مقالات وآراء

كفى

مسمار السقيد

اسستعصت عليّ الكتابة طوال الشهور الممتدة منذ ديسمبر 2018 حتى يومنا هذا؛فقد كنت اتابع مسيرة الثورة فى صعودها وانحسارها عبر الوسائط ،والعقل مرتبك والقلب مشتعل والمشاعر تملؤ الجوانح فتفيض غضباً ودمعاً يصعب احتباسه،وأنا اردد مقولة حكيم قريش ” ليتني كنت فيها جذعا”. ذلك لم يمنعنى من أن أغبر قدمي مرة ” خرمة البمبان على قول دكتور عبدالله على إبراهيم” فقد نزلنا الشوارع – ونحن لم نبلغ الحلم بعد – بعد مضى أقل من ثلاثة شهور من دخولنا مدني الثانوية مفتتحين مظاهرات أكتوبر 64.ومن يومها كان النضال السلمى في الشارع ؛تمت مطاردتنا بالخيول وكرابيج العنج والبمبان وتم ضربنا بالرصاص الحي أثناء تشييع جنازة المرحوم أحمد يوسف عبيد في العام 1982 مروراً بمارس أبريل حتى بداية الإنقاذ إحتجاجاً على إغتيال الشهيد بشير الطيب في جامعة الخرطوم.

وقد وجدت فيما كتبه بعض الكتاب اثناء مسيرة الثورة تعبيراً لما كنت أفكر فيه وقد أدهشنى تطابق الرؤى وسرنى أننى لست وحدي الذي يفكر”افكر هنا من باب أنا أفكر إذن أنا موجود”: فقد أعجبني تشبيه الثورة بالنهر ؛ فقد شاهدت مندهشاً صراع النهر والجبل عند خانق الدما زين، حيث بني الخزان، من عند ضاحية قنيص :النهر ينحدر بقوة من اطراف الهضبة الحبشية نحو هدفه البعيد فى الشمال ” النهر أيضاً يجري لمستقرٍ له” والجبل يقف امامه في رسوخ بليد، فيأتيه النهر من بين يديه ومن خلفه عاماً بعد عام لآلاف السنين محدثاً أخاديد عميقة طويلة ليحتوي بها إمتدادات الجبل حتى تمكن من تشكيل المجرى الذي نراه الآن تاركاً الجبل من ورائه كتلة من أضراس نخرة.

كانت هنالك إشارات لطائر الفينيق ولهذا الطائر الأسطوري دور مهم في الفكر الديني عند سكان وادي النيل القدماء خاصة فيما يتعلق بمفهوم الزمن :كان اولئك العظماء يعتقدون بأن الزمن يسير فى شكل دائري –على عكس نظرية سهم الزمن التي يسير فيها الزمن في إتجاه واحد إلى الأمام- وأن الأحداث والحضارات تسسير فيه وعليه من الصعود والإزدهار إلى الإنحدار أي من النظام إلى الفوضى. وهنا يأتي دور طائر الفيينيق الذى يجمع ذاته من رماد الفوضى مبشراً ببزوغ فجر النظام الجديد. وهكذا فإن طائر الفينيق قد صاح مبشراً بكلمتين فقط خفيفتين على اللسان ثقيلتين على الآذان التي صمّها اللغف “تسقط بس”. فتردد صداها فى الآفاق واستقبلتها النفوس المكلومة المتعطشة للنور على مستوى الكرة الأرضية بالدهشة الممزوجة بالإعجاب والأمل وأبلس الظلمة الجوف الذين كانوا في طغيانهم وغفلتهم يستعرضون كروشهم المنتفخة واطرافهم المتربربة .

كانت “تسقط بس”هي كلمة السر التي أخرجت مكنوناتها :خرج المارد واخرج من نيران الظلم زفير الغضب ،وبدأ بعض المتحمسين بإحراق أوكار الفساد فتدارك الحكماء الأمر وكان الشعار التاريخي “سلمية..سلمية” الذي احرق حذاء المشير ؛فكان أول العصبة الذي ادرك أن الامر هذه المرة مختلف.

ثم تبلور الطريق “حرية سلام وعدالة تحرسه الثورة خيار الشعب” وتفديه الدماء الطاهرة الي اهرقت لتروى شجرة الحرية الطيبة.
كان لديّ شعور حدسي عقلانى في خضم الأحداث الطويل بأن هذه الثورة قدراً مقدوراً وأنها ماضية الى غايتها المحتومة؛ وقداسعدنى صديقي دكتور عوض بابكر في حوار ساخن في منزله مع بعض الأصدقاء الجميلين أيام التجاذب الغبي حول السلطة بأنه كان دائماً ما يردد القول الماثور “دعوها فإنها مرسلة”. سررت ثانية باننى لست وحدي.

يا ولدي؛ هذا البلد الطيب الذى دائماً ما يخرج نباته بإذن ربه محروس محروس.والحديث عن هذه الثورة الفريدة في التارخ الإنسانى يحتاج إلى صفحات طوال وإلى توثيق أمين ليكون للعالمين المستضعفين دليلاً.

كانت هذه المقدمة وإن طالت –رغم محاولات كبح جماح تشعبها_ ضرورية لما أود أن أتطرق إليه من باب مسؤليتى الإنسانية التاريخية باعتباري شاهداً شاف حاجات كتيرة،كما أن فيها إجابة للسؤال الإفتراضي “من أنت يا حلم الصبا؟”
ما دفعنى للكتابة اليوم هو الحديث عن السلام والمفوضات التى تجري لتحقيقه
أما بعد :أقول من الآخر أن التوجه الذي تسير على هديه المفاوضات الجارية فى جوبا وغيرها لن تصل الى أي سلام مرتجى . فالجراح المزمنة لن يبرئها البندول،بل تحتاج أولاً إلى تنظيف وتعقيم صبور. أرجو ألا نستعجل الأمر ولنؤجل الفرحة حتى نضع اسس السلام العادل المستدام ، فنحن لدينا من الأمثلة الحاضرة ما يؤكد فشل السلام الذي يتم تحت تهديد السلاح.:

مثلاً أتفاقية 3مارس عيد بين حكومة النميرى وحركة إنيانيا؛هلل الناس وطربوا ووزعت المناصب والحقائب على النخب ومنسوبيهم وأدمجت القوات التى كانت تحارب الحكومة فى الجيش القومى . ثم ماذا ؟ خرج قرنق والجيش الشعبى من رحم الجيش القومى مؤهلاًمدججأً وكانت الحركةالشعبية التى ضمت جماعات أخرى من المهمشين والناقمين على سيطرة الإسلاميين على الحكم.كانت الشعارات وخطاب الكراهية المبثوث فى صفوف المقاتلين موجهاً بصورة اساسية ضد الوجودالعربى الإسلامى . ثم ما ذا كانت النتيجة:إنفصل الجنوب وكوّن دولة تتقاتل المجموعات السكانية فيه فى حروب مأساوية خلّفت ملايين القتلى والنازحين والمرضى والمعوزين والهائمين على وجوههم؛واخشى أن يستمر ذلك إلى سنوات قادمة . وهكذا فإن حصاد ما يعرف بالكفاح المسلح لم يثمر إلا دولة فاشلة. الغريب أن الحركة الشعبية شمال والجماعات الأخرى في دارفور تتبنى نفس الشعارات وخطاب الكراهية رغم مرارة النتائج.

هنا اود أن أعرض بعض الحقائق المهمة من وجهة نظرى على الأقل:
أولاً: إن جغرافية السودان – حتى بالنسبة للمليون ميل مربع- لاتسمح بالتمزق والتشرزم فليس هنالك من موانع طبيعية من بحار وجبال تمنع التواصل بين أجزائه هذا هو قدرنا فالتحدى كيف يمكن أن يعيش الناس فى سلام
ثانياً: الحديث عن إحتكار الوسط للثروة والسلطة مبالغ فيه .أتحدث باعتبارى من أبناء الجزيرة . فقد ولدت وترعرعت ودرست ودرّست برغم أن جذوري الجينية تمتد من الشمالية إلى كررى الى شمال وجنوب كردفان .كانت معظم حياتى فى مدنى “أم المدائن” وضواحيها ( مدنى دى جميلة يا زول)،الناس فى سلام ووئام دائمين ،لا أحد يسال أحد من أين أتيت –على قول الفنان المحترم عصام محمد نور-لم نشهد نهباً مسلحاً أو توتراً عرقياً إلاألقليل فى بعض الضواحى الذى لم يفسد للود قضية. وقد كنت استعجب من مزاعم إحتكار الثروة على الأقل .فالشاهد أن مشروع الجزيرة بالتحديد كان يرفدالخزينة العامة باكثر من 60%_حدثونى كم تبلغ إسهامات الأقاليم التي تدعى التهميش برغم أنها تمتلك أخصب المزارع والمراعى وأنفس المعادن

ثالثاً: قضايا العرب والإسلام والعلمانية تحتاج إلى حوار فكري واسع.ولكن لابد لي من القول في شأن العروبة والإسلام أن الدم العربي قد امتزج بالدم الإفريقي في أجزاء واسعة من السودان كما ان اللسان العربي هو اداة التواصل البينى بين الجماعات الأخرى . فالعروبة فى السودان تختلف جينياً وثقافياً عن اي عروبة في أي مكان آخر؛وكذلك تفرد الإسلام بخصوصيته السودانية إسلام سوداني متسامح لم ينبني على ارض خراب .بل كان السودان أول مناطق الإستيطان البشري على مجرى وادي النيل منذ نهاية العصر المطيروكان أجدادنا اول من مارس الزراعة واستئناس الحيوان فعرفوا مواسم الأمطار والفيضان وعرفوا مواقع النجوم و صناعات الفخار والحديد؛ وكان للسودان انبياؤه المذكورون فى الكتاب : لقمان الحكيم والرجل الصالح الخضر وقيل موسى وهارون.. وامتزجت الثقافة العربية بالإيقاعات الإفريقية فكانت اسمى تجلياتها فى السلم الخماسي – كان يسميه الرائع اسماعيل عبد المعين بالزنجران-وقد اضاف الغناء السوداني لحمة وجدانية بين شعوب السودان وامتد اثره الى الجيران وما وراء الجيران؛ وكان الغناء السوداني معبراً ومحرضاً لحركة النضال السوداني السلمي منذ ما قبل ثورة 24 .

رابعاً: الجماهير السودانية التي خرجت تنادي بالحرية والعدالة منذفترة الإستعمار مروراً بأكتوبر ,ابريل ومن ثم ديسمبر-يونيو كانت سلمية بالكامل وقد تمخض هذا الحراك السلمي في مبادئ “حرية سلام وعدالة مسنودة بالثورة خيار الشعب”.وبرغم التضحيات الجسام: مئات الشهداء والمفقودين وآلاف الجراح الجسدية والنفسية تمكنت العقلية السلمية مدعومة بأكثر من عشرين مليون شيخ وشيخة شابة وشاب طفل وطفلة تمكنت من فرض رؤيتها فى ان قوة السلام وحدها هي الغالبة. ياسلام يا بلد ياسلام يا بت يا ولد.السلام عليكم وعلى الأض السلام.
في الجانب المقابل نجد أن العقلية العسكرية هي المسيطرة على عقول الحركات المسلحة –يطلق عليها حركات الكفاح المسلح كنوع من التدليل-فهي تؤمن باستخدام القوة المسلحة لتحقيق اهدافها وهو ما لم ولن يتم وهي تعبئ منسوبيها بكل مفردات الحقد والكراهية وأستثارة النعرات القبلية التى تجاوزها الزمن،فالعالم اليوم اصبح يقترب من بعضه بسرعة كبيرة.

إن ماساة الحرب في دارفور على وجه الخصوص لا يمكن تجاوزها ولا يمكن السكوت عن عذابات آلاف الضحايا والمشردين والمغتصبين من الرجال والنساء والاطفال ولا بد من تجريم المتسببين في ذلك ولا يمكن أن يفلت القتلة من العقاب.
ولا تظن الحركات المسلحة أنها بريئة مما حدث. فقد كانت معارك الكر والفر تدفع الحركات الى الإختباء بين الأهالي الوادعين في القرى واستخدامهم كدروع بشرية..

أمامي كتاب “دارفورإقليم العذاب ” لعبد الغفار محمد أحمد ولايف لانقار .يشتمل الكتاب فيما يشتمل على عدة ملاحق لاتفاقيات وقّعت بين حكومة السودان وبعض الحركات المسلحة –العدل والمساواة وحركة تحرير السودان فى انجمينا وابوجا نلاحظ ان مضمون الإتفاقيات متشابه ؛ وأن بعض الموقعين الذين وضعوا توقيعاتهم منذ 2004 نجدهم اليوم حضوراً فى جوبا ؟

لماذا فشلت الإتفاقيات فى وقف الماساة؟ هل لأن الحرب أصبحت نشاطاً اقتصديا يفوق تجارة الدواء والمخدرات . مليارات تؤخذ من خزائن الدول لتصرف على شراء الأسلحة التي يتم تطويرها يوماً بعد يوم حيث تدخل ألاف المليارات من العملات الى جيوب السماسرة وأغنياء الحروب من افراد ومنظمات تدّعي الإنسانية؛ذلك مقابل تدمير الإنسان والحيوان والبيئة
ثم ماذا بعد ونحن كأمة وشعوب السودان معنيون بذلك بل نحن في قلب الصراع
أقترح هنا تنظيم مؤتمر شامل لقضايا السلام يتم انعقاده هنا فى العاصمة السودانية يدعى له أولاً أصحاب الوجعة الحقيقيين مباشرة‘ ثم حملةالسلاح بشرط وضع السلاح جانباً فليس هنالك سلام تحت تهديد السلاح‘إلى جانب كل الأحزاب والمنظمات التي لديها افكار واتصال مباشر بواقع الحروب في السودان؛ على أن توضع كل الأوراق مكشوفة على الطاولة وأن تكون المداولات على الهواء مباشرة حتى يتمكن الناس خارج القاعات من الوقوف على حقيقة الأمر الواقع.

سكرتارية المؤتمر متعددة المهام :
. تقديم الدعوات والإتصال المباشر مع المتضررين الحقيقيين على الأرض وتيسير حضور ممثليهم
.تهيئة المؤتمر من ناحية الموقع والسكن والإعاشة- أقترح قاعة الصداقة أو مباني مجلسي الشعب والولايات المنحلين
.توفير الدعم المالى اللازم فقط من السودانيين حكومة وشعبا
.لجنة إعلامية من ذوي الكفاءات في مجالات الإذاعة والتلفزيون والإنترنت
. لجنة لجمع الآراء والمقترحات وتصنيفها بغرض وضع محاور النقاش ومن ثم تدوين التوصيات المتفق عليها.
بالطبع هذا المقترح قابل للمناقشة والإضافة والنشر
ربنا يوفق الجميع

مسمار السقيد
معلم معاش
[email protected] للتواصل:

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..