
• بل بلغت التراجيديا ذروتها حين قدّم المستعبَدون من يحاول تحريرهم إلى مستعبديهم لينتقموا منه ، كما حدث للمناضل الكوبي تشي جيفارا.
• و مع أن خبراء النفس الإنسانية لا يعدمون تبريراً للظاهرة الأخيرة هذه ، إذ يتعرض المستعبَدون مع مرور الزمن و تطاول الأجيال إلى (غسل مخ) يجعل عبوديتهم هي الأمر الطبيعي بالنسبة إليهم، و يجعل الخروج منها أمراً أشبه بـ(القفز إلى المجهول)، مع ذلك ، إلا إن تناول هذه الظاهرة المحيرة توقف عند حدود التبرير النفسي دون بحثٍ في سبل العلاج و تأهيل المستعبَدين ليقبلوا بالحرية و يدفعوا ثمنها ..
• أثبت الكثير من مؤرخي فترة الحكم الإنجليزي على السودان ، (بل حدثنا أجدادنا الذين شهدوا تلك الأحداث) أن قرار الحكومة الإنجليزية في السودان بإبطال الرق و تحرير العبيد، أوائل القرن الماضي ، شهد صعوبات كثيرة ، بعضها تمثل في رفض الكثير من العبيد للحرية الممنوحة لهم ، بمبررات مثل : (نسيب أسيادنا و نقبِّل وين؟؟).. (نعيش كيف؟؟) .. ناكل شنو؟ إلخ إلخ..
• في الحقيقة ، قد يبدو منطقياً بعض الشيء أن يرفض شخصٌ ما تغيير وضعٍ اعتاد عليه منذ مولده و حتى شيخوخته ، و الأكيد أن القرار نفسه ربما كان ناقصاً آنذاك إذ لم يُراعِ أو يضع الحلول لتعقيداتٍ كثيرة كان من شأنها أن تعترض تنفيذه ، خصوصاً لدى كبار السن من العبيد من الجنسين ممن لم يجربوا الاستقلال بحياتهم أو تدبير شؤون معاشهم بأنفسهم ، و هذا – على أية حال – ليس شاغلنا الآن ، ما يشغلنا حقاً هو بروز هذه الظاهرة اليوم ، في السودان ..
• لا تتساءل مندهشاً ، لا تقل لي “أين العبيد اليوم ، و أين الأسياد؟”.. فالحقيقة التي نعلمها جميعاً و نتغابى عنها هي أن الحزبين الكبيرين في السودان قاما أساساً على ما يشبه (عقد) عبودية بين (السيد) – و الذي ، للدهشة ، ما يزال يحمل اللقب نفسه ، لقب “سيد” – و بين “الأتباع” ، الذين تم تلطيف اللقب المشير إليهم ، إلى أتباع “بدلاً عن عبيد” .. و لكن التفاعل بين المذكورين ما يزالُ يتمثل في عقد عبودية كامل، يقضي بالطاعة المطلقة و غير المترددة و غير المتسائلة عن العلة ، من الأتباع للسيد ، حتى إذا ارتكب السيد أخطاء كبيرة و واضحة ، يتولى الأتباع تبريرها تبريراً (ميتافيزيقياً) ..
• في الحقيقة ، لم يتوقف “عقد العبودية” في السودان على الحزبين التقليديين ، بل تعداهما إلى أحزابٍ أخرى، خصوصاً العقائدية منها ، و بشكل أكثر تحققاً في الأحزاب التي اتخذت الإسلام السياسي مرجعية لها، و لكن العبودية هنا اتخذت شكلاً ماكراً ، تمثل في ادِّعاء “السيد الإفتراضي” الوكالة عن السيد الأصل ، الذي هو الله سبحانه و تعالى ، فالطاعة هي – إسمياً فقط – لله تعالى ، و لكنها في الحقيقة هي طاعةٌ مطلقة للسيد الذي لم يعد يتخذ لقب “سيد” ، بل يتخذ غالباً لقب “أخ في الله”.. و لكن أخٌ أكبر و أعلم من بقية “الإخوان”.. (هل قرأتم رواية الكاتب المستبصر الرائع جورج أورويل “1984” ؟؟ من يقرأ هذه الرواية الهائلة ، و التي كتبت في – أظن – ثلاثينيات القرن الماضي ، سيرى بكثير من الدهشة أن الكاتب الإنجليزي الراحل كان كأنما ينظر إلى فترة حكم المؤتمر الوطني في السودان، و هو يكتب روايته التي حاز بطولتها بلا منازع (الأخ الأكبر)، الذي يملك بيوت الأشباح و “كتائب الظل” و لا يعرفه أحد و لم يره أحد و يخافه الجميع و يدينون له بالعبودية الخالصة..)..
• الآن ، بل اليوم ، تجلس إلى رجل طيب، من أتباع أحد الحزبين التقليديين أو المؤتمر الوطني أو الشعبي ، تحدثه عن “سرقات” السادة لعرقه ، فيهبُّ فيك كالملسوع ، في دفاع عن السادة الذين لا يمكن أن يخطئوا.. تنظر إلى حاله البائس ، يسعى طوال يومه ليوفر لقمة طعام شحيحة لأسرته ، يدافر في “المواصلات” ، يعود إلى بيته مع أذان المغرب، يقول لك ، في يقينٍ ورع ، إن حاله البائس هذا هو قدرٌ من الله سبحانه و تعالى، و أن الذي اختار له “سيده” هو الله سبحانه و تعالى، و أن الذي يملك أحقية تغيير “البشير” أو “الصادق” أو “الميرغني” أو “فلان” هو الله وحده .. و أنه لا يملك من أمره إلا طاعة الأسياد لأنها من طاعة الله..
• هل ترى فرقاً حقيقياً بين العبد الذي تم تحريره في مطالع القرن الماضي ، فرفض مغادرة سيده لأنه لا يعرف كيف يعيش ، و بين هذا العبد الطيب ؟؟؟
[email protected]
السلام عليك يا استاذ/ على يس
هذا المقال يعكس حقائق تجريبية من اراد التحقق منها سوف يجدها كما ذكرتها انت , زمان كنت كثير التامل فى عبارة ” تحرير السودان” التى تبنتها الحركة الشعبية فى اسمها, هذه العبارة تضعنى وضع الدهشة المفضية للبحث المستمر ,حتى جاء يوم قال فيه جون قرنق فى محاضرة مع جيشه متسائلا ” السودان يحرروه من شنو و من منو” فزادت دهشتى الى اصبحت باحثا فى مجال السلام و التنمية البشرية , فتوصلت الى الحقائق التى ذكرتها انت, انا ارى ان ثورة سمتبمر من المفترض ان تكون لتحرير المجتمع من الخزعبلات و الوعى الزائف.
لا أرى أي فرق