مقالات سياسية

الدعم بين القمح والوقود (1)

د. صلاح طه

حين يدور الحديث عن الدعم الذي توجهه الدولة للقمح والوقود في السودان، يخال للمتلقي أن انفاق الدولة على السلعتين يمثل غالبية الانفاق الحكومي، بينما ما تقوم به الدولة من دعم لعجز الميزانية سنوياً يكاد أن يفوق حجم الميزانية العامة نفسه حيث يترجم هذا الدعم نفسه من خلال الاستدانة من الجهاز المصرفي (السحب على المكشوف) ولا تقوم بإعادة ما استدانته، ويظل هذا دعماً متواصلاً للإنفاق الحكومي. وكذلك توجه الدعاية الحكومية المصاحبة لرفع الدعم الأمر وكأنما السودان هو من بين الدول القليلة في العالم التي تنفرد بتبني سياسات الدعم. ولكن الأمر عل العكس تماماً فالسودان من بين افقر الدول التي تقدم دعماً سلعياً أو غير سلعي على مستوى العالم. فغالبية تلك الدول تقدم دعماً للمنتجين والمستهلكين في شتى الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية، التي تتضمن: دعم الانتاج (الزراعي، الصناعي بما فيه دعم إنتاج السلاح)،-دعم الاستهلاك (الدعم السلعي)،- دعم أعمال البحث والتطوير، دعم التوظيف، دعم الطاقة (الوقود-الكهرباء_ الطاقة النووية)، دعم الواردات، دعم الصادرات، دعم السكن Housing، دعم تلوث البيئة، دعم الجفاف Drought، تخفيضات الضرائب، الاعفاءات الضريبية، دعم الأعمال الصغيرة، المنح، والمساعدات وغيرها. وهناك دول تقدم كافة هذه الاشكال من الدعم لمواطنيها.

ومن هنا إذا نظرنا لنوع ما يقال إنه دعم (مجازاً) في السودان نجده من نوع الدعم غير المباشر، أي الذي لا يقدم مدفوعات مباشرة من خزينة الدولة سواء للمنتجين أو المستهلكين، وإن كانت المجموعة الأولى هي الأكثر استفادة من هذا الدعم (غير المباشر)، وذلك ما يدعيه صندوق النقد الدولي بالقول إن الأغنياء هم المستفيدون من هذا الدعم، دون تحديد معالم أو حدود من هم الأغنياء المقصودون، فهل ذوى الدخل المحدود، ومتوسطي الحال يدخلون ضمن هذه الشريحة في مقابل القول بإن الفقراء لا يستفيدون من ذلك الدعم، وأيضا دون تحديد من هم هؤلاء الفقراء خاصة في دولة مثل السودان التي ترتفع فيها معدلات البطالة عند حدود 22%، ويمتد الفقر ليلف ما بين 70-90% من السكان (إذا ما أعملنا معايير التنمية البشرية في تصنيف الفقراء).

فمنذ توقف علاقات التمويل بين السودان وصندوق النقد الدولي في مطلع مارس 1986، واستعادتها (للاستماع لتوصيات الصندوق وتطبيقها للتأهيل للحصول على قروض طويلة ومتوسطة الأجل من الصندوق) في عام 1997م عندما بدأ النظام البائد في قبول تلك التوصيات والتي يطلق عليها برامج مراقبة موظفي الصندوق Staff Monitoring Programme (SMP) والتي ظلت تدور حول نقاط محددة أبرزها: زيادة اسعار الوقود والقمح (تحت مسمى رفع الدعم)، تطبيق برامج الاصلاح الاقتصادي (الخصخصة، وانتهاءً بتبني مبادرة الدول المثقلة بالديون Heavily Poor Indebted Countries (HIPC) والتي تتطلب فتح الباب واسعاً أمام القطاع الخاص والانسحاب الكامل للدول من النشاط الاقتصادي التوسع في فرض الضرائب افقياً حتى شملت العاملين في السوق غير الرسمي، وارباب المعاشات وضع استراتيجية الفقر، سداد الديون). فطوال هذه السنوات (1997-2020م) ظلت الدولة تقدم خطاب حسن النوايا غير الشرعي حيث أن الشعب السوداني لم يفوضها لتقديم مثل هذا الخطاب، ولكنها ظلت تتحمل نتائج تعهداتها التي تعبر عن أن فاقد الشيء لا يعطيه، فحتى حين قررت الحكومة الانتقالية أن يكون قرار الدعم مجتمعياً عبر المؤتمر الاقتصادي، تجاوزت هذا الأمر وقدمت خطاب حسن نواياها (وهو ما عبر عنه بيان وزارة المالية الصادر في 28 /6 /2020م والذي تبنى مبادرة الهايبك والتي تعيد من جديد برامج الإصلاح الهيكلي السابقة)، وهو التعهد الذي لم تستطع أن تفي به حكومات السودان منذ الثمانينات حيث واجهته الاحتجاجات الجماهيرية، والتي انتهت بانتصار هذه الجماهير مرتين وإزاحة أنظمة ديكتاتورية قمعية أرادت ان تفرض تلك التعهدات بالقوة. ولكن محاولات قبول خطاب حسن النوايا في 2020م إنما جاء بمحاولات إجهاض العملية الثورية بالبلاد وتفريغها من محتواه فقرعت الجماهير التي صنعت الثورة أجراس 30 يونيو، لدعم حكومتها الانتقالية من أن تصحح مسارها نحو الجماهير وبرنامجها الذي يدور تفسيره ببساطة حول خفض تكاليف المعيشة، لا تحويلها إلى جحيم من أجل ارضاء اجماع واشنطن والبنك الدولي والصندوق وتوابعها من بنوك وشركات.

1) قيمة الدعم السلعي

قلما يتحدث مسؤول عن حجم الدعم الذي تقدمه الحكومة للسلع، فقد ظلت التصريحات والبيانات تدور في سياقها العام المعمم. إلا أن مصادر راسمي السياسة في صندوق النقد الدولي تشير إلى انخفاض حجم الدعم الذي تقدمه الدولة للقمح، وانعدام دعمها المباشر من خزينة الدولة بصورة تامة. فوفقاً لورقة عمل الصندوق حول الاقتصاد السوداني الصادرة بعنوان (قضايا مختارة عام 2017م) فإن حجم الدعم المباشر من خزينة الدولة يمثل نحو 0,3% من اجمالي الناتج المحلي، وإن تحويلاتها النقدية المباشرة للوقود تمثل (0,9%) من اجمالي هذا الناتج. وذلك ما توضحه بيانات الجدول أدناه.

فمن واقع بيانات هذا الجدول نجد أن الوقود (الطاقة) لا يتم دعمه مباشرة من الميزانية العامة، بل إنه يساهم في تحقيق عائدات سنوية تقدر بحوالي 8,25 بليون جنيه (باعتبار أن اجمالي قيمة الناتج المحلي الاجمالي تقدر بحوالي 917,2 تريليون جنيه في عام 2017م)، وبالنسبة لمساهمة الدولة في تكلفة القمح فأنها تقدر بحوالي 2,7 بليون جنيه، وهي تعتبر تكلفة ضئيلة مقارنة بالأهداف السياسية والاجتماعية لدور القمح بوصفه المصدر الرئيسي للغذاء في السودان. فلم يعد استهلاك القمح مرتبطاً بالمدن الرئيسية، فقد أصبح في ظل حركة التمدن الواسعة بالبلاد، يمثل المصدر الأساسي للغذاء. فيكفي التصدي الواسع الذي وجدته سياسة النظام البائد بالاتجاه إلى تقليل حصص الدقيق، وزيادة اسعار الخبز في المدن الأخرى بخلاف العاصمة، فكانت تلك المناطق هي المصدر الأساسي لاشتعال فتيل الثورة بسبب هذه السياسة التي قصمت ظهر البعير المتهالك منذ زمن، في انتظار أن تقوي الجماهير من قبضتها وتأخذ زمام المبادرة نحو كنس هذا النظام، ولديها القدرة أن تواصل مدها نحو استكمال برامجها الاقتصادية والسياسية، بعيداً عن حقائب صندوق النقد الدولي وتوصياته غير المجدية. فرغم ما توصل اليه في قراءته السابقة لموقف الدعم من الوقود، والقمح عاد في إصدارته الأخيرة من (قضايا مختارة عن السودان، مارس 2020م) حيث يشير معدي الورقة إلى أن هناك مقداراً كبيراً من الدعم يتم تحمليه للميزانية العمومية لبنك السودان (باعتبار أن بنك السودان يحسب الدولار الجمركي بواقع 18 جنيه)، ويرون أهمية تحويل هذا الدعم إلى الميزانية العامة للدولة، أي تحويله إلى دعم مباشر، في الوقت الذي لا تدفع فيه الميزانية العامة أي اموال للدعم (كما اتضح أعلاه) وبذلك يسهل الحديث عن رفع دعم الوقود في السودان وتحميله للمستهلك مباشرة. بينما تقدم قلاع الرأسمالية دعم للطاقة ليس للمستهلكين ولكن للشركات الاحتكارية العالمية العاملة في مجال النفط، ويحرص صندوق النقد الدولي عن الحديث عن هذا الدعم، ولكنه يصفق ويطبل للوقوف ضد ما يسمى بالحرب التجارية مع الصين (أنظر صندوق النقد وامريكا حول المادة الرابعة 2019م).

وثمة حجة أخرى يدفع بها خبراء الصندوق في هذه الإصدارة الأخيرة، حيث يرون أن اسعار الوقود في السودان هي أقل من الاسعار العالمية. وهي كلمة حق أريد بها باطل، فمن الناحية الحسابية، وباستخدام شتى العمليات في هذا المضمار تبدو اسعار الوقود في السودان أقل من الاسعار العالمية. ولكن من الناحية الاقتصادية فان الأمر ليس كذلك. فوفقاً لهذه الإصدارة فإن اسعار الوقود في السودان في مقابلها العالمي (أي إذا قمنا بتصدير لتر من الوقود إلى تلك الاسواق) يكون سعرها منخفضاً وبواقع 0.14 سنت ( ) للتر البنزين وسعر الجازولين 0.16 سنت للتر (على اساس اسعار يونيو 2020م). ولكن رجل الشارع العادي لا يصدق هذا الحديث، ونحن معه باعتبار أن الخدعة الأساسية تكمن في استبعاد سعر صرف الجنيه السوداني مقابل الدولار في السوق العالمي والبالغة (0.018 سنت في يونيو 2020) وذلك ما توضحه البيانات أدناه:
{أنظر الصورة المرفقة: (قيمة منتجات الطاقة في السوق السوداني مقومة بالسعر العالمي في يونيو 2020م)..}..

فهذه هي القوة الشرائية للجنيه السوداني في الاسواق العالمية، والتي لا يرضى الصندوق ايرادها، فكما هو معلوم أن المغزى الأساسي للقوة الشرائية أو ما يطلق عليه “القوة الشرائية المعادلة Purchasing Power Parity (PPP) هو ان تكون وحدة النقد الخاصة بدولة ما قادرة على شراء نفس الكمية من السلع والخدمات من دولة أخرى، ووفقاً لسعر الصرف السائد. فإذا رأى الصندوق أن قيمة لتر الوقود في السودان أقل في سعرها عن ما هو في السوق العالمي فإن ذلك بسبب انخفاض القوة الشرائية للجنيه، وليس لأن الوقود مدعوم في السودان، وبالتالي لا يجوز القول بأن سعر الوقود في السودان أقل مما هو في الاسواق العالمية، وفي هذا إن قلنا أن الحد الأدنى للأجور في السودان (بالأجر الجديد) 3000 جنيه شهرياً فانه يعادل في السوق العالمي 54 دولار (باعتبار سعر الصرف 0,018 جنيه/ للدولار) ، بينما الحد الأدنى لأجر ساعة العمل الواحدة في امريكا (مثلا) 7,25 دولار أي ان أجر يوم عمل في امريكا يكون أعلى من أجر العامل السوداني في شهر. وربما يطل علينا أحدهما محتجاً بفارق الانتاجية للعاملين في الدولتين، مستوى التقدم التعليمي، والتدريب والتقنية…الخ. وهذه أيضاً تقابلها إنتاجية الجنيه السوداني (قوته الشرائية)، وعوامل تأكله، التضخم، السحب على المكشوف، انخفاض الإنتاج، نقص النقد الأجنبي…الخ. اذاً إن لم تجوز المقارنة في الحالة الثانية، فهي كذلك في الأولى. فيصبح كل منهما خاضعاً للظروف الموضوعية والقيم الاقتصادية التي تحكم وجوده، دون قسر لنقل القوة الشرائية للجنيه السوداني لتساوي القوة الشرائية للنقد الاجنبي في خارج السودان (فهذه هي مشكلات اسعار الصرف). فذلك ما عجزت عنه الوحدة النقدية الاوروبية من أن تحقق قوة شرائية واحدة بكافة دول العملة الموحدة.

ومن هنا نجد أنه كلما انخفضت القوة الشرائية لعملة دولة ما أمام عملة أخرى، يصبح معدل صرف عملتها منخفضاً في السوق العالمي ومن ثم تنخفض قيمة صادراتها، وهذا ما يسعى وراءه البنك والصندوق، ويعملان على تشجيع زيادة الصادرات في ظل انهيار قيمة الجنيه مقابل الدولار حيث أنه مهما زاد حجم صادراتنا فان عائدها دائما، يظل منخفضاً. وذلك بدلاً من أن يتم تشجيع الانتاج، وزيادة فرص العمل، والتوسع في الصناعات التحويلية للمنتجات الداخلة في هيكل الصادرات بدلاً من تصدير منتجاتنا خاماً وذلك لاستقرار اسعار المنتجات المصنعة، ومن ثم ارتفاع مستوى عائدات تلك الصادرات بدلاً عن تصديرها خاماً والذي تتعرض اسعاره للتقلبات وعدم الاستقرار.

د. صلاح طه
الميدان

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..