مقالات وآراء

ابوامنة حامد الانسان الفنان الصادق و المتصالح مع نفسه

نال اعجابى المقال الجميل و الرائع لصديقى د. وجدى كامل الفنان الشامل و مخرج الروائع الذى تم نشره فى الراكوبة بعنوان ” ابوامنة حامد سلامات ياخ سال من شعرها الذهب وأستطال من نظمه الطرب ” حيث استهل وجدى المقال بعتاب رقيق للشاعرين المخضرمين اسحاق الحلنقى و عبدالوهاب هلاوى لعدم ذكرهم للشاعر ابن الشرق الراحل العملاق ابو امنة حامد عليه الرحمة وهو الرقم الذى لايمكن تجاوزه و الرمز الذى لا يمكن طمسه فى اللقاء التلفزيونى الذى استضافه الاعلامى عمار ابوشيبة فى السودانية 24 , وكأن وجدى يقول لهم بلسان الشاعر الجهبذ محمد بشير عتيق ” كيف يجهلوك ؟ ” والحق يقال فان جميع من شاهدوا هذا اللقاء كانوا يتوقعون ان تاتى سيرة الشاعر الكبير الراحل فهنالك اشياء لا يكتمل الحديث عنها لا بذكر بعض الاشياء تماما كذكر السودان بدون الحديث عن النيلين و مصر بدون الاهرامات و باريس بدون برج ايفل ! , وبعدها اتحفنا د, وجدى بمعلومات عن الشاعر الراحل اضافت لنا الكثير من جوانب حياته و اضاءت العديد من الاماكن التى كانت معتمة , ويبدو واضحا ان صداقة د وجدى مع الشاعر الراحل قد اتاحت له معلومات عن الشاعر الراحل لا يعرفها احد سواه ونحمد له انه لم يبخل بها علينا ! واكثر ما شد انتباهى فى هذه المقالة واثارت استحسانى هى اعلاء فضيلة الوفاء فى زمن اختفت حتى هذه الكلمة من جميع قواميس معاملاتنا و حياتنا !!
فى بداية التسعينيات من القرن الماضى كنت فى زيارة استشفاء فى القاهرة , وفى مرة استقليت تاكسى للوصول الى موعد هام , وفى الطريق و كعادة سائقى التاكسى فى كل زمان و مكان فقد اخذ يدردش معى و يرفه عنى عسى ان يخفف عنى احساسى بالضيق و التوتر نتيجة للازدحام المروع و بطء حركة السير و المرور فى قلب القاهرة وقد اخبرنى بانه يحب الغناء و الشعر وانه يمارس الغناء مع مجموعة من اصدقاءه فى احد الاندية الثقافية وقال لى : هل تعرف اجمل ابيات شعر غنائى عربى فى العصر الحديث ؟ وعندما اجبته بالنفى قال لى وهو يبتسم : بدون شك هى قصيدة لشاعر سودانى لا اعرف اسمه يقول فيها : سال من شعرها الذهب و تدلى وما انسكب !
ولدهشتى الكبيرة فقد قام بقراءة القصيدة كاملة بدون ان تنقص حرفا واحدا تماما كما كتبها شاعرها ابو امنة حامد , وقال لى ان هذا ليس رايه لوحده بل رأى جميع زملائه فى النادى ! وقال لى انه لو كان هذا الشاعر مصرى الجنسية لكان سوف يكون اكثر شهرة من ابوالهول و اهرامات الجيزة نفسها ولاصبحت سيرته على كل لسان وانت تعرف مدى قوة و احترافية الاعلام المصرى الذى يخلق من الحبة قبة فما بالك اذا وجد القبة نفسها !! ! وعندها اخبرت سائق التاكسى باسم الشاعر و اعطيته نبذة عنه وعن زهذه و تواضعه و عدم حبه للاضواء و الشهرة وعندما اخبرته بان ابوامنة هو الان يسكن فى مدينة الخرطوم بحرى ومنزله لا يبعد كثيرا من منزلى حيث استطيع الوصول اليه مشيا بالاقدام ! نظر الى بنظرة مليئة بالاعجاب و الانبهار وعدم التصديق معا ولسان حاله يقول ” معقولة بس ؟؟ ” وعند وصولى الى وجهتى اصر السائق على ان لا ياخذ منى اجرة المشوار و كلفنى بابلاغ سلامى و تحياتى الى ابوامنة حامد وان اخبره بان لديه الكثير من المعجبين فى مصر . وبالطبع فقد شعرت بالفخر و السعادة فهكذا نحن السودانيون نحب ان نسمع كلمات الاطراء و الاعجاب من الاجانب لكل ما هو سودانى وبنفس القدر لا نتقبل النقد حتى ولو كان صحيحا ! .
بالنسبة الى فان الشاعر علي حامد علي إيلا آدم، (ابوامنة حامد) يمثل الفنان الحقيقى و الانسان المتصالح مع نفسه و الصادق معها والذى لا يعرف الكذب و الالتواء و المداهنة و تسمية الاشياء بغير مسمياتها , وما زاد احترامى و تقديرى بل و انبهارى به هى تلك اللحظة التى عرف فيها انه لن يستطيع ان يكمل بقية حياته وهو يرتدى زى ضابط الشرطة و تزين كتفه النجوم ويكون اسيرا للوظيفة الحكومية حيث الانضباط و وتنفيذ التعليمات , فقد عرف ان هذه الحياة لا تناسبه و لا يناسبها فهى تمنع روحه المتوثبة من الانطلاق فى سماوات الحرية بدون روابط او قيود انه بكل بساطة روح الفنان و الانسان و وخيال الشعر الذى يرتاد الثريا كما قال الشاعر القامة صديق مدثر فى رائعة الكابلى ” ضنين الوعد ” , وقد كان لافتا و طريفا عندما راوه وهو يشارك فى مظاهرات فى مدينة مدنى مع المواطنين وضد الحكومة وهو مرتديا الزى الرسمى للشرطة !! فضابط الشرطة الذى يقتضى واجبه فض المظاهرة يقوم بعكس ذلك وهو زيادة اشتعالها انه بالضبط الصراع بين ما يقتضيه واجب الوظيفة وما يرفضه ضمير الانسان السليم الطوية !! نعم ان ابوامنة فنان حقيقى و انسان شفاف لا يعرف اللون الرمادى فى علاقاته و تعاملاته ولهذا كانت الاستقالة من سلك الشرطة , وهذا لايعنى ان العمل فى الشرطة او الجيش تكون خصما على رصيد الابداع فلدينا الكثير من الامثلة لمبدعين و فنانين من ضباط الجيش و الشرطة نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر المرحوم الفريق ابراهيم احمد عبدالكريم و احمد مرجان وغيرهم , ولكن بالنسبة لابوامنة حامد فانه وبكل بساطة لم يستطيع الجمع بين الوظيفة الحكومية و شاعريته ! الم اقل لكم ان الرجل كان حالة خاصة !!
فالفنان الحقيقى سواء ان كان رساما او موسيقيا او شاعرا يتميز بالابداع و الاتيان بكل ماهو جديد و جميل , ويعمل دائما من اجل ادخال السعادة والفرح الى نفوس الناس وقد يكون ذلك بواسطة قصيدة شعرية او لوحة زيتية او مقطوعة موسيقية او رواية ادبية , فالفنان تاسره رؤية قطرات الندى فى صباح يوم مشرىق جميل و قد يذوب وجدا و حبا فى رؤية منظر بديع و يتاذى لمشاهدته كل ما هو قبيح ووضيع , ويروى عن الاديب الروسى العملاق مكسم غوركى انه كان فى مرة من المرات ذاهب الى السوق اشراء بعض الاحتياجات و هناك شاهد احد رجال الشرطة ينهال بالضرب المبرح على رجل فقير كبير فى السن بوجه متغضن وشعر راس ابيض حتى سال الدم من فمه لا لشئ سوى انه قام بعرض بضاعته بطريقة راى فيها الشرظى مخالفة للنظام وعندها لم يحتمل غوركى المنظر فعاد من توه الى المنزل وهو حزين مكسور الخاطر وكان كل هموم الدنيا قد ركبت فى راسه ولما راته زوجته على هذه الحالة سالته عن السبب وراء حزنه ولما اخبرها ابدت انداش لتاثر غوركى بالمنظر و رات انه لاشئ يستحق هذا الحزن ! ويقول غوركى ومن يومها عرفت ان هذه المرأة لا تصلح ان تستمر معى كشريكة حياة و زوجة فقا بطلاقها بعد ذلك ! .
وبالنسبة لشاعرنا ابو امنة فقد حزم امره و اتخذ قراره فى اللحظة المفصلية بين الاستمرار كضابط شرطة مع ما توفر له من وضع اجتماعى باذخ و مرتب شهرى ثابت و هيبة و مكانة فى المجتمع ومع كامل احترامنا و تقديرنا لعمل الشرطة فهى وظيفة تناسب البعض و لا تصلح للاخرين فكل ميسر لما خلق له , او ان يتفرغ للشعر و الادب فقد اختار ابوامنة ان يكون محبوب من الجميع ان يدخل البهجة الى القلوب لا الرهبة ان يكون خالد الذكر تظل سيرته حية ندية حتى بعد وفاته وهذا هو حال المبدعين الذين سطروا اسمائهم باحرف من نور فى كل كتب التاريخ , وهنالك حكاية تروى عن العملاق الراحل وردى الذى كان مشهورا بالاعتداد بنفسه حتى ان البعض وصفوه بالغرور و العنجهية وهو والحق يقال لم يكن كذلك , تقول الحكاية ان وردى عندما كان فى المعتقل فى ايام نميرى حيث كان معارضا شرسا لحكمه , حاول احد العقداء فى الامن استفزازه فما كان من وردى الا ان قال لذلك العقيد : انت مجرد عقيد من ضمن عشرات العقداء فى السودان بينما لا يوجد سوى محمد وردى ولن يوجد غيره فى السودان , وسوف لن يذكرك احد بينما انا سوف تكون ذكراى حية عند الحديث عن الموسيقى و الثقافة السودانية !! وقد صدق وردى فلا احد اليوم يذكر من هو هذا العقيد الذى كان يعتقل وردى بينما سيرة مبدع الجميلة و مستحيلة على كل لسان ! وبالامس القريب نعى لنا الناعى وفاة فنان حقيقى اخر هو البروف على نور الجليل جراح القلوب العالمى الذى توفى فى بريطانيا ومعروف ان البروف الراحل كان احد رواد فن موسيقى الجاز فى الستينيات واحد مؤسسى فرقة شرحبيل احمد , وكان الراحل قد استقال من عمله فى السنين الاخيرة من حياته ليتفرغ للموسيقى من خلال دراسته لها فى احد المعاهد , ان جذوة الابداع تستكين و لاتنطفئ داخل نفوس الفنانين الحقيقيين وقد تهدأ الى حين ولكنها تنفجر فى لجظة كالبركان تماما , وغير بعيد من المرحوم على نور الجليل نجد الموسيقار كامل حسين عازف الساكسفون الشهير وقائد فرقة شرحبيل منذ تاسيسها فى اواخر الستنيات فهو بدأ حياته كمهندس فى السلكية و اللاسكية ونال اعلى التدريب فى هذا المجال فى بريطانيا ولكنه ترك كل ذلك ليصبح راهب فى محراب الفن ونسال الله ان يمنحه طول العمر و يمتعه بالصحة و العافية .
ولهذا تجدنى فى غاية العجب و الدهشة و عدم القدرة على التفسير عندما ارى عدد من الفنانين على مختلف تخصصاتهم وهم يعملون فى جهاز الامن !! , وبعيدا عن ذكر بعض الاسماء او الامثلة , فاننى اتحدث عن ظاهرة بصورة عامة و غير معنى فى الدخول فى التفاصيل ! فان هنالك تناقض تام يجعل من الجمع بين العمل فى الامن و الفن من المستحيلات !! قالفنان كما اسلفنا هو ضمير الناس المعبر عن امالهم و المخفف لالامهم من خلال ادخال السعادة فى نفوسهم وفى المقابل فان عمل الامن يتطلب مراقبة الناس و حمع المعلومات عنهم و ارهابهم وفى دول العالم الثالث تتعدى مهام الامن لتشمل الاعتقال و التحقيق و حتى التعذيب ! فكيف بالله يمكن ان يكون الفنان الحقيقى( وضع خط) تحت الحقيقى هذه ان يعمل فى مجال هو النقيض تماما فى كل شئ له , و هذه الحال تذكرنا بقصة الدكتور جيكل والسيد هايد» والقصة كتبها المؤلف الأسكتلندي الشهير روبرت لويس ستيفنسون نُشرت للمرة الأولى عام ١٨٨٦، وتدور أحداثها حول محامي يقطن لندن يُدعى السيد أترسون يقوم بالتقصي عن أحداث غريبة تقع لصديقه القديم دكتور هنري جيكل وإدوارد هايد الشرير. حيث يوجد بداخل الشخص الواحد أكثر من شخصية مختلفة. وفي الحالة التي تطرحها الرواية، توجد بداخل الدكتور جيكل شخصيتان مختلفتان تمام الاختلاف من الناحية الأخلاقية، إحداهما طيبة في الظاهر، والأخرى شريرة.
كان للرواية تأثير قوي؛ حتى إن عبارة «جيكل وهايد» أصبحت دارجة لتعني الشخص الذي يختلف توجُّهه الأخلاقي اختلافًا جذريًّا من موقف لآخر.
وفى الختام نتقدم بالشكر الجزيل للصديق د. وجدى كامل لهذه الاضاءات و الاضافات لسيرة صديقه الراحل ابوامنة حامد , ونسال الله ان يتقبل الشاعر العملاق القبول الحسن و يغفر له ذنبه و يحسن افادته

امير شاهين

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..