
ربما يتذكر كثيرون من أبناء قريتي على وجه الخصوص والقرى الأخرى عموماً، أشراك الطير بفكيها القويين حينما تطبق على قمرية أو دباسة أو ود أبرق سيء الحظ، تقدم في حماقة وشلاقة لا نهائية أنواع الطير الأخرى ليمس «هبِّار» الشرك، فيقع فيه مفسداً توقعاً جميلاً لصاحب الشرك في إصطياد دباسة سمينة أو قمرية حاول أن «يدودرها» بالمرور في اتجاه قريب منها، بما يجبرها على السير في اتجاه الشرك والوقوع فيه.. .و«الدودير» حيلة خبيثة أظن أن فكرة المخابرات في العالم قامت عليها، وربما فنون التحقيق والاستجواب التي تستهدف الإيقاع بالعناصر المرجوة في حبائل الشراك، أنسب مواقع نصب الشراك في قريتنا هي أماكن بقايا درس المحاصيل من قمح وذرة وفول، وتلك تعرف بالبرازات بفتح الباء وتكتنز دائماً بالقمري والدباس، لذلك تكون هدفاً مشروعاً لخرطوش عمنا عبدالله ود عايد في قرية الأركي- مجلس ريفي مروي سابقاً.. وربما واصل الأخ الدكتور فتح العليم عبد الله المهمة- العدوان على الطير- استمراراً لهواية والده الراحل والتي رأينا آخر مراحلها في الخلاء مصوبة ضد أسراب القطا في رحلاتها اليومية جيئة وذهاباً، صوب مصادر المياه للسقيا وربما الفسحة.
2
عندما كان شاعر الحب العذري الأموي قيس بن الملوح يمر عابراً لقرية الأركي لحضور عقد قران في نواحي منطقة كوري والسدر على صهوة جمل اسمه الأصهب، كان عمنا عبد الله ود عايد يولم لبعض أهله القادمين من العاصمة، حفيف النخل، وأصوات الرتاين، وقِرب المياه، والمفارش والبروش أمام البيت.. وضجيج النسوة صانعات الصواني الكبيرة داخل حوش ودعايد.. رحب الأهل بالشاعر القادم من عصور الهوى العذري، وحياه الوالد عبد الله:
– حبابك يا قيس اتفضل يا با.
-الله.. أنت بتعرفني يا حاج؟
-الله لا عِرفك.. أنت مش القال فيك النعام آدم:قلبي «بالسهل والوديان يدوح حالو حال قيس بن الملوح»؟
-أيوة يا حاج دا زمن كان الناس بغنوا للحمام، المشكلة هسع انت لا فضلت فيها حمامة لا قمرية لا قطا؟
-أنا خلني أنت القطا استفاد منك شنو؟
هنا رقرقرت عينا قيس بالدمع، ولاح له من بعيد خد الحبيبة ليلى وحسنها الأخاذ مخترقاً حجب الزمن والتاريخ فأنشد قائلا:
بكيت على سرب القطا إذ مررن بي
فقُلتُ ومثلي بالبُكاء جَديرُ
أسِرْبَ القَطا هَل من مُعيرٍ جَناحَهُ
لعلّي إلى من قَد هَوِيتُ أطيرُ
هنا أكتفى عمنا ود عايد بأن هز رأسه مليا منادياً ولده فتح العليم،«يا فتح العليم جيبلك صينية لي قيس دا والعرب المعاه يتعشوا وأربطله جمله في الشدرة ديك بعيد لا يخرت التمر، وأكسر له ورتابة يبيت معانا ويدينا قصيدة قصيدتين عن ليلى بس لا يجيب سيرة القطا دي تاني!!».
3
ما بين زخات رصاص خرطوش العم عبد الله الموجهة ضد القطا والقمري والدباس، ودموع العاشق قيس بن الملوح، تحتشد أنهار من أغاني الحب واللوعة والحنين في ديوان الغناء السوداني، توسلاً بالطير ومناجاة له، وشكوى لا تنقطع من ظلم الأحباء أو بعدهم وطول غيابهم.. يا طير يا طاير لوردي، وطيور مصطفى سيد أحمد الراحلة، وكل طائر مرتحل لعثمان حسين، وطير الرهو حمد الريح، والطير الخداري لعلي ابراهيم، وموله الطير الكاشف، وملك الطيور للجابري، ويا طير يا ماشي لى أهلنا لصالح الضي، ورائعة صلاح أحمد ابراهيم الطير المهاجر لوردي، وطيور السلام لسيد خليفة وغيرها، في مهاجرنا البعيدة، كثيراً ما تكون صور الطير موحية ومشجية، وربما كان أكثر الطيور التصاقاً بنا في المنافي ود ابرق ورفيقة دربه البخيْتة والقيردونة والقمري.
4
هنا في مدينتي البعيدة وأمام مقر العمل أشجار غريبة استوطنتها قمرية ظللت أرقب سلوكها، وهي تبني عشها وتستكين فيه بثقة وتوكل وتأمل ألحظه دوماً في عينيها البراقتين، يلحظني المارة ويعجبون لاستراقي السمع تحت الشجرة، متابعاً لصلة نشأت بيني وبين تلك القمرية، غابت لشهرين وعادت مع عودتي من رحلة خاطفة إلى الوطن، كان سلوكها غريباً متغنية بعمق حزين على عشها الذي كانت قد هجرته، كان صوتها مشجياً مبكياً، ومثلي من يحس بصدى الحزن في نشيد القماري التي يا طالما عالجناها أنا واخواني في البلد بشراك قاسية، نشتريها من دكاني ود عايد وعمنا عثمان ود علوبة، هذا بينما اشتهرت الشراك المشتراة من دكان خضر عبدالرحيم في جلاس بشدة بأسها وفعالية أدائها، فلم نسمع أن شركاً من دكانه «هبر» أو طارت به دباسة بعد أن وقعت فيه، ألمهم إن وجود تلك القمرية في جواري، ومرور أسراب ود أبرق مراراً هنا وهناك مع البقج والقيردونة، يجلب للواحد منا سلواناً خاصاً، خرج من منطقة الإلفة الى العشرة الطيبة بيننا وبين تلك الكائنات إلى منطقة الشعر والحنين على أسلاك ربابة حملتها الى هنا من بعيد:
يا قميرية الإغتراب نحن وانتي بقينا أحباب
جيتي لي بلدن جيتا يوم
ومن وراي خليتا أحباب
يوم عيونا اتلاقن سوا
شقت في عينيكي العتاب
سألتها عن القرية، عن تلال الرمال العاتية التي غطت منازلنا القديمة وقبور أحبابنا، ومراقد أجدادنا أجابت بأن الشجرالعابس الشائك يستأسد والنخل العجوز يتهاوى، الناس يهرعون نحو المدن وتهرم من ورائهم الزروع والضروع، بقع صغيرة من الخضرة هنا وهناك، ونيل أصبح كجدول حزين بعد انحسار الماء عنه، حين تم احتجازه في منطقة الخزان.. الثعابين والوحوش الكاسرة تستوطن المكان، وأبناء المنطقة تستهلكهم المدن والمنافي البعيد.. نظرت في عيني القمرية وهي تردد:
ما فضل فد زول في الجروفومن زمن ما ضقنا التساب
والضروع الجفت بقت تدِي لى شفعنا السراب
هنا تحسست بندقية عمنا عبد الله ود عايد، وقررت أن أسأل عنها الشقيق الدكتور فتح العليم عبد الله
د. عبدالرحيم عبدالحليم محمد
[email protected]
يا خوي انتوا بتشركوا للطير بأم كجامة ذات الفكين البتقص ساق الحبارة فكيف بالقمري والدباس؟؟ تخليهم سلطة! وللا بششرك الفأر الكبَّاس أو الكجَّام أبو ياي؟ انت الظاهر عليك ما شفت ولا شرَّكت ولكن حجوك وحكوا ليك!! نحن في كردفان كنا نشرِّك للطير بشرك اب دَلَز وهو خيط قوي تربط فيه عيون من سبيب ضنب البقر أو الخيل ومكان ربطة كل عين في الخيط تلزق قطعة من الطين اللزج تجف وتصبح كالحجر ومجموع هذه الدلزات يعطي الشرك ثقلاً فلا تطير به القمرية أو أبو منقور أو الدباسة عندما تنفرط إحدى عيون الشرك في ساقها! ومثل هذا الشرك يوضع في شكل دائري ويخفى خيطه ودللَزاته تحت التراب ولا تظهر إلا العيون السبيبية مثل أي نفايات على الأرض لا يرتاب بها الطير ويوضع الطعم (حب ذرة أو بطيخ أو قِحف أي قطع من البطيخ وسط الدائرة المحاطة بحلقات السبيب وعيونه المفتوحة. وعادة يمسك باثنتين أو ثلاثة في ذات الوقت، ولابد من اللحاق بها بسرعة لامساكها واعادة وضع الشرك وإلا فلن يقبض ثانية بعد أن أفسدت وضعيته فرفرة الصيدة الأولى. وبالطبع هناك أنواع أخرى من الشراك مل الكفوية أو أم كفوة باستخدام ريكة أو طبق مقعر كبير أو شبكة وهذه تكون عادة للزرازير والعصافير الصغيرة فيوضع الطعم في مكان إنكفاء الريكة عند سحب عود الركيزة التي ترفع طرفها إلى أعلى أو الشبكة التي توضع مقلوبة للخارج وعند سحب حبلها – وهناك شرك الهُرَّب وهو ثقل من الرمل أو الطين يوضع على شبكة من القش والفروع المورقة ويرفع إلى أعللا ويثبت بركيزة حرجة التوازن والاحتمال لحمولة الرمل أو طين ويوضع الطعم خلف الركيزة نحو الداخل وعندما تلمس الصيدة هذه الركيزة تتحرك أو تنكسر فيقع سقف الشرك عليها. والهُرَّب عادة ما يستعمل لصيد القوارض كالفئران والأرنب والقطط البرية والبعاشيم ولكنه قد يستخدم لصيد الطيور الكبيرة مثل الحبارة ودجاج الوادي الكانو وأم عكّار إلخ
وهناك شِراك أخرى كالنُبّال أو النبّال (وليس النِبال جمع نِبلة) وهو شرك للطير الكبير مثل الحبارة والكانو والصقور وللحيوانات كالبعشوم وقط الزباد وطريقته تثبيت فرع أخضر قوي في حفرة في الأرض و حَنْيِ طرفه الآخر في شكل قوس إلى الأرض وربط حبل في هذا الطرف وعمل عين منفرطة من طرف الحبل وفتحها في طريق الحيوان بحي لا يمر إلا عبرها وذلك بتييق جوانب الممر وسدها بعوائق من القش والشوك ونحوه من البيئة المحيطة. فإذا مر الحيوان جذب معه الحبل فأطلق رأس الفرع المتنِي نحو الأرض انطلق من محبسه ونَبَل بقوة إلى أعلى آخذاً معه الحيوان في الهواء إن كان الفرع يتحمل ثقله وإلا فإن انفراط عين الحبل على جسم الحيوان فيبقى مربوطاً ربطة مشدودة بقوة مقاومة الفرع للانحناء إلى حضور الصائد.
وهناك الشرك المطمور وهو حفرة بحجمٍ وعمقٍ حسب حجم الصيدة المقصودة فحفرة صيد الفأر بالطبع ليست كحفرة صيد الثعلب وطريقته بحفر الحفرة في مظان الطرق التي يسلكها الحيوان أو قريباً من مسكنه أو مخبئه أو المكان الذي يأتي ليرعى ويرتع فيه وتغظى بفروع هشة وتعرش بطبقة خفيفة من القش أو الرمل حسب البيئة من حولها حتى لا يبدو مظهرها شاذاً ومريباً للحيوانات الليلية الحذرة عادة والتي تحفظ مسالكها بالفطرة. هنا وزن الحيوان هو الذي تعتمد عليه فكرة الشرك المطمور.