أخبار السودان

صلاح حاج سعيد: شاعر المسافة، والحزن النبيل

صلاح شعيب

يعَدُ الشاعرُ الكبير صلاح حاج سعيد أحدَ الأصواتِ سالشعرية المُمَيزةِ في تراثِ الأغنيةِ السودانية. ولعله عاصر زمانين في مسارِ التطورِ الشعري الغنائي، إذ أسهم مع الجيلِ الذي برز في السبعيناتِ في تجييرِ الأغنيةِ لعاطفةِ المرحلة، ولكن صلاحاً تمكن في نهايةِ السبعينات أن يخطَ سطورا لتحديثِ الأغنيةِ مع ظهورِ جيلٍ متمردٍ على نسقِ القصيدةِ التي تُجيزُها لجنةُ النصوصِ الشعرية بالإذاعة. وعندما ظهر مصطفى سيد أحمد نجماً جديداً في سماءِ النغم وجد فيه مِساحةً ليبثَ خلالِها القصيدةَ المطمورةِ بلوعةِ الشجن، وهمِ القضية. ولما انقضت مرحلتا الثمانينات والتسعينات تمكن شاعرُنا في أن يتمددَ على فضاءِ تجربةٍ وارفةٍ من بستانِ صديقه الراحل الذي لحن له “المسافة” كأولِ عملٍ ينطلقُ به في عالمِ التلحين.

إن صلاح حاج سعيد – باسمه ذاتِ الجَرس الموسيقي الداخلي – يمثل بالنسبةِ لجيلنا محطَ الجمالِ الشعري الذي أدخلنا إلى مرحلةٍ غنيةٍ من تلقي المُفرَدةِ الشعرية التي تمتزجُ بالعاطفةِ المباشِرة، والرمزيةِ معا. وبرغم أنه من روُادِ الحداثةِ في الشعرِ الغنائيِ إلا أن تجريبه جاء ملتزما بموسيقى الشعرِ الذي استند عليه في إنتاجِه للمغنين الذين ظهروا في نهاياتِ الستينات والسبعينات. وبهذا المستوى فهو يمثل مرحلةً وسطى بين البداياتِ الشعريةِ العاطفية التي رددها مصطفى وبين التلوينِ الحداثيِ الذي رسمته عدةُ قصائد لصديقيه الحميمين الشاعر يحيي فضل الله، وقاسم أبو زيد. وهذه الثلاثية الشعرية هي التي قفزت أولا بنصِ مصطفي سيد أحمد إلى ملامسةِ القضايا الوجوديةِ للسودانيين، والتي عبر عنها صلاح من خلالِ أكثرِ من عَشرِ أغنياتٍ لحنها، وغناها، مصطفى سيد أحمد، وهذا موضوعُ لمقالٍ آخر سيأتي لا شك.

صلاح من مواليد الخرطوم حيث درس فيها الأولية والمتوسطة في الخرطوم شرق، والخرطوم الأهلية الوسطى، وكذلك درس في مدرسةِ جمال عبد الناصر. وقد تخرج في كليةِ الحقوق، ومارس مِهناً متصلةً بالقانون في مؤسسة التأمينات الاجتماعية التي أصبح يوما مديرا لها.

ولعل أول من قطف الثمارَ الناضجة في حديقةِ شاعرنا الغنائية المخضرة بالعاطفة والشجن*، كان الفنان محمد ميرغني في نهايةِ الستينات بقصيدةِ “بعدك وحيد”، ثم لاحقا “ما قلنا ليك” و”لو كان عصيت أمرك أنا”.

تعاون شاعرُ “الحزن النبيل” مع الملحِنين حسن بابكر، ومحمد سراج الدين، في جملةِ من الأعمال كانت من نصيبِ الفنان عثمان مصطفى الذي غنى له “البينا ما ساهل” و”صدقني” لحسن بابكر و”موعود” لمحمد سراج الدين. وهناك محمد ميرغني الذي لحن له حسن بابكر من أعمالِ صلاح حاج سعيد:

كفاية الوحدة ما بقدر طريقك تاني أمشيهو
هو أصلو العمر كم مرة عشان نقدر نهدر امانيهو. وتقول كلماتُ القصيدة الثانية:

ما قلنا ليك الحب طريق قاسي
وصعيب من أولو ما رضيت كلامنا
وجيت براك
اهو ده العذاب اتحملو

هذا بالإضافةِ إلى تعاونِه مع الطيب عبدالله من خلال “لقيتو واقف منتظر تشتاق عيون لطلعتو”. ومشوارُه مع البلابل تضمن نص “نور بيتنا”. وهذه المحطاتُ الغنائيةُ الرائعة لا يمكن تجاوزُها في مسيرةِ الشاعرِ القدير. وهي لا تقلُ روعةً عن تلك الإسهاماتِ التي قدمها لصديقِه الراحل مصطفى، وخلقت معه ما يشبه الورشةَ الفنية التي قدمت أسمى الأعمالِ الفنية لشعبنا الذي تقبل إبداعاتِ المعايشةِ الحميمة بين الشاعر الطفرة والملحن المغني المسكون بالوطن. وكذلك يستحضرُ الشباب الشاعرَ كتابةً في كراساتِ تواصلِ العشق، ورسما في جلودِ الفن، أو نقشاً في قطعةِ قمبيل أو أبنوس، وذلك لحلاوةِ معاني الصورِ الشاعرية، ورونقِها، ورقتِها.

الأستاذ صلاح حاج سعيد يُصنف ضمن الجماعاتِ الشعريةِ الحديثة التي جعلت من الغناءِ ساحةً خضراء لطرحِ المضامين، والأفكارِ، والقناعاتِ الوطنية، التي تعَبرُ عنا، وعن قسماتِ واقعنا في كلِ معطياتِه، ومنعطفاتِه. وأعطت جماعةُ صلاح حاج سعيد الأغنيةَ عبوةً نشطة، مضمخةً بالتأملِ، والانشغالِ بالإنسان ككائنٍ ذي هموم، وهذا ما أخرج أغنيةَ الثمانيناتِ والتسعينات من رتابةِ الخطابِ العاطفي الدائر حول المحبوبةِ كهمٍٍّ ذاتيٍ يحجزُ المستمعَ في زوايا ضيقةٍ، ولذلك لا يجدُ في الأغنيةِ ألوانًا من الصورِ الشعرية المتصلة بالمعرفةِ، والثقافةِ، والوعيِ بحقائقِ الحال الوطني.

إذ إن المستمعَ ما عاد مهموما بنصِ الحب وحدِه الذي لا يُشبع جائعا، ولا يروي ظامئاً، ولا يكسي ذا عري.

وهكذا يقفُ شاعرُ “المسافة” ضمن الأوائل الذين يقدمون النصَ الشعري الحصيف، والخالي من الابتذالِ، والركاكةِ، والعادية. لقد أصبحت القصيدةُ الموقعة باسم صلاح حاج سعيد مكسوةً بعاطفةٍ نبيلة، وجميلة تتعددُ في أفرعِها، حتى إن اتكأتَ على فرعٍ، أو دنوتَ منه وجدتُ نفسَك في قمةِ النشوة، ثم تبدأُ من جديد في مزاورةِ أفرعٍ أخرى فيها، وعندئذ تحتويك “المسافة” التي لا تقبل القسمةِ على الاستهلاكِ الآني:

لسه بيناتنا المسافة
والعيون واللهفة
والخوف والسكون
ورنة الحزن البخافا تعدي
بالفرحة وتفوت
وأمشي بالحسرة واموت

صلاح حاج سعيد شاعرٌ كبير وحياتُه تملؤها الرهافةُ، والحسُ، والجمال، ولذلك قال:

كان نفسي أقولك من زمان
بالكاتمو في سري ومكتم في حشاي
مدسوس سنين
بالشايلو في عيني معزة
وفي القلب ريدا يخاف الغربة والشوق والحنين
زاملني زي خاطر الفرح
وكتين يقاسم الهم عزا
وكتين مدامعي تكون جزا
وتفتح مباهج الليل ظنون.

عبر المحيطِ نرسلُ تحياتنا للصديق الشاعر صلاح حاج سعيد، ونحملُ بشدةٍ على هاتيك النجيماتِ البعيدة أن تبعثَ له بباقةِ ورد تنبي عن حبنِا له، وأملنا أن يمنَ الله عليه بالشفاءِ من كلِ سقمٍ، ويُحيطُه بدوامِ الصِحة.

صلاح شعيب
[email protected]

‫2 تعليقات

  1. أليست “من غير ميعاد” للأمبراطور وردي من كلمات الأستاذ صلاح، أظنها كذلك وإظنها أجدر بالدكر

  2. كذلك رائعته “ياجميل يا رائع ” التي تغنى بها الرائع دوماً الاستاذ الموسيقار ( الباشكاتب ) محمد الامين

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..