مقالات وآراء

إعادة تفعيل دور وزير الخارجية

د. محمد حسين شرفي

أن منصب وزير الخارجية في كل دول العالم يحمل الكثير من الأهمية والوزن داخل الحكومات، حيث تعتمد قدرة الوزير على التأثير وتشكيل سياسات دولته على عدد كبير من العوامل منها تفكيره الاستراتيجي وقربه من رأس الدولة وشكل شخصيته. منذ استقلال السودان تقلد مهام هذا المنصب وزراء كان لهم دور بارز في تشكيل علاقات السودان الخارجية من خلال وضع خطط فاعلة للدولة لانخراطها على المستوى الدولي كان أبرزهم دكتور منصور خالد ومحمد أحمد محجوب ومبارك زروق وأحمد خير. كان لهؤلاء الوزراء والدبلوماسية السودانية دور أساسي في لعب أدوار مهمة على المستوى الإقليمي كجهود الوساطة بين الفصائل المتحاربة في الحرب الأهلية اليمنية في الستينات والنزاع الحدودي بين العراق والكويت، والمساعدة في تخفيف حدة النزاع بين الجزائر والمغرب عام 1962، إلا أن الإنجاز الدبلوماسي الأكبر كان تحقيق المصالحة بين الدول العربية عندما عقدت الخرطوم القمة العربية عام 1967 بعد نكبة يونيو 1967.

وصلت مؤسسة وزارة الخارجية خلال فترة الإنقاذ الى مستوى الحضيض نتيجة لسياسات الدولة في التمكين، ولم يتقلد هذا المنصب خلال فترة الإنقاذ شخصية ذات رؤيا أو كاريزما تسعى لتحقيق مصالح السودان الوطنية، وإنما كان التركيز في العمل الخارجي على حفاظ الإسلاميين على الحكموالسلطة. أتت الإنقاذ بعلي سحلول التي شهدت الوزارة خلال فترته مجزرة تاريخية بالفصل والصالح العام لعدد كبير لخيرة الدبلوماسيين، ثم تولاها دكتور حسين سليمان أبو صالح الذي وصف فترة توليه بالشيزوفرينا في إدارة شؤون الدولة على المستوى الخارجي، كما تولى المنصب شخصيات مثل على عثمان ومصطفى عثمان إسماعيل وعلى كرتي بكل حمولتهم الأيدلوجيةوالأمنية وغياب رؤيا تجاه وضع السودان إقليميا ودولياً ووجود مراكز قوى مختلفة في الدولة.

أصبحت السياسة الخارجية خلال تلك الفترة مأساة حقيقية من أبرز مؤشراتها أن أصبحطه عثمان الحسين مدير مكتب الرئيس المتنفذ الأول في سياسة السودان الخارجية وإعلانهانضمام السودان للحرب في اليمن دون معرفة مسبقةلوزير الخارجية بهذا القرار إلا من المذياع،كما تمثل الانحدار في قوله متفاخراً في سياق حصوله على الجنسية السعودية “أن العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز استأذن رئيس الجمهورية عمر البشير عبر اتصال هاتفي قبل منحي الجنسية السعودية.”لقد كانت ثلاثين عام الإنقاذ من أسوأ فترات وزارة الخارجية منذ استقلال السودان حيث شهدت تردي كبير في نوعية الكوادر التي تمثلها وغابت عنها الرؤية وتم إهمال دورها من قبل الدولة.

مع قيام الثورة أصبح هناك توقعات كبيرة بتفعيل دور مؤسسة الخارجية في رسم وتشكيل سياسات السودان دولياً، خاصة وأن إعادة السودان للمجتمع الدوليوالحشد لدعم ثورته، وتقديم وجه جديد عصري مختلف عن المشهد التراجيدي للإنقاذ من تشدد وتزمت وانزواءقضية مفصلية للعهد الجديد.

لقد كان منصور خالد عراب فكرة السودان كجسر بين العالم العربي والقارة الأفريقية وطبق هذه الرؤيا بنجاح على المستوى الدبلوماسي، إلا أن كل الحكومات فشلت في هذا المسعى منذ ذلك الوقت. هذه الوزارة في الوقت الراهن تحتاج الى دعم كبير من الدولة وإعادة بناء بشكل ممنهج، إلا أن الناظر حالياً لوضع سياسة السودان الخارجية يعكس التشتت في المضمون والشكل من غموض واضح في قضايا مهمة في المنطقة كصراع المحاور والوضع في ليبيا وعدم تقديم مبادرات لإرساء مفهوم آفرو-عربية السودان ومد الأيادي للقارة الأفريقية من خلال برامج وخطط فعلية على الأرض. لقد لعب التشرذم السياسي داخليا وديناميكية عمله والوضع الاقتصادي دوراً كبيراً في رمادية وغموض مواقف السودان على الرغم من محاولات رئيس الوزراء واستخدام الكاريزما في الدفع بتقديم سياسة خارجية يشار إليها بالبنان. في هذا الإطار، وعلى الرغم التعقيدات الكبيرة في الأوضاع الإقليمية والدولية إلا أن هناك الكثير من الفرص والإمكانيات التي يمكن استغلالها داخل هذه التشابكات لتحقيق المصالح الوطنية وتثبيت دعائم الحكم المدني، خاصة وأن الكثيرين يرون في التوجهات الحالية هي إضعاف وتقويض تدريجي بهدوء لإرساء حكم ديمقراطي مستقبلي.

يعتبر اختيار وزير الخارجية القادم أمراً فائق الأهمية، خاصة وأن الفترة القادمة مرحلة رئيسية في تأسيس السودان الديمقراطي وتعبئة المجتمع الدولي ودعمه للنظام المدني ووضع الأرضية الصلبة لمؤسسة وزارة الخارجية والقيام بدورها المرتجى بعد انتهاء الفترة الانتقالية. وعلى الرغم من قيام الثورة منذ أكثر من عام وربطها بالشباب والحيوية، إلا أن الكثيرين في المنطقة يرون أن السودان بشكل عام لا زال يحبو في وضع سياسة خارجية ذات أثر تحترم إقليمياً ودولياً.

من ثم، يجب على كل القوى السياسية الحاضنة ورئيس الوزراء التوافق على قدرات شخصية وعملية كبيرة ومهمة عند الترشيح لهذا المنصبتتضمن الكاريزما والخبرة في التعامل مع السياق الدولي والرؤية وتحديد الأولويات والوضوح فيما يود أن يفعله وبما يتماشى مع الوضع في البلاد، إضافة لمهارة الاتصال العالية وكذلك القدرة على تحدي النهج المتبع في السياسة الخارجية حالياً بما يحقق المصلحة الوطنية دون الإضرار بعلاقات السودان المتوازنة.

إن الوزير الجديد يحتاج الى الدفع بأن يجعل مؤسسة وزارة الخارجية والتي تم تهميشها لسنوات طويلة هي المحرك الرئيسي في السياسة الخارجية خلال الفترة القادمة، كما عليه التفكير خارج الصندوق لإيجاد حلول آنية وسريعة فيما تحتاجه الدبلوماسية السودانية من قدرات في العمل المتعدد الأطراف والاستفادة من الخبرات المتنوعة الموجودة في المنظمات والمؤسسات الدولية في هذا الشأن.

في هذا السياق، أشار جوناثان بأول كبير مساعدي توني بلير رئيس الوزراء البريطاني السابق الى تنامي دور رئيس الوزراء في السياسة الخارجية، مع انتشار الاتصالات الحديثة وانتشار مساعدي السياسة الخارجية للرؤساء ورؤساء الوزراء في جميع أنحاء العالم، مما أدى الى تقلص دور وزير الخارجية، كما قال هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي السابق “يجب ألا يعتقد وزير الخارجية أن سلطة الكرسي الذي يجلس عليه وحدها هي ما سيقوده للنجاح حيث سيصبح بذلك مهمشاً، بل فعاليته ترتكز في كونه يستطيع أن يصل الى داخل رأس الرئيس.”

لذلك من المهم أن يكون الوزير القادم على تماه وتفاهم كبير مع رئيس الوزراء من خلال مقدراته في الإقناع والتواصل مع كل الأطراف بما فيها الحاضنة السياسية للحكومة على المستوى الداخلي لإيصال أفكاره وأهدافه. في نفس الوقت يجب أن تفهم كل القوى السياسية أن السياق السوداني الشائك والمعقد إقليمياً ودولياً وكذلك سياسيا واقتصاديا واجتماعيا على المستوى المحلي يدعو الى مؤسسة ثابتة لها القدرات البحثية والفكرية والتي تستطيع تقدم الخيار الأفضل لأي سياسة خارجية في السياق الدولي.

هناك تحديات جسام أمام الوزير القادم منها رفع اسم السودان من الإرهاب، والتعامل مع صراع المحاور، وإعادة بناء وزارة الخارجية، وقد ظهرت بعض الأسماء حتى الآن في وسائل التواصل الاجتماعية والإعلام لا تستطيع الاضطلاع بمسؤولية وزارة من هذا الوزن الثقيل، وغاية في الحساسية تحتاج لاختيار دقيق وموفق. في هذا السياق يجب أن يدرك رئيس الوزراء الى حاجته الى شخصية ذات كاريزما ولباقة ومقدرات الى جانبه خاصة وأن ملف العمل الخارجي يحتاج لعمل متنوع ومستمر.

إن أي وزير قادم سيكون له فرصة في إنعاش وبناء الثقة بشكل أكبر في السياسة الخارجية من خلال إدارته وفعالية رسالاته الدبلوماسية للمجتمع الدولي وقدرته على التنسيق لتنفيذ أجندته داخلياً. سيكون هناك أيضاً فرصة لقيادتهلنقاش واسع حول سياسة السودان الخارجية في سياق ما بعد الثورة وانفصال الجنوب، حيث كان هذا الحديثغائباً بشكل واضح.يقول مايكلنولانلاتفكربالأحلامالتيتناسبقدراتك،فكربالمقلوب:فكربالقدراتالتيتناسبأحلامك.

د. محمد حسين شرفي

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..