وللضغط بها على حكومة حمدوك. الآن جماعة حمدوك بعد 30 يوينو أمسكت بزمام المبادرة للاستجابة للمطالب الممكنة على طريقتها الخاصة فبمزاجها ستغير الحكومة وهى غير ملزمة بأي ترشيحات من قحت وستعين المفوضيات بترشيحات تجيزها هى بموافقتها، وستنتظر صراعاً طويلاً بين مكونات قحت على تكوين المجلس التشريعي وستضحك جماعة الهبوط الناعم عليهم وهى تجيز في الأثناء التشريعات التي تتوافق عليها مع المكون العسكرى بسرعة تحت مقولة الشارع لا ينتظر.

سينفذ البدوي قرارات إقتصادية سريعة وحاسمة تحت رعاية صندوق النقد الدولي وليشرب الحزب الشيوعي والبعثيون من البحر ، أو من النيل والفرات إن شاءوا. باختصار الآن ستتحكم جماعتا (الهبوط الناعم وحزب المزرعة) المتنفذتين بحكومة حمدوك وبانقلاب ناعم ستسيطر على مفاصل السلطة باسم شرعية الشوارع ( التي لا تخون) مدعومتان بحزب الامة والمؤتمر السوداني وتحت حماية ورعاية المكون العسكري وكل ذلك تحت عباءة إنفاذ مطالب الشارع، وسيقول الشارع مرة أخرى (شكراً حمدوك) وقتها لا سبيل للحزب الشيوعى وحلفائه إلا للبحث عن أسباب جديدة لتحريض الشارع ضد حكومة حمدوك وسيجدونها لكنهم قد يعودون في المرة القادمة إلى الشارع متأبطين الفلول ويا لها من عودة ويالها لعبة خطرة ما عندهم ليها حديدة .!!.

عادل الباز
اليوم التالي