
حينما تتكاثر مراكز وماكينات تزوير العملة الوطنية (المكتشفة حتى الآن) لتصل الى العشرات، فهذه ليست مشكلة اقتصادية يمكن حلها بواسطة السياسات المالية والنقدية الكلية، وانما هي مشكلة امنية كبرى تتعلق بتطبيق القانون وبتواطؤ او تخاذل الجهات المتعلقة بتشريع القانون وكشف الجريمة واتخاذ الاجراءات القانونية حيالها.
وحينما تكون الدولة مفلسة لناحية احتياطيات النقد الأجنبي الذي تحتاجه بإلحاح لتحقيق استقرار العملة و لإستيراد القمح والدواء والوقود واجهزة المستشفيات وقطع غيار محطات توليد الكهرباء والمياه ومعالجة النفط فلا تجد، بينما حصائل الصادر التي تتجاوز 15 مليار دولار سنويا تذهب جميعاً الى جيوب شركات ذوي النفوذ والبأس، فهذا يعني اننا بصدد أزمة قانونية تجعل الحكومة محكومة وعاجزة عن الإمساك بزمام ادارة البلاد حسب النظم المألوفة.
وحينما تتولى المؤسسات العسكرية (الجيش والأمن والدعم السريع والشرطة) القيام بنشاط المدنيين ( الملكية) بيعاً وشراء في سوق الله اكبر ويصلون حد المضاربات في العملة والمحاصيل وتصدير السلع واستيرادها بينما وزارة المالية فقيرة ترجو منحها نصيباً ولو قليلا من موارد البلاد المستنزفة من جانب المسلحين بعيدا عن عين الرقيب ورأي المراجع العام وخلافاً للنظم والاعراف المتبعة في اية دولة اخرى محترمة، فهذا يعني فوراً ان ثمة عبثاً وبلطجة قانونية تنشب اظفارها.
وحينما يكون سعر السوق الاسود للعملة وللسلع الاساسية والاستراتيجية هو السعر الرسمي المهيمن باعتراف وزارة المالية بينما سعر الحكومة كلاماً فارغاً بإقرار الحكومة نفسها بدليل انها تعترف بتجار العملة وتعقد معهم الصفقات وتسلمهم الجمل بما حمل وتشتري منهم الدولار بالسعر الذي يحددونه هم ويجبرونها عليه… فهذا مالم يسبقنا إليه أحد من العالمين حتى في مجتمعات ماقبل النظم المصرفية، مما يعني استباحة القانون والحكم علناً واحتقار سلطة الدولة من جميع الأطراف.
وحينما يكون مرتب الوزير 150 ألف جنيه لأن بيده القلم والسلطة بينما مرتب المعاشي المسن الذي خدم الشعب عقوداً بأمانة وذمة واخلاص حينما كان الوطن وطناً هو 5 الف جنيه فبتأكيد هنالك خلل كبير في اسس ومنطق تشريع القوانين بل وهنالك تعمد لممارسة الظلم بواسطة القانون وطبعاً ليس هنالك أسوأ من هكذا وضع قانوني مبتذل.
وحينما تستخف الحكومة بخطورة التمادي في طباعة العملة بلا غطاء وبلا قواعد ومعايير مرتبطة بحجم الناتج الاجمالي فهذا يعني العبث و اهمال اللوائح والاستهانة بالقانون وعدم الاعتراف به اصلاً.
وحينما يتنازل رئيس الوزراء طوعاً عن مهمته وسلطته التي جيء به من اجل ممارستها وهي ادارة الازمة الاقتصادية الخانقة ويسلمها لقائد الدعم السريع ليتصرف بمعرفته بوصفه صاحب النفوذ الحقيقي المستحوذ على المال والثروة والشركات والقوة فهذا لعمري يشف بجلاء عن ازمة دستورية وتهرب قانوني وتطبيع أو تكيف مع الحالة اللا قانونية.
وعليه فإن ازمتنا الاقتصادية المعقدة ومعها ازمتنا الاخلاقية مصدرها ليس الفشل او العجز في تطبيق فنيات ونظريات ادارة النشاط الاقتصادي الكلي للبلاد وانما تكمن الأزمة بشكل رئيس في الجانب القانوني من حيث ارادة ووعي المسؤولين تجاه التعامل مع التشريعات من حيث دواعيها وتطبيقها واحترامها واتباعها والالتزام بها والزام الجميع بعد ذلك. وهذا غير متأتٍ لا من قريب ولا بعيد.
المستشارون والخبراء يطوقون اصحاب القرار ويوفرون لهم الغطاء حين يتلاعبون بالقانون ويبرعون في ايجاد وسائل تغبيش وتطويع القوانين واللوائح والالتفاف على اهدافها التنظيمية لتصبح النتيجة كما ترون ..حالة اللا قانون واللا دولة واللا سيطرة على الأزمات المتفاقمة يوما بعد يوم.
هذا هو مربط الفرس ومكمن الازمة.
المستشارون (المزمنون) يقومون الآن بدور الكهنة في القرون الوسطى. يتحكمون في القرار ويوجهونه حسب رأيهم استنادا الى لوائح وتشريعات اما انها فاسدة في الأصل ومن اساسها او يتم تطويعها بصورة سالبة لتمرير القرار الضار. او يمنع بها القرار البناء الذي يمس اصحاب المصالح والنفوذ او يتم تطويعها لايجاد الغطاء القانوني الزائف من اجل ارضاء المسؤول ومداهنته.
وإلا فقل لي كيف تمت عمليات الفساد التي استشرت طوال عهد الانقاذ و التي اكتشفتها لجنة ازالة التمكين؟ أليس باستغلال ثغرات القانون والتلاعب به من اجل التغطية القانونية لما ليس قانونيا؟.
إنه الفساد بالقانون الذي يمارسه العديد من المستشارين والمحامين مع سبق الاصرار.
انظر لفساد التجنيب الذي استنزف ايرادات الخزينة العامة بواسطة تصرفات وزارة الكهرباء والداخلية وغيرهما هل تم ذلك بدون تكييف والتفاف وغطاء قانوني زائف قام به خبراء تلك الجهات لتمكين رؤسائهم من المال العام؟
وتمويل المؤتمر الوطني من خزينة الدولة بواسطة شركات ومنظمات الواجهات أليس هذا تصرفا قانونيا قام به مستشارون للتغطية والتعمية واصطناع المشروعية مثله مثل تحويل المزارع الى قطع سكنية فاخرة عبر مبدأ التحسين ليمتلك شخص واحد مائة قطعة درجة اولى خلال سنتين من التحايل ( القانوني).
انه الفساد بالقانون.
نعم المستشارون القانونيون هم كهنة هذا الزمان.
هم الخبراء المرجعيون في ديوان الرئاسة وفي الوزارات والمؤسسات الحكومية الكبرى هم الذين يديرون الدولة ويوجهون القرار في هذا الاتجاه او ذاك باعتراضاتهم وتوصياتهم وتحذيراتهم. وبالتالي فهم من صنعوا واقعنا الاخلاقي والاقتصادي والسياسي الراهن بصورة غير مباشرة كالكهنة في الانظمة الثيوقراطية.
حسناً، الآن نحن في ثورة.. والاصلاح يجب ان يبدأ من هذا القطاع سدنة وسدانة النظام البائد.. لابد من تغيير المشرعين وتغيير الخبراء القدامى الذين كرسوا فساد الانقاذ وقننوه ما فتئوا يقدمون الخدمة السالبة ذاتها في كافة اجهزة الدولة.. ينبغي استبدالهم بعلقيات نظيفة ونزيهة وجديدة ومن ثم تغيير التشريعات والالتزام بها باتجاه وضع الأمور في نصابها وبعدها يمكننا تطبيق ما شئنا من النظريات الاقتصادية في بيئة صالحة قانونيا ومؤسسياً.
د. محمد عبدالقادر سبيل
الامارات



