أخبار السودان

الإثنيات في دارفور.. من صراع البقاء إلى التطلع للسلطة

الحركات المسلحة رهينة إغراءات الحكم والثروة في ظل غياب الانسجام بينها.

ندوب غائرة تروي مظالم الزمن والحروب
إقليم دارفور أمام مفترق طرق بين القطع مع ماض أليم صوره مخضبة بالدماء، ومستقبل لا يمكن التكهن بمآلاته على ضوء جهود السلام المتعثرة، والسباق الجاري بين أبنائه من حملة السلاح على ضمان مقعد في السلطة وحصة من الثروة.

يعد التنوع العرقي والإثني سمة بارزة في النسيج الاجتماعي السوداني وعنصر إثراء، غير أنه في محطات تاريخية عدة عايشها هذا البلد تحول إلى “لعنة” لجهة نوازع الهيمنة التي تسكن بواطن ذلك التنوع والصراع بين مكوناته على الموارد، إضافة إلى فشل الحكومات المركزية المتعاقبة في إدارته.

إقليم دارفور الواقع غرب السودان أحد أبرز الأمثلة الحية الذي لاحقته “لعنة التنوع” على مدى عقود، فقد دفع أثمانا باهظة جراء الصراعات والنزاعات بين مجموعاته الإثنية التي عمقتها السلطة المركزية في الشمال. اليوم بدأ هذا الإقليم المنعزل ينفض عنه غبار تلك النزاعات، ويطمح إلى ما هو أبعد من المطالبة بإنهاء عهود من التهميش والتمييز العرقي والهوياتي بين مكوناته.

هل سيتمكن فعلا إقليم دارفور من القطع مع الماضي ويحقق الهدف المنشود في الإندماج والمشاركة في صياغة القرار في مرحلة ما بعد نظام الإنقاذ؟ أم أن مخلفات ذلك الماضي الأليم وذهاب القوى المؤثرة داخله نحو الشخصنة، وهو ما كشفت عنه محادثات السلام الجارية في جنوب السودان، سيُبقيان جراحه مفتوحة؟

جذور أزمة إقليم دارفور ذي الغالبية المسلمة تعود إلى عقود خلت، في ظل شعور متنام بالتهميش لم يكن يطال فقط مكوناته غير العربية من قبائل الفور (وهي أكبر قبيلة غير عربية) والزغاوة، والمساليت، والبرتي والداجو والتنجر والهوسا..، بل وحتى القبائل العربية التي في معظمها من الرعاة وأبرزها الإبالة والمحاميد ومهريه وبني حسين، حيث كانت تلك القبائل تشعر بالغبن مقارنة بوضع بني عرقها من العرب في الشمال.

عمّق النزاعُ على الموارد “الشحيحة” حالةَ التقوقع وضخّم الإحساس بالانتماء العرقي والإثني على حساب شعور المواطنة لدى القاطنين في الإقليم، في غياب الدولة وتخاذل السلطة المركزية، التي ساهمت بشكل كبير في تكريس هذا الشعور، بداية حينما أدارت ظهرها لهذا الإقليم وحاجته للتنمية، ومن ثمة عبر اللعب على وتر الانقسامات بين أطيافه المتنوعة لاسيما خلال عهد الرئيس عمر حسن البشير (1989/ 2019)، من خلال الانتصار لطرف على حساب آخر.

نزعة التفوق العربي
بداية بروز معالم الصراع في الإقليم كانت في سبعينات القرن الماضي بين القبائل غير العربية التي اصطلح على تسميتها بـ “الأفريقية” ونظيراتها العربية التي كانت تسعى لتوسيع حزامها الجغرافي في ظل تراجع الموارد وتقلص المساحات الخضراء جراء التغيرات المناخية.

لا يخفى أن القبائل العربية كانت مسكونة بفكرة تفوق جنسها على باقي الأجناس في الإقليم، وتطمح لأن تكون بمنزلة بني عرقها في الشمال، وهذا شكل حافزا إضافيا للصراع الذي ازدادت حدته مع تمدد النزاع التشادي الليبي إلى أرض الإقليم، فيما كانت السلطة المركزية تكيل بمكيالين في هذا النزاع الذي عزز الندوب بين بني دارفور.

هناك اختلافات في السياسات والرؤى بين الحركات المسلحة، ووجودها تحت مظلة واحدة دائما ما يكون مؤقتا لتحقيق هدف سياسي

في ثمانينات القرن الماضي دخل الصراع في الإقليم مرحلة جديدة بتحالف القبائل العربية ضد الحكومة الإقليمية الفورية (قبيلة الفور) في العام 1987، وفشلت حينها جهود التسوية بين الطرفين ليحصد النزاع آنذاك نحو 3000 شخص.

مع الانقلاب الذي قام به تحالف هجين جمع جبهة الإنقاذ الإسلامية بقيادة الراحل حسن الترابي وقيادات عسكرية في العام 1989، انتعشت آمال البعض في دارفور لاسيما أولئك الذين أنهكتهم الحروب العبثية، إلا أن هذه الآمال سرعان ما تبددت ليحل معها شعور بالنقمة لاسيما مع توجه منظومة الإنقاذ التي تواجه حينها تمردا في جنوب السودان إلى تقديم دعم علني للقبائل العربية متخذة من هجوم للحركة الشعبية لتحرير السودان المؤلفة من عناصر من قبيلة الفور في دارفور في العام 1991 ذريعة لتبرير هذا الدعم.

تحول الصراع هنا من نزاع قبلي/ قبلي إلى صراع قبلي/ نظامي، حيث قام نظام الرئيس عمر البشير بتجنيد الآلاف من العناصر من القبائل العربية الدارفورية ومدهم بالسلاح، لم يقف البشير عند تلك الخطوة بل عمد إلى تغيير ديمغرافي في الإقليم من خلال تقسيمه في العام 1994 إلى ثلاثة قطاعات حيث كان الهدف إضعاف التمركز الديمغرافي لقبيلة الفور، بالتوازي مع تطبيق نهج اللامركزية وتمكين القبائل العربية من ولايات جديدة في غرب الإقليم وتحديدا في مناطق المساليت ما أشعل حربا بين الأخيرة والنظام امتدت إلى عام 2000 وأدت إلى وقوع الآلاف من القتلى.

الصراعات في دارفور لم تخل من تأثيرات ما يحدث داخل نظام الإنقاذ وحاضنته أي الحركة الإسلامية التي انشطرت إلى نصفين في العام 1999 بسبب خلافات بين البشير وعرابه حسن الترابي، حيث اصطف معظم المنتسبين للحركة في دارفور خلف الأخير فكانت النتيجة تعرضهم لعملية قمع وتنكيل من قبل السلطات الأمنية فكان أن شكلوا في العام 2001 ميليشيا مسلحة أطلقوا عليها اسم “حركة العدل والمساواة”.

العرق أقوى من الدين

تلا تشكيل “حركة العدل والمساواة” ظهور حركة مسلحة أخرى في دارفور في العام 2002 تطالب بدولة علمانية لإنهاء المظالم الكبيرة التي لحقت بالسودان وبخاصة دارفور وهي “حركة تحرير دارفور” التي أسسها المحامي عبدالواحد محمد نور ومني أركو مناوي في جبل مرة وسط الإقليم وأصبحت تسمى لاحقا “حركة تحرير السودان”.

لا يخفى أن هذه الحركة التي تنتمي قياداتها إلى قبيلة الزغاوة هي في واقع الأمر وليدة تجربة سابقة تعود إلى العام 1992، حينما قام المهندس داوود يحي بولاد الذي ينتمي إلى قبيلة الفور بالانسلاخ عن منظومة الإنقاذ والانضمام إلى الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون قرنق حينها، وشكل ميليشيا في دارفور صادحا بمقولته الشهيرة “لقد وجدت العرق أقوى من الدين”، لكن تلك التجربة أجهضت بعد أشهر قليلة باغتيال قائدها.

في العام 2003 أعلنت حركتا تحرير السودان والعدل والمساواة الحرب على النظام عبر شن عملية نوعية على مطار مدينة الفاشر عاصمة إقليم شمال دارفور، فأطلق البشير سراح أحد السجناء من أبناء دارفور، وهو ابن زعيم قبيلة المحاميد العربية موسى هلال (اعتقل في العام 2014 بسبب تمرده على النظام) ووفر له حينها الدعم العسكري واللوجستي لتشكيل ميليشيا مؤلفة من عناصر عربية أطلق عليها اسم “الجنجويد” (تحولت لاحقا إلى قوات الدعم السريع) ليعود الصراع مجددا إلى الدائرة الأولى أي نزاع عرقي عرقي ولكن هذه المرة بهندسة من النظام.

وعلى مدار الحرب في دارفور سعى النظام جاهدا إلى اختراق الحركات المسلحة وكان أن نجح إلى حد بعيد في ذلك بفضل دعم بعض القوى الإقليمية على غرار قطر حيث تمكن من استدراج حركة العدل والمساواة ذات النفس الإخواني لتوقيع اتفاق سلام في العام 2010، وكان سبق ذلك تفجر خلافات داخل حركة تحرير السودان التي انشطرت إلى نصفين في العام 2005 (بين جناح عبدالنور وجناح أركو مناوي).

وأدى النزاع الذي لم يسدل الستار عليه بعد بانتظار ما ستسفر عنه مفاوضات السلام الجارية، إلى مقتل مئات الآلاف من المدنيين وتهجير 2.5 مليون شخص (لا يزالون في مخيمات النزوح) واتهم البشير بسبب ذلك النزاع بارتكاب إبادة جماعية، وجرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية من قبل محكمة العدل الدولية.

سلام طال انتظاره

اليوم وبعد إسقاط نظام البشير في أبريل من العام 2019، يتطلع الدارفوريون إلى تحقيق العدالة ومحاسبة من أجرم بحقهم وإرساء سلام طال انتظاره، لكن هذه الآمال تبقى معلقة في ظل التردد الذي يطبع سلوك السلطة الحالية، والأخطر غياب الانسجام وتنافر الرؤى بين الحركات المسلحة الممثلة للإقليم في مفاوضات السلام الجارية وسط اتهامات لتلك الحركات بأنها حادت عن جوهر قضية دارفور لغايات ومصالح ضيقة.

ولعل انتفاضة المجتمع المدني في نيرتتي في دارفور خير معبر عن حالة الغضب والتململ المتزايد ليس فقط تجاه السلطة وعجزها عن حماية سكان هذه المنطقة المكلومة منذ عقود بل وأيضا تجاه الحركات المسلحة.

تقول الباحثة السياسية تماضر الطيب، إن انشغال الحركات المسلحة في دارفور بالسلطة والثروة جعلها تتناسى القضايا الأساسية للمواطنين في الإقليم، والفجوة الحالية بين الحركات والحكومة الانتقالية ترتبط بإرث قديم خلقه نظام البشير ولا تزال توابعه مستمرة حتى الآن، ما يجعل مطالب حركات دارفور تتعلق بشكل أكبر بتولي المناصب الاتحادية في حين أن المنطقي أن تنطلق من نفوذها داخل الإقليم.

وتضيف تماضر لـ”العرب”، أن استطلاعات الرأي التي ينشرها تلفزيون السودان الحكومي تشير إلى أن المجموعات المسلحة التي تفاوض الحكومة الانتقالية في جوبا لا تتمتع بوزن قبلي موازٍ في الداخل، وبالتالي فإن رؤية الحكومة للحل في دارفور والتي ترتكز بالأساس على التنمية من خلال الرقابة الأممية تبدو الأكثر فاعلية من الرؤى التي تطرحها الحركات وتتركز بشكل أكبر على السلطة والثروة.

ويسجل تعثر حاليا في مفاوضات السلام الجارية في دولة جنوب السودان بين الحركات المسلحة المنضوية ضمن “الجبهة الثورية” والسلطة الانتقالية، جراء خلافات بين الطرفين على جملة من القضايا الجوهرية التي تهم أساسا الترتيبات الأمنية واندماج تلك الحركات ضمن قوة عسكرية قومية، فضلا عن أنه ما تزال حركة تحرير السودان جناح عبدالواحد محمد نور خارج أطر المفاوضات حيث تشترط للمشاركة تسليم البشير وباقي المطلوبين في مجازر دارفور للمحكمة الجنائية الدولية.

يؤكد أستاذ العلوم السياسية بجامعة بحري في الخرطوم، أبوالقاسم إبراهيم آدم، أن غالبية الحركات التي سبق أن وقّعت على ميثاق تحالف “قوى الحرية والتغيير” (ممثل التيار المدني داخل السلطة الانتقالية) تحاول في الوقت الحالي الحصول على مكاسب أكبر من التي حققتها أحزاب الثورة وهو ما تستجيب له الحكومة باستمرار في محاولة لتضييق الخناق على أي تدخلات دولية جديدة في دارفور، ما نتج عنه نجاح الحركات المسلحة في الحصول على أربعة إلى خمسة مقاعد في الوزارة الاتحادية والتفاوض حول الحصول على 60 في المئة من إدارة الولايات الخمسة في الإقليم وما لا يقل عن 40 معقدا في المجلس التشريعي للحكومة الانتقالية.

يرجح آدم أن الحركات المسلحة التي لديها وزن قبلي نسبي في دارفور وتسيطر على مناطق تتمتع بالثروة ستكون لها الحصة الأكبر من المكاسب السياسية خلال الفترة المقبلة، وهو ما ينطبق على حركة جيش تحرير السودان بقيادة عبدالواحد محمد نور، بالإضافة إلى حركة العدل والمساواة التي يتزعمها جبريل إبراهيم، كما أن هاتين الحركتين تتمتعان بقواعد خارج الحدود تضفي عليها المزيد من القوة في الداخل.

وتحدثت بعثة الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي في دارفور “يوناميد” مؤخرا عن اقتتال بين فصيلين ينتميان إلى حركة تحرير السودان جناح عبدالنور، في جبل مرة ما أدى إلى نزوح الآلاف من المدنيين، وهو ما نفته الحركة لاحقا متهمة البعثة بالكذب. ويثير هذا التطور مخاوف من استمرار حالة التشظي داخل الحركات المسلحة الأمر الذي سينعكس بشكل سلبي على جهود السلام المتعثرة.

ويستبعد آدام أن تنجح الحركات المسلحة في التوافق مع بعضها البعض، لاسيما وأن التكتلات التي شكلتها منذ اندلاع الثورة بدأت في التصدع حالياً، وهو أمر منطقي لأن هناك اختلافات في السياسات والرؤى بينها، ووجودها تحت مظلة واحدة دائما ما يكون مؤقتا لتحقيق هدف سياسي.

وكان من المفترض أن يتم التوصل إلى سلام شامل في السودان في 20 يونيو الماضي، بيد أن مسار الأمور يشي بأن أن هذا السلام سيبقى معلقا إلى أجل غير مسمى ومعه مصير دارفور.

صابرة دوح /جريدة العرب

 

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..