مقالات سياسية

طعن الفيل في تصحيح المسار: الأداء الأمني

هشام عوض

لا يختلف وطنيّان على بؤس الأداء الأمني خلال ما انقضى من عمر الفترة الانتقالية، مما يتعدى مرحلة القصور حَسَن النيّة إلى مُساورة الشكوك بالعمل على أجندات خفيّة تهدف إلى تقويض التحوُّل، حيث أن مظاهر هذا السوء لا تحتاج لكثير تدليل، فهي بائنة في التوترات القَبَليّة ومُنغِّصات السِّلم الأهلي، وفي المجال المفتوح للتخريب الاقتصادي والتلاعب بالإمداد، وفي التعامل الأمني مع مسائل الانتشار الوبائي في بداياته سواء بالتساهل أو بتوفير معينات الحركة والاختلاط بالتزوير أو سوء استخدام التصاريح، وفي سلوك التخاذل العام. هذا الفراغ الأمني أدى أيضاً إلى استنزاف طاقة لجان المقاومة وتوطين الشك في حركة نقل البضائع وتوليد احتكاك بين الأهالي، كما ظهرت قوات الدعم السريع واستخباراتها على خط ملئ الفراغ أو ربّما اصطياد بعض القبول الشعبي من مائه العَكِر.

ومع أن أهمية هذا الملف لا تفوت على حصيف، إلا أن تصاعد الأزمات، مضافاً إلى الشكوى الشعبية سواء ما ظهر في بيانات لجان المقاومة أو في مطالب مليونيات 30 يونيو ثم أخيراً في اعتصامات دارفور، كل هذا لا يدع مجالاً للشك في كارثية الأداء الأمني والحاجة الطارئة للإصلاح، فجهازي الشرطة والأمن يوفران الأرض التي تقف وتعمل عليها أذرع الجهاز التنفيذي الأخرى، حيث أنه لا يمكن ضمان نجاح أي سياسات أو خطط مهما كانت مثالية بدون ضمان تنفيذ نشط للقانون على الأرض، وقصور أداء هذه الأجهزة يمكن أن يحول البرامج السياسية إلى مجرد تنظيرات على الورق وكلام في هواء المؤتمرات الصحفية، فكل انتشار واسع لأي نشاط مخالف للقانون لن تتوقف آثاره على المتضريين المباشرين فقط بل سوف تمتد وتؤثر على مجالات الحياة وسبل العيش. وكما أن حكم القانون هو أوّل لبنات السلام، تأمل آثار تهريب السلع المدعومة، الممارسات الاحتكارية، الفساد المالي وتزوير العملة على الاقتصاد، أثر الأمن المادي على النشاط الإنتاجي، إلى آخره من نوافل القول.

من المأمول أن تكون ثورتنا قد فتحت الباب لمشاركة شعبية أوسع وأعمق في رسم السياسات واتخاذ القرارات، ليأتي دور الإعلام وقادة الرأي في تلقف المطالب ووضعها في قوالبها المنظمة، ورفع مستوى النقاش المجتمعي باستصحاب آراء الخبراء والتجارب السابقة، إلا أنني أعتقد بأننا لم نحصل على الضوء الكافي في هذا المجال حتى الآن، لذلك، أود القيام بمحاولة بسيطة لحصر بعض معالم التعاملات المقترحة مع الإشكالات الأمنية القائمة مما يتم تداوله بصور متفرقة، علّها تسهم في زيادة زخم النقاش واستفزاز الخبراء للإدلاء بما هو أفيد. تم حصر النقاش هنا على الشرطة والأمن لعملهما المتداخل مع مجلس الوزراء وأداءه وحياة المواطن اليومية، يجب الانتباه للوضعية الخاصة لمناطق النزاع بحيث تشمل الاجراءات حلولاً لكل الاجهزة النظامية العاملة فيها على نحو عاجل، لتكملها الترتيبات الأمنية لاتفاقيات السلام المرجوّة.

بدايةً، يجب التأكد من أننا نعمل وفق هرم القيادة الصحيح، من البديهي أن نحتاج لضمان أن تكون السلطة المطلقة على هذين الجهازين بيد الجهاز التنفيذي، وهو الممثِّل –آنياً- للثورة والمؤتمَن على تنفيذ مطالبها. يجب أن يستلم الجانب المدني هذه الأجهزة ويراجع هياكلها الإدارية وتوزيع السلطات على مستويات الحكم الاتحادية والولائية على حسب رؤية متكاملة مبنيّة على دراسات معمّقة. وفي سياق تداعيات 30 يونيو 2020، أصبح فرضاً على رئيس الوزراء تنوير الشعب حول هذه المسألة بكل شفافية، وليس الاكتفاء بتعيين زيد بدلاً عن عبيد، الآن هي اللحظة الأخيرة لوضع النقاط على الحروف وتمليك الشعب المعلومات الكاملة حول: قدرة رئيس الوزراء على ممارسة الصلاحيات الكاملة، العوائق القانونية والعملية إن وجدت، وتفاصيل خططه المستقبلية بخصوص هذه الأجهزة.

أكثر الإشكالات تداولاً فيما يخص كل أجهزة الدولة هو مشكلة الولاء: ضباط النظام البائد، حيث أن هذه الأجهزة كانت عش الدبابير وأدوات القمع الرئيسية له، لذلك فقد اجتهد في ضمان اقتصارها على مخلصيه، ثم عمل على ضمان ثبات ولاءها عن طريق الامتيازات المختلفة من أموال وسلطات وتسهيلات وشركات. لذلك يجب مضاعفة مجهودات إزالة التمكين داخل هذه الأجهزة، و بحث الانتماءات السياسية، شبهات الفساد وكل ما يمكن له أن يؤثر على الولاء.

من الجوانب المهمة كذلك الثقافة المهنية للأجهزة النظامية التي تم تجريفها بصورة متعمّدة ومستمرة خلال العهد البائد، فأصبحت الخدمة العسكرية عنواناً لعقيدة العصابة وللامتيازات وإساءة استخدام السلطة من دون حساب، كما عمل النظام البائد على تضخيم قيم الفخر والتحيّز المهني بين منسوبي القوات النظامية كأحد مبررات بقاءه مقابل فوضى “الملكيّة”، حيث يتعدّى الفخر بالوظيفة مرحلة الاعتداد بالإنجازات ليصبح مقياساً للمواقف ومحدداً للرأي السياسي وسبباً للدعم غير المشروط، وقد قامت قوى النظام البائد المحتضرة باستغلال هذه الثقافة مرّة أخرى لإساءة تفسير شعار مدنيّة الثورة وتصويره كمضاد يحتقر العسكريّة، بدلاً عن المعنى الحقيقي الذي يشير إلى التوق إلى الديموقراطيّة وتثبيت منطق الحكم القائم على الإرادة الشعبية وليس القوّة العسكرية.

هناك من وسائل التدريب والتوعية الكثير مما يمكن أن يفيد في هذه الحالة مثل الدورات التدريبية واستخدام الوسائط الإعلامية والتوجيه المعنوي باستخدام أساليب علمية واستخدام الآداب والفنون أيضاً لاستنهاض الشعور الوطني وحس الوحدة المجتمعيّة والوطنيّة. ولكن مع ضرورة هذه الأساليب، فإنها محدودة الأثر في اختراق منظومة القيم المهنيّة التي تم نحتها في صدور الأفراد على مدى ثلاثة عقود، لذلك أعتقد أن الإصلاح المرجو في هذا المجال لا يمكن تحقيقه إلّا عن طريق ضخ دماء جديدة ثورية “شابّة ومؤهّلة” كما صرح بذلك رئيس الوزراء في بدايات 2020، فبالإضافة للخبرات التي سوف تجلبها هذه الدماء، سيكون لها الأثر الأكبر في مصاهرة هذه الأجهزة للثورة، ورفع مستوى الحس الوطني داخلها، وكسر منظومة القيم الشريرة عن طريق التفاعل الاجتماعي والنقاش وتقديم نماذج مهنيّة جديدة حيّة. ضخ هذه الدماء الجديدة وانخراطها في العمل داخل هذه الأجهزة سوف يقود إلى تسليط الضوء على مشاكل أخرى أكثر تخصصيّة، وسوف يرسم خارطة طريق جديدة تقود نحو المزيد من التطوير وخدمة الوطن.

لا بد أن يُراعَى التمثيل السكّاني في كل التعيينات وفي مراجعة أوضاع القوات القائمة، خاصة في مناطق النزاعات والتوترات، فمصالحة الأجهزة النظامية للأهالي تنطلق من كون هذه الأجهزة مرآة لمكونات المجتمع نفسه، مع العمل على تحقيق قدر كاف من التنوع يصب في طريق خلق بؤر وحدة وطنية داخل هذه الأجهزة.

لا تقليل ولا استعداء للعسكريين في هذه الدعوة، فالقوات النظامية مثلها مثل كل أجهزة الدولة -وحتى السوق- قد عانت ما عانت من تغول سياسات التمكين الكيزاني، ولأن عمل هذه الأجهزة عامل حاسم في تحقيق التغيير والوصول إلى الغايات المنشودة، وجب أن يكون هم الإصلاح هو هم كل الوطنيين، ولأن كل أجهزة الدولة ملك الشعب، وجب الرضوخ لإملاءات الشعب حول إصلاحها عن طريق ممثليه المدنيين.

تمت كتابة الأجزاء السابقة من هذا المقال قبل ورود الأخبار المؤسفة عن أحداث العنف حول اعتصام فتابرنو، التي تمثل تشديدا كنا في غنى عنه على أهمية ومحورية القضية موضع النقاش، وعلى واجب رئيس الوزراء بمخاطبة كل أبعاد الجانب الأمني بالعمق والشفافية التى تليق بمطالب المليونات واعتصامات دارفور. وبالرغم من تركيز السيد رئيس الوزراء في تعليقه على الأحداث على أهمية حكم القانون، أخشى أن الاستجابة العملية حتى الآن يمكن أن تُفسر كتحايل على مطالب الجماهير وطعن في ظل الفيل.

هشام عوض
[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..