مقالات وآراء

السودان وعالَم شيلوك المرابي

لا شك أننا لا نستطيع التعاطي مع السياسة الدولية باعتبارها مجالا أخلاقيا، مع ذلك، ما زلنا نرجو أن تتسم السياسات الخارجية للدول بحد أخلاقي أدنى، أو تتوفر على غطاء أخلاقي مقبول، أو حتى ملتبس، لما تقوم به هذه الدول من ممارسات خارجية فاسدة. ذلك أنه رغم التمويه والتضليل، ما زال هناك طيف رأي عام عالمي، وما زالت هناك شبهة تأثير شعبي على السياسات في دول العالم، والأمل أكبر قليلاً في “العالم الحر”.
وعلى النقيض مما نرجو، فإن مأزقنا الحاضر مع قائمة الإرهاب الأمريكية، مع شرط تسوية مطالبات التعويضات قبل الرفع من القائمة، يحمل الكثير من الشبه مع موقف شيلوك ضد أنطونيو في مسرحية شكسبير “تاجر البندقية”، حيث أصر شيلوك على تنفيذ الشرط الجزائي بأخذ رطل من لحم أنطونيو على حسب العقد! وبغض النظر عن تفاصيل المسرحية الأخرى وجدل معاداة الساميّة وأخلاقيّة مواقف شخصيّاتها، إلا أن ما ينطوي عليه موقف شيلوك من التعنت النصوصي القانوني بلا اكتراث لعدالة النتائج هو عين المعضلة الحاصلة.
هذا الاستهتار الغير مبرر بمصير بلد أربعين مليون إنسان من أجل بعض الألاعيب القانونية لهو أمر غير مسبوق، البلد الذي يعاني تكالب المؤامرات الداخلية والخارجيّة في زمن الجوائح والفيضانات. لا يمكن تبرير هذه الدناءة بالبيروقراطية الحكومية أو رعاية الدول لمصالح ضحاياها. أن تصر على اقتطاع تعويضات الضحايا من “اللحم الحي” وتضعها فوق مصير عشرات الملايين مِن مَن يقفون على حافة الهاوية، استهتار بالحياة البشرية للجموع يُذكِّر باستهتار النازية. أم هو الوضع الأفريقي الطبيعي المكتوب عليه البقاء على هامش العالم ورأيه العام؟ حيث يجد الضحايا الأفارقة حقّهم فقط عندما يكونون داخل “قلعة العدالة”، في نفس اللحظة التي يتم فيها دفع ضحيا الإبادة الجماعية نحو الجرف المتهالك للأمن والمجاعة.
وصف المطالبات الأمريكية بـالألاعيب القانونيّة ليس زلّة لسان في ساعة انفعال، فمن الصعب إيجاد وصف لطيف لإصرار بعض الضحايا على أخذ حقوقهم من الرّمق الأخير لضحايا آخرين أكثر بؤساً وتوفير الغطاء الحكومي القانوني لذلك، مما يحوّل الضحايا “المهمِّين” إلى شركاء في صنع المآسي الجديدة، ففي غابة العالم هذه، يصبح القانون أداة تتجلّلى عن طريقها القوة المنفلتة عن عقال كل ما هو أخلاقي.
استصغار معاناة ضحايا الإرهاب تقع في الحد الفاصل بين انعدام الحساسية والتعاطف الإنساني وبين الإرهاب نفسه، ومع تفهمنا للمآسي الإنسانية الكبيرة التي تعرض لها ضحايا الأحداث موضع التفاوض، فإننا نؤاخذ بعض المتأثرين الذين يحاولون بناء قصور من جماجم ضحايا الماضي والمستقبل من غير ذوي الحظوة والنفوذ، أو الذين أوكلوا الأمر لضواري المحامين والساسة بدون تكبد عناء التفكير في الكلفة الإنسانية لمطالباتهم، وهم بذلك يبصقون على ذكرى من ذهبوا ويبتذلون مأساة الأحياء. هذا من دون تعميم للملامة، إنكار للمعاناة أو تقليل من حجم المأساة.
مبالغ التعويضات قد تكون نقطة في بحر الإنفاق الأمريكي على المساعدات الدولية فقط، والمنح الأمريكية لدول منفردة قد تحسب بالمليارات سنوياً، لذلك فإن الدوافع الحقيقية لاستمرار هذه المهزلة تبدو غير واضحة؛ هل هي عقيدة بروقراطية متجذرة، أم هو مفهوم شكلي للعدالة؟ لا أعتقد أن الأمر خارج عن نطاق الإرادة السياسيّة، وتخوف من السياسيين الأمرييكين من حمل “جريرة” تخليص السودان من استفراد المفترسين القاسين من مواطنيهم، وهو البلد الأجنبي جنوب الصحراء، حيث خُلِق الناس لتكبد المعاناة والموت المجاني.
إذن، كيف نجابه هذا الوضع المجحف والثورة تعاني وهن الحصار وطعنات المتآمرين؟ يجب علينا أن نتعامل مع المجتمع الدولي من منطلق تفهم الدوافع ثم محاولة التأثير عليها، وأن لا ننسى أننا ما زلنا نأمل أن نستطيع التعويل على الغرب الديموقراطي كأحد أثقال ميزان القوى المائل نحو ما ننشد. يجب علينا أن نستلهم ماضينا القريب ونعيد سن وسائلنا الثورية لإيصال صور المأزق والمأساة والتأثير على الرأي العام العالمي، يجب على جالياتنا في المهجر رفع مستوى النشاط إلى درجة الطوارئ، لتقوم بتنظيم الفعاليات، التواصل مع ضحايا التفجيرات، منظمات المجتمع المدني، نجوم المجتمع، جماعات الضغط والسياسيين المؤَثرين، بهمة وإصرار ومشاركة واسعة إلى حين الخروج من عنق الزجاجة. وفي سبيل إطلاق الشرارة لمثل هذه الأنشطة وإيجاد مكان في نشرات الأخبار وأجندات السياسيين، يجب على الحكومة الانتقالية أن تشد شعرة معاوية قليلاً، أقترح أن تقوم الحكومة بالبحث عن خطوة تصعيدية للتعبير عن إحباط الشعب السوداني من هذا التصلب واللامبالاة، خطوة مثل تجميد المباحثات مع طالبي التعويضات، وطلب تحديد مدى زمني صارم للعملية. كذلك، يمكن أن تقوم الحكومة بالبحث في مقترحات تم تداولها حول اقتطاع التعويضات من الأموال المنهوبة المستردة من الخارج، واستعجال هذا الاسترداد بعمل دراسة مع الجانب الأمريكي حول خطة العمل القانونية، والاستفادة من النفوذ الأمريكي على الأنظمة العالمية، فهذه الأموال هي مسروقات النظام الذي صُنِّف إرهابياً، وهي تمويل كامن للإرهاب العالمي ومهدد لعملية الانتقال في السودان.
أصبح الوقت ملائماً لوقفة حازمة، والدلائل تشير إلى أن الإدارة الأمريكية في انبهارها بمستوى الليونة والاستسلام السوداني الغير متوقع، هرعت إلى البحث عن تنازلات جديدة لتضيفها إلى البيعة مما لم تكن تضعه في الحسبان. نحن الآن الطفلة الجنوبية في صورة المجاعة الشهيرة، ولكن صقوراً كثيرة يسيل لعابها: سماسرة تعويضات السفارات والمدمرتين و11 سبتمبر، وإسرائيل الطامحة للتطبيع، وربما تكون هناك بقيّة للصف خلف الزاوية. فمع عالم اليوم المجرد من الرؤية والحس التاريخي يتم تضييع فرصة فتح بوابة الزمن، حيث الشعب السوداني في أقرب موقع من المنظومة الغربية، واضعاً قيمها تحت الاختبار. استمرار هذا الخذلان الرهيب لا بد أن يقضي على الثقة المزعزعة أصلاً في كل ما يحاول العالم الغربي الانتساب إليه من قيم، وهذا ليس عرَضاً طفيفاً لأزمة كبيرة، بل عامل مهم في التأثير على توجهات الجماهير التي سوف ترسم مستقبل البلاد وتحدد موقعها من قوى العالم.
على الحكومة أن تصحو من حالة الإذعان المتطاول هذه، وأن تفكِّر خارج الصندوق وتدرس خلطة للحل تبدأ بالقيام من حالة الركوع لـ “ضحايا العالم الأول” وشاحذي السكاكين الشيلوكيين، ثم تقديم مرافعة للرأي العام العالمي مع عرض بديل يربط مصالحنا في الخروج السريع من قائمة الشؤم واسترداد الأموال من جهة، بالمصالح الأمريكية في تعويض أكبر للضحايا وتجفيف تمويل الإرهاب العالمي من جهة أخرى. فالخوف أن تواصل الأطراف تعاطيها مع مصائر الملايين كأوراق معاملة تائهة تتلاطمها برودة الأيادي البيروقراطيّة.

هشام عوض
[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..