مقالات سياسية

في الذكري الثانية لرحيل فيصل إمام علي “ود السلطان “

محمد بدوي

في مساء العاشر من أغسطس  2018م حملت لي مكالمة هاتفية خبر رحيل فيصل إمام علي زين العابدين الذي سار بين معارفه و أحبابه ملقباً ب” ود السلطان” خلسه تاركاً إبتسامته الودودة نبتةً تحثنا السقيا، غادر في هدوء كأنه تعمد الحفاظ علي نسق إيقاع خطوه التي كانت تعرف مسارها بعيداً عن الضجيج، يا أيها الفيصل إنها المنافي تضيف إلي سجل الغياب الإجباري تخلف آخر عن لقاءات الوداع، إنها فجيعة أخرى وبرغم ذلك لا زلت أتجاسر لأقف بعيداً عن طقوس الحزن التقليديه عليَّ أقترب من إيقاعات  حياتك الإستثنائية التي إمتلات بخيارات لم يقدر عليها سواك، فجيعتي برحيلك جعلتني أقف بعد سماع النبأ لأبحث عنك في من عرفوك وخبروا من تكون، جاءني صوت فاروق الطيب محمود ، إبن عمتك وعمك ومن زاملك بعد رفقةٍ في دروب الحياة، علي الطرف الثاني مصححاً أنا فاروق ما فؤاد (شقيقه الأصغر ) ! ألم أقل إني كنتُ أتقفي أثرك مستعيناً بدليلٍ من صحبتك! أحسست بعبارات العزاء تتجاسر وتتقافز فوق حزنها، أكثرهم تماسكاً أو هكذا بدا كان حسين إمام شقيقك الأصغر وعمك حسن علي زين العابدين، الرشيد لم يتمكن من أن يستقبل مكالمتي لأصابته بالم في أذنه، قررت محادثته في وقتٍ لاحق فهو ممن خبروا سيرتك … يا صاح …. 

في غمرة هذا الوداع يا فيصل باغت حزني مقال للأستاذ الصحفي مالك دهب، نُشر في  الجمعة التالية لرحيلك السابع عشر من شهر الرحيل 2018م – تعرض فيه للشأن الثقافي لمدينة الفاشر ثم عرج علي خبر رحيلك، مُشيراً إليك بأحد ظرفاء المدينة ” فوفو”، فادركت أن  الشفاهية التي ظلت تسوِّر تواريخنا السياسية والإجتماعية حجبت الكثير من المعلومات عن الفضاء العام، في ذات الوقت تمنيت لو بذل الأستاذ مالك بعض الجهد في تقصي الأسماء الحقيقية لمن يكتب عنهم علي نسق البحث والتقصي فما أحوجنا لكبح جماح الشفاهية بالتدوين الموثق، فها هي الدعوة للأستاذ مالك في الذكري الثانية لرحيلك بكل أريحية وترحاب، جيداً جيت ” أبقي قدام ” تعال نودِّع فيصل تاني بما يليق به فبذالك قد ندفع بخطوه في مسيرة التدوين لمن شكلوا بعض وجداننا الإجتماعي والسياسي .

فيصل إمام، إبنٌ دفع بصرخة الوجود في عام 1947م بمدينة الفاشر بمديرية دارفور ، والده الراحل إمام علي زين العابدين أحد تجار الفاشر ونائب رئيس الحزب الوطني الإتحادي آنذاك، والدته الراحله زينب بدوي زين العابدين، هكذا أشارت مضابط وثيقة شهادة ميلاده، أختار فيصل الانتماء للوطن الاتحادي كما تلاه شقيقه أحمد الذي مثل الحزب في التجمع الوطني المعارض باليمن اثناء عمله خارج السودان والرشيد الشقيق الأصغر ، منزل الأسرة الكائن بحي كفوت بمدينة الفاشر ظل بمثابة مضيفةً لقادة الحزب في زياراتهم، فعقب إنتفاضة أبريل 1985 حل ضيفاً عليها السيد: أحمد الميرغني رئيس مجلس السيادة وبرفقته كل من زين العابدين الهندي، عمر حضره، علي أبرسي وإلياس موسي في زيارتهم لإقليم دارفور، إكتسب فيصل مهارات التجارة من والده لينتقل في العام 1968م إلي مدينة أمدرمان مؤسساً عملاً في التجارة العامة، إستاجر محلاً بسوق أمدرمان بشارع العناقريب، شكل مركز إلتقاء للتجار الذين يحضرون من مدينة  الفاشر لقضاء أعمالهم التجارية،  وعندما غادر مدينة أمدرمان خلفه بالمحل إبن خالته وعمه فاروق الطيب محمود الذي كان نشطاً في صفوف حزب الوطن الإتحادي “الحزب الاتحادي الديمقراطي”، إلي جانب داؤود محمد داؤود الذي كان يُمارس التجارة مع والده الراحل محمد داؤود فضل أيضا أحد التجارالوطنيين بمدينة الفاشر، و شغل جزءً من حرم المحل الخارجي السيد:عربي محمد عربي  مؤسساً “حقه ” عماري  نالت آنذاك شهرة واسعة في امدرمان . 

إستقر سكن فيصل بحي بانت غرب، غرب إستاد المورده في المنزل الذي إستاجره شقيقه الراحل أحمد إمام في عام 1968م من أسرة عبد الوهاب موسي وكان   أحمد الذي سبقه للإستقرار بأمدرمان قد بدء حياته العملية موظفاً بوقاية النباتات، ثم إنتقل إلي العمل بالمؤسسة العامة للفنادق ومن ثم غادر السودان لاحقاً ،  ليصبح فيصل المستأجر الثاني للمنزل الذي كان عبارة عن مضيفة وملتقي يؤمه الأقرباء والأصدقاء من تجار وأعيان الفاشر، الرحمة لمن رحلوا منهم مثل التجاني فضيل، عثمان محمد الشهير ب”عثمان شاكوش”، علي آدم الشهير ب”انديشوما”، فضل محمدي، محمد تبين، الطاهر بدوي “ابوعزيزة “، عبدالرحمن بدوي، محمود علي، كمال الطاهر، الأمين عطا الله، حسن عطا الله،ا أبو بدريه وآخرين ، كان المنزل ملتقً يرتاده من الفنانين زيدان إبراهيم، عثمان الشفيع  لهما الرحمة وكمال ترباس ومن سكان بانت غرب سيد عبد الماجد وعمر موسي ومحمود التنقاري واخرين ، حيث كان حسن الاستقبال والكرم صنوان في الحضور .

إستمرت المضيفة والملتقي بعد مغادرة فيصل السودان إلي ليبيا في عام 1973م حيث حمل شقيقه حسين إمام علي الخبير الدولي في مجال الكره الطائرة الراية، وظل الحال على ما هو عليه إلي العام 1998م حين طلب الراحل إمام علي والد فيصل تسليم المنزل إلي ذويه بعد أن إمتلك كلٌ من الراحل أحمد وحسين منازل خاصة بهم، فكان يري أن الحوجة لشغل المنزل قد إنتفت ويجدر أن يُترك لملاكه للإستفادة منه . 

نشاط فيصل السياسي المعارض لنظام جعفر نميري جعله من المطلوب القبض عليهم في عام 1973م بل رصدت جائزه لذلك تم نشرها، تمكن فيصل من تفادي القبض عليه، فقد تسلل من أمدرمان إلي بورتسودان، ثم إلي ود مدني ومنها إلي نيالا إلي أن وصل إلي الفاشر، في مساء اليوم الثاني لوصوله للفاشر وقف عربية ” كومر”  البوليس أمام  بوابة بيت الطلبة الملحق بمنزل جده الحاج بدوي زين العابدين، مثَّل كومر البوليس طوق نجاة لفيصل الذي دبّر له أحد أصدقائه من ضباط البوليس الذين كان واحداً من رواد بيت بانت وتصادف وجوده ببوليس الفاشر وسيلة الخروج الآمنه وهو يرتدي زي ضابط بوليس برتبة الملازم، أوصله الكومر إلي منطقة طويلة التي تبعد حوالي 76 كليلو متراً غرب الفاشر، واصل فيصل إمام رحلته إلي أن وصل مدينة الجنينة في اقصي غرب المديرية انذاك التي قصدها كبوابةٍ للخروج من السودان، في تقديري ما شجعه علي التوجه نحو الجنينة وجود  أقاربه منهم الراحل الفاضل ساتي علي ،  الذي عمل تاجراً بسوق الجنينة وإلي جانب أبناء عمومته الراحل الأستاذ أحمد زين العابدين الذي كان يعمل ناظراً للمدرسة الأولية وصلاح الدين محمد بدوي الذي كان يعمل موظفاً بمحكمة الجنينة.

  في مساء يوم وصوله إلي الجنينة خرج فيصل مقتفياً صوت إحتفاء إرتفع غناؤه وزغاريده، وصل إلي الحفل ليتفاجأ بأن العريس أحد تجار الجنينة ومن معارفه الذين يترددون علي محله التجاري بشارع العناقريب أثناء حضوره لأمدرمان، حينما شعر فيصل بإختفاء العريس أحس بالخطر فقد غادر العريس (إ.ظ) ليُبّلغ عن فيصل إمام وإستلام مكافأة الإرشاد، لكنه كان أسرع فقد تحرك ليرتب له الراحل  أحمد زين العابدين جملاً حمله برفقة دليل للخروج من مدينة الجنينة والتي كانت الرحلة التي عبر بها الحدود السودانية ، ثم أستمر عبر محطات كثيرة الي أن  إنتهي به المطاف بالجماهيرية العربية الليبية حيث كانت المعارضة السياسية تتخذها مقراً لها، مارس نشاطه بها فقد كان أحد الأصوات التي تذيع عبر أثير إذاعة الوحدة الوطنية. لقد عُرف فيصل بقدراته في الكتابة فقد كان يُدبِّج المقالات بل يراجع خطابات الكثيرين من الساسه قبل إلقائها، أثناء إقامته بليبيا آنذاك أصبح صديقاً لعبد السلام جلود رئيس الدفاع  الليبي آنذاك .

بعد سقوط دكتاتورية جعفر نميري لم يحضر فيصل إلي السودان في 1985م بل ظل بليبيا التي ارتبط بها نشاطه السياسي والتجاري حيث كان يعمل في مجال التجارة بمدينة سبها. وبما أن فيصل كانت تربطه علاقة قوية بالمناضل الشريف حسين الهندي وأحمد زين العابدين وتزامل مع حسن دندش بليبيا ونفذا معاً بعض التكليفات التي كلفهما به الشريف حسين الهندي في ليبيا وسوريا من نقل للأموال وتجنيد للعناصر وإشراف على معسكرات التدري فإن الرحيل المفاجيء للمناضل الشريف حسين الهندي مثل صدمةً نفسيةً كبيرة له لم يستطع تجاوزها.  

تحت إلحاح أسرته عاد فيصل عن طريق ميناء مليط البري في رحلةٍ أخري عبر الحدود، يبدو أنها من مصادفات حياة فيصل أن تبعد مليط 70 كيلو مترا من مسقط رأسه مدينة الفاشر.

لم يكن فيصل يطمح في سلطةٍ رغم علاقته بالشريف الهندي وعضويته القيادية بالحزب الإتحادي الديمقراطي، كما ظل والده الراحل إمام علي زين العابدين وشقيقه الرشيد إمام من قيادات الحزب بالفاشر، ذلك يكشف سر تأخر فيصل في العودة إلي السودان، زهده في الحياة السياسية جعلته يصططدم بمآلات الحال بعد عودته، فقرر فيصل الهروب الإختياري عن مشهد الحياة السياسية التي كان ينظر إليها بسخرية إشتهر بها لتأتي أسئلته ملامسةً الأحداث في طور نشوئها، ترك فيصل الفاشر بعد وقت قصير في العام 1996م مغادراً إلي أمدرمان إلي بيت بانت لكن كانت مياه كثيرة قد عبرت تحت الجسر فتخندق فيصل في إبتعاده مسكوناً بذاكرة أرخّت لقادمٍ أجمل لكنه هوي! 

في العام 2002م عاد فيصل إلي مسقط رأسه الفاشر مرةً أخري ليمكث جسداً بينما ظلت روحه تنتمي إلي عالمٍ يخصه، شيَّد فيه مملكته التي لا يدلف إليها إلا من فتح له القلب، ففي العام 2006م وقف أمام مولانا هشام محمد يوسف قاضي المحكمة العامة آنذاك بمحكمة الفاشر، هشام أحد الذين يُعاودهم فيصل بشكلٍ راتب، لهم في السر ما ينأي أن ينكشف ساتره في العلن، بعد أن رحب به بادره فيصل قائلاً يا مولانا العسكري ده داير يمنعي أخش المحكمة، وكان قد تصادف وجود الشرطي داخل القاعة فتحدث إليه مولانا هشام للكف عن ذلك فلفيصل تذكرةً مفتوحةً لأن عبوره كان بمشيئة القلب.

معليش أطلت عليك يا أستاذ مالك دهب  فلك العتبي لكن مثله يستحق المزيد من كشف جوانب حياته، كان أحد أعمدة المدينة متوشحاً بسخرية تحمل في طياتها إختزالاً لمشاهد الحياة وتناقضاتها، فلك يا ود السلطان وداعاً يليق بمقامك العامر وقبولاً حسناً عند مليكٍ مقتدر.

محمد بدوي
[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..