مقالات سياسية

الخمور بين القانون والأخلاق (10)

النور حمد

لا يصح في عصرنا الراهن أن تُصدر دولة ما تشريعين مختلفين لمواطنيها مبنيين على أساس الدين. هذا منزلقٌ أدخلتنا فيه قوانين سبتمبر الشوهاء، التي جبُن مشرعونا عن إلغائها خوفًا من بعض المتشددين الجهلاء، الذين يهتمون بالمظهر الخارجي الكاذب ويتعامون عن حقائق الواقع وجوهر مقاصد الدين. لقد سبق أن ذكرنا، أن المنع الذي جرى في سبتمبر 1983 لم يغير شيئا. فالخمور البلدية ازدهرت صناعتها، وأصبحت منتشرة في مكان. وأصبحت لها شبكات اتجار سرية، بالغة الضخامة. وهي بالإضافة إلى أن تصنيعها لا تحكمه معايير علمية تحدد نسبة الكحول، فقد دخلت في صناعتها المواد الكيميائية الضارة. من يهللون للمنع يتجاهلون المضار الصحية للخمور البلدية، ويتعامون عن عالمها السري، بالغ الضخامة. بعضنا يرضون بغش أنفسهم أن الخمر ممنوعة. يهتمون بمنعها مظهريًا، ويتجاهلون حقيقة أن تعاطيها قائمٌ بل ومتفاقم، وأن أضرارها أصبحت أفدح من أي وقت مضى.

لقد حرم الإسلام السكر وأوقع عليه العقوبة، كما جاء فيما أوردناه عن الخليفة عمر، رضي الله عنه، وعن ذلك الشخص الذي سكر واحتج بأنه شرب من نفس القِرْبة التي يشرب منها عمر. فرد عليه عمر: “إنما أضربك على السكر”. تجريم السكر وإنفاذ العقوبة عليه، هو الذي يجعل المسلم وغير المسلم سواء أمام القانون. يضاف إلى ذلك أن السماح لغير المسلمين باستيراد الكحول وصناعتها يخلق إشكالات عملية كثيرة. فلنفرض، مثلاً، أن شخصًا غير مسلم يصنع الكحول في منزله، أو أنه يستوردها، لكنه تعدى حدود السماح له، وشرع في بيعها لغير المسلمين، فهل يملك القانون طريقةً عمليةً فعالةً للسيطرة على ذلك؟ وإذا جرى القبض على مسلمٍ يتناول الكحول، لكنه لكي يتجنب العقوبة ادعى أنه غير مسلم، فماذا سيصنع القانون معه؟ خاصةً أن قانون الردة قد أُلغي. وأنا هنا لا أتباكى على إلغاء قانون الردة، فإلغاؤه إجراءٌ صحيح؛ دينًا وعقلاً، مأ أريد أن أقوله هو أن القضاء سيجد نفسه عاجزًا عن فعل أي شيء لشخصٍ كهذا. ولا ينبغي أن نستبعد ظهور أشخاص من هذا النوع، فهم موجودون الآن، ويتزايدون. وجود قانونين للمواطنين يحوِّل التقاضي إلى مهزلة ويجعل من القانون أضحوكة.

الدولة الراشدة هي التي تطلب من جميع مواطنيها، بغض النظر عن دينهم، أو ثقافتهم مستوى محددًا من السلوك المنضبط في المجال العام. بعبارة أخرى، ينبغي أن يكون السكر جريمةً بالنسبة للمسيحي والوثني واللاديني والمسلم، سواءً بسواء. فتطبيق القانون وتثبيت فعاليته هي جزء من القانون، وهو ما يسمى law enforcement. فالقانون الذي يتعذر تطبيقه عمليًا ليس سوى حبر على ورق. وما دامت سلطات القانون لا تستطيع شرعًا دخول بيوت الناس، فإن منع الشرب يصبح بلا معنى. حين يكون القانون موحدًا تستطيع الدولة أن تبني منظومة قيم موحدة، تشمل جميع مواطنيها بلا استثناء. فالدولة لا دخل لها فيما بين الفرد وربه، ولا ينبغي، إطلاقًا أن نخلط ما بين الفرد وربه وما بين الفرد والمجتمع. أعتقد أننا بسبب حرصنا على التدين المظهري الكاذب، ندخل أنفسنا وديننا في جحرٍ ضيق. نحن بحاجة إلى أن نفهم الإسلام على نحو أفضل، وأن نشرِّع لعصرنا بعقلانية، وأن نوائم بين مقاصد الدين وواقع حياتنا، وأن نسترشد بالمفيد من تجارب الشعوب.
(غدًا المقال الأخير من هذه السلسلة)

النور حمد
صحيفة التيار 26 يوليو 2020

‫4 تعليقات

  1. إقتباس//إن المنع الذي جرى في سبتمبر 1983 لم يغير شيئا. فالخمور البلدية ازدهرت صناعتها، وأصبحت منتشرة في مكان. وأصبحت لها شبكات اتجار سرية، بالغة الضخامة. وهي بالإضافة إلى أن تصنيعها لا تحكمه معايير علمية تحدد نسبة الكحول، فقد دخلت في صناعتها المواد الكيميائية الضارة. من يهللون للمنع يتجاهلون المضار الصحية للخمور البلدية، ويتعامون عن عالمها السري، بالغ الضخامة. بعضنا يرضون بغش أنفسهم أن الخمر ممنوعة. يهتمون بمنعها مظهريًا، ويتجاهلون حقيقة أن تعاطيها قائمٌ بل ومتفاقم، وأن أضرارها أصبحت أفدح من أي وقت مضى…إنتهي

    أعلاه مجرد إنشاء لا يسنده دليل….علي العكس تماما ، جني المجتمع السوداني بقرار المنع كل الخير وأقلها لم يذهب الطلبة إلي مدارسهم صباحا ليروا أستاذهم يترنح من فرط تأثير الثمالة … كن أمينا في سردك للحقائق ، لقد جنينا كل الخير من قرار منع شرب الخمر ، أكرر كل الخير

  2. يبقى السؤال هو ما هو تعريف السُّكْر؟ هل هو رائحة الخمر تفوح من شاربها وهو خارج منزله أو مكانه الخاص؟ أم بقياس نسبة الكحول في دمه وهو في مكان عام أو الشارع العام سائقاً سيارته ؟

  3. المشرع السودانى اخطأ فى تشريع قانون الخمور لانه اراد ان يصنع مدينة فاضلة (مما ادخله فى ورطة المواطنة )او (يوتوبيا) والسبب يرجع للاتى:
    لماذا تعد فكرة «يوتوبيا» خطرًا على البشرية؟
    قضية المجتمعات المثالية والمدن الفاضلة، وسعي الإنسان عبر التاريخ نحو الوصول لهذه الصورة، والتي يتم الإشارة إليها دائمًا بـ«يوتوبيا».
    تسمية يوتوبيا والتي تعني اللامكان، كاسم للمدينة الفاضلة، وهي النموذج الذي يسعى الإنسان (غير الكامل) من خلاله للوصول للمثالية على المستوى الشخصي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي، إلا أن محاولات الإنسان في هذا الاتجاه دائمًا ما باءت بالفشل.
    لماذا لن تتحقق يوتوبيا؟
    تبدو تلك الأفكار براقة للغاية، ولكن المشكلة تبدأ بالتحديد عند محاولة تطبيقها، وهو ما يقودنا نحو الجانب المعاكس تمامًا، أو كما أُطلِق عليه «ديستوبيا»، أو المدينة الفاسدة، التي تمثل الفشل والظلم في الأنظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والتي ربما تصبح نتيجة لحلم غير واقعي مثل المدينة المثالية.
    أن المعضلة تكمن بالأساس في تصميم مجتمع مثالي بلا أخطاء لكائنات غير مثالية، ووقوعها في الخطأ أمر حتمي، بالإضافة لاختلاف البشر عن بعضهم واختلاف تطلعاتهم، ما يقودنا إلى أن وجود مجتمع ما ذا صورة معينة واعتبارها الصورة الأفضل ليس أمرًا صحيحًا، بل ربما يكون هناك صور متعددة لما يمكن أن نسمية بـ«المجتمع الأفضل».
    من بين أكبر المعضلات التي تواجهها يوتوبيا هي فكرة النظام الاجتماعي ونظريتها الاجتماعية القائمة على الملكية الجماعية، والحكم السلطوي، والعمل من أجل المجتمع، وهي الفكرة التي تتنافى مع طبيعة الإنسان التي تسعى للحرية الفردية وحرية الاختيار. يضاف إلى ذلك الفروق الشخصية بين البشر وبعضهم في القدرات والاهتمامات والأولويات، والذي يؤدي بالضرورة إلى نتائج مختلفة إذا ما أدوا نفس العمل، وهو ما لا تتسامح معه قواعد يوتوبيا.
    كان ذلك بالفعل هو ما حدث في محاولة البشرية لتأسيس مدينة فاضلة في القرون السابقة، إذ يقول أحد مواطني هذه المدينة أنهم حاولوا جميع الهياكل التنظيمية والمؤسسية لإدارة مدينتهم الجديدة، إلا أن النتيجة دائمًا كانت واحدة، وأنه يبدو وأن ذلك الاختلاف بين البشر وتنوعهم دائمًا ما يتضارب بشكل ما مع صورة الجماعة التي تريد يوتوبيا تأسيسها.
    إنه علينا ألا نغفل أيضًا احتمالية تحول الحالمين بمدينة فاضلة إلى «ديستوبيين» يملؤهم الشر، إذ إن تصرفات الإنسان هي نتيجة لما يعتقده، وبما أن يوتوبيا تمثل الجنة بالنسبة للحالمين بها، فلن يتوانَ أحد هؤلاء عن فعل أي شيء لمن يقفون في طريق وصوله أو من يحب إلى هذه الجنة، وهو ما رأيناه عبر التاريخ في الحروب الدينية على وجه التحديد، والتي شهدت عمليات قتل وإبادة وحشية.
    من الناحية العلمية، يمكن تشبيه هذه الأمر بـ«معضلة الترولي»، والتي تفترض أن ثمة خط للسكك الحديدية مربوط عليه خمسة أشخاص وهم مسلوبو القدرة على الفكاك، وأن قطارًا يمضي إليهم، بينما يوجد شخص «س» ليس إلا مارًّا ولكن بيده أن يستخدم آلة التحويلات ليتخذ القطار المسار البديل مُنقذًا بذلك الأشخاص الخمسة، ولكن هناك مشكلة أخرى وهي أن عاملًا يوجد على الخط البديل. في هذه الحالة، إذا لم يفعل ذلك الشخص شيئًا، فسيموت هؤلاء الخمسة، وفي حالة قام بتحويل الخط، فسيكون مضطرًا لقتل العامل.
    أغلب الناس يختارون قتل شخص واحد بدلًا من خمسة، حتى أولئك الذين يعيشون في الدول المتحضرة ويحملون القيم الغربية. إذا تخيلنا سهولة إقناع هؤلاء بقتل هذا الشخص، فبالتأكيد سيكون الأمر أسهل بكثير لدى إقناع شخص يعيش في مجتمع استبدادي، ويحمل أحلام يوتوبيا، بقتل 1000 أو 5000 شخص، حتى يعيش 5 ملايين آخرين في تلك الحياة المثالية.
    حسنًا، ما الحل إذًا؟ ما هو البديل ليوتوبيا؟ الإجابة هي «بروتوبيا»، وهي السعي تدريجيًا نحو أن نصبح بشرًا أفضل، وليس أن نصل إلى الكمال، بروتوبيا هىا «بروتوبيا هي دولة أفضل من أمس ومن اليوم، على الرغم من أنها قد تكون أفضل بمقدار ضئيل للغاية، وهو ما يجعل أمر تخيلها أصعب، لأنها سيكون بها مشكلات جديدة بقدر ما فيها من مزايا».

  4. فهمت من مقال الدكتور أن المشرع ينبغي أن يعاقب على السكر لا شرب الخمر وحديث الرسول عليه الصلاة والسلام كان واضحاً أن كل مسكر حرام سواء خمر أو طعام أو حشيش أو أيا كان وقال حسماً للمسألة في شأن التحريم للخمر قال عليه الصلاة والسلام “ما أسكر كثيره فقليله حرام” بمعنى ولو كأس واحدة من الخمر أو حتى لو كان خمراً نسبة الكحول فيه قليلة فهو حرام شرعاً.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..