عدت يا عيدي بدون زهور .. القصة الكاملة لآخر روائع ود القرشي

- في يوم وفاته صادف حنة رفيق دربه الفنان عثمان الشفيع، الذي انتفض من السرير وأزال الحنة وأجّل الزواج.
- عثمان الشفيع أطلق اسم (الذكريات) على أول مولودة له تقديراً للشاعر ود القرشي.
- أصبحت الآن (ذكريات) طبيبة تعالج المرضى في المستشفيات بالورود والزهور.
إعداد : عيسى السراج
شاعرنا الكبير محمد عوض الكريم القرشي، عاش أيامه المجيدة كلها أعياداً، فلم يعرف الحزن ولا اليأس ولا الفشل, ولذا كان مبتهجاً باسماً يعيش لحظاته مع الأحباب والأصدقاء في فرح وسرور, وكان يعتبر أيام حياته كلها أعياداً, فقد جاء العيد في وصف العديد من قصائده المعبِّرة.. فعندما رافق الطلاب إلى البان جديد بضواحي الأبيض بكردفان, وصف ذلك اليوم بالسعيد وكأنه عيد, فقد اعتاد أهل الأبيض آنذاك قضاء أيام العيد في حدائق البان جديد مع الذبائح والشواءات والأغاني والفرح والمرح.
ألمت بشاعرنا وعكات مرضية لازمته فترة طويلة ما حدا بالأطباء حجزه بالمستشفى ولمعرفتهم بشخصيته التي تحب النظافة والوجه الحسن، فقد اختاروا له غرفة مريحة في الجناح الجنوبي بمستشفى الخرطوم الكبير, وهو الجزء الذي كان مخصصاً للمرضى من الحكام الإنجليز قبل الاستقلال, ودخل المستشفى وارتاح للنظام والنظافة في الغرفة, وتهللت أساريره عندما جاءته السسترات تقودهن المترون (قمر) رئيسة القسم .
قبل زيارة الطبيب تأتي (المرتون قمر) في كل صباح في المرور وهي تحمل له زهرة مع ابتسامة تشجعه لقضاء يومه مرتاحاً, على الرغم من آلام الروماتزم التي ألمت به، وتمر الأيام وشهر يزيد ويأتي العيد الكبير عيد الأضحى والذي اعتاد شاعرنا قضاءه مع الذبائح، إما في الأبيض أو البادية أو مع الشباب النضير في الخرطوم أومع رفيق دربه الفنان عثمان الشفيع بأم درمان .
ولكن هذا العيد جاء وقد اختفى الأصحاب، بل يقال إنه في آخر أيامه كان عاتباً وغاضباً من الأصدقاء والأصحاب والأحباب والبعض يقول إن أغنيته الأخيرة هذه قصد بها اللوم للجميع، ولكنه ترجمها بأحاسيسه في ذلك اليوم الحزين من أوآخر السنة والسماء قد اختفت منها الكواكب والبدور ونظر من على النافذة في انتظار المرور والتهنئة بالعيد السعيد من المترون قمر، ولعلها تحمل له أكثر من زهرة مع العيد ولكنها لم تحضر, وانتظر اليوم الثاني ولم تحضر لا المترون قمر، ولا البدور في السماء, ونظر من على النافذة وجاشت مشاعره وترجمها في كلمات منظومة وملحنة وبدأها قائلاً :
عدت ياعيدي بدون زهور
وين قمرنا وين البدور
غابو عني
ويقصد بذلك مرور يوم العيد للمترون قمر، وهي تحمل الزهور كالمعتاد، ولكنها لم تظهر فسأل العيد متشائماً لماذا عدت بدون زهور وأين قمر وأين البدور في السماء.. ثم نظر لسور المستشفى الذي يفصله عن الشارع، بل وعن العالم الخارجي واعتبره شاعرنا الحساس مثل السجن ولكنه في قصر فقال :
سجنوني داخل قصور
قالو عيان لشفاك ندور
وحزن وتألم ولكنه لم يفقد الأمل في أن يسمع الصوت إن لم ير بالعين فاتصل تلفونياً ولكنه لم يحظ برد فقال:
تلفونك ما بيك خبور
أقوم أناديك أفشل أثور
ويناشد نفسه متمنياً أن عاد المترون في المرور في أي لحظة وأي يوم في هذا العيد غير السعيد فقال :
ليتو لو كان عاد للمرور
يشفي دائي ويغمرني نور
ولكنه لم يعد فقد كانت (المترون قمر) في عطله العيد الكبير, وقامت فيها بأداء واجبها المنزلي في مثل هذه المناسبات الكبيرة بعيداً عن جو المستشفى وذكرى المرضى الذين تعاملهم بمثل هذه الحنية التي آثرت في شاعرنا الكبير ولعلها أثرت في غيره من المرضى الذين تم شفاؤهم, وهذه هي أهم جوانب في خدمة ملائكة الرحمة .
عادت بعد نهاية عطلة العيد أربعة أيام بالإضافة إلى الوقفة, ولما عادت لزيارته جاءت تحمل له باقة من الزهور تعوِّضه عن الزهرات التي افتقدها في الأيام الخمس الماضية, ولكي لا تشعره بأن الغياب سببه عطلة العيد وغيابها عن المستشفى اختلقت له عذراً آخر فقالت له إن الطبيب المداوي منع الحضور له حتى يكون في جو هادئ تتطلبه ظروفه الصحية, ولقد اعتاد الأطباء منع الزيارة، بل ويقفلون الباب مع كتابة ممنوع الزيارة على الباب, ولكن (مترون) وهي مثل الطبيب لابد من مرورها، لذا لم تفت عليه الحيلة ولم يشعرها بذلك, بل خاطب نفسه قائلاً:
جاني يحمل باقة زهور
قال طبيبي المنع الحضور
صرت أضحك كيف ياغيور
يكون علاجي سببه النفور
وهكذا ترجم شاعرنا مشاعره إبان ذلك العيد الذي كان آخر أعياده في هذه الدنيا الفانية, وصادف ذلك اليوم الكئيب حنة زواج رفيق دربه الفنان عثمان الشفيع، وما أن علم بهذا النبأ الحزين إلا وانتفض في حالة غضب وهياج وأزال الحنة ونهض من السرير الذي فُرش له ومن حوله الفتيات اللائي كن يقمن بمراسم حنة العريس، وعندما نفش خضاب الحنة من يديه فاضت روح صديق عمره ورفيق دربه الفني الشاعر محمد عوض الكريم القرشي، الذي رحل عن الدنيا مودعاً بعِيد عاد له بدون زهور وسرور وبعد قضاء أيام العزاء والمأتم، أتم الفنان عثمان الشفيع زواجه دون بهجة وليالي فرح, وأول مولودة له كانت (ذكريات) التي خلد بها ذكريات ود القرشي، التي دامت أكثر من نصف قرن، واليوم ذكريات عثمان الشفيع، طبيبة تقوم بعلاج المرضى في المستشفيات وتقدِّم لهم الزهوروالورود وتدخل في نفوسهم البهجة والطمأنينة والعلاج بإذن الله .
هذه المادة نقدِّمها في ذكرى رحيل ود القرشي، ورفيق دربه الشفيع، التي مرت عليها سنوات وسنوات.. فلهما الرحمة والمغفرة .
التيار