تعتبر التظاهرات السلمية التي نظمها شباب مقاطعة ملوط الواقعة شمالي ولاية أعالي النيل قبل أيام، واحدة من التطورات المهمة جدًا التي يشهدها جنوب السودان منذ التوقيع على اتفاق السلام المنشط في أيلول/سبتمبر 2018، إذ أنها تحلت منذ يومها الأول بالسلمية وحملت مجموعة من المطالب والقضايا المشروعة التي تحتاج إلى حلول وتدخلات وقتية وعاجلة من السلطات الحكومية المركزية في جوبا، والشركات العاملة في مجال النفط بالمنطقة التي يستقر سكانها إلى جانب آبار النفط والمياه الآسنة التي تطرح في العراء مما يستبب في التلوث والموت وتدمير البيئة الطبيعية للمنطقة، والتي تعتبر واحدة من ثرواتها الدائمة عكس مورد البترول غير المتجدد.
خلال السنوات القليلة المنصرمة، ظلت شركات النفط العاملة في جنوب السودان، تتحجج على المواطنين المقيمين في مناطق الإنتاج النفطي فيما يتعلق بالتقصير في تقديم الخدمات التي تتوجبها المسئولية الاجتماعية للشركة، بغياب القوانين المنظمة للعلاقة بين الشركات والمجتمعات المحلية، وظلت الفرص المتاحة أمام تلك المجتمعات منحصرة في العائدات التي خصصها الدستور للمجتمعات المنتجة كتعويضات وكنسب للتنمية، إلا أن هناك شكاوى عديدة من عدم وصول تلك الأموال والمبالغ للمجتمعات في شكل مشروعات وبرامج تنموية، الشئ الذي خلق حالة من التوجس المتبادل ما بين المجتمع المحلي والقيادات السياسية والبرلمانية التي طالما أنكرت وضع يدها على تلك الأموال، وتبددت أحلام وتوقعات المجتمعات المتضررة في مناطق الإنتاج في متاهة من الاتهامات المتبادلة والنكران المحير للسلطات.
من خلال تأمل قائمة المطالب التي رفعها شباب مقاطعة ملوط في تظاهرتهم السلمية التي سرعان ما تحولت لاعتصام كبير أمام مقر الشركة النفطية العاملة في المنطقة، فإننا نجد اهتمامًا كبيرًا من الشباب بمعالجة الأثر البيئي المدمر للإنتاج النفطي الذي لا يتبع إجراءات ومعايير السلامة المطلوبة في التخلص من المواد الكيميائية والمخلفات النفطية، وما يتسبب فيه ذلك من أضرار على صحة الإنسان والحيوان في المنطقة، تأتي بعد قضية البيئة بقية القضايا المطلبية الأخرى مثل توفير فرص العمل للشباب بالمنطقة، كما يتضح من خلال البيانات والتصريحات التي أدلى بها قادة هذا الحراك السلمي، أن الشركة كانت قد وعدتهم مرارًا بالنظر في تحقيق المطالب التي رفعها سكان المنطقة والمتمثلة في مياه الشرب النقية، الطرق المعبدة وتأهيل المستشفى الوحيد بالمنطقة الذي يعاني من الإهمال الوضح.
من الواضح جدًا أن المطالب المتراكمة لمواطني مقاطعة ملوط، والتي قد لا تختلف كثيرًا عن مطالب مواطني بقية المناطق النفطية الأخرى ومناطق التعدين عن الذهب، قد بدأت بسبب المماطلة في حلها، مقرونة مع بعض التداعيات التي افرزتها الأوضاع السياسية الراهنة في جنوب السودان في أعقاب توقيع اتفاق السلام بين الحكومة وجماعات المعارضة الأخرى، فتحولت تلك المطالب بشكل تدريجي إلى مظالم متراكمة، قد يحتاج حلها لآلية متكاملة تنظر في الأسباب الجذرية وراء تلك الأزمة وسبل مخاطبتها بشكل محايد لا يربطها بأي مواقف داعمة ومؤيدة لتلك القضايا من قبل أي طرف من الأطراف السياسية والمدنية، فالابتعاد عن نظرية المؤامرة هو الذي سيقود الجميع إلى معالجة المطالب المشروعة والسلمية لمواطني مقاطعة ملوط وكافة مجتمعات شمال أعالي النيل التي كانت تتوقع أن تنعكس عليها ثروة أراضيها بالتنمية والرفاه والاستقرار.
يأمل الجميع أن يقود هذا الحراك الحقوقي المطلبي السلمي والمشروع لمواطني مقاطعة ملوط بولاية أعالي النيل إلى النظر في تكوين آلية للمتابعة تمثل شتى المكونات المنضوية تحته، وأن يتم ذلك عن طريق مظلة تضم التكوينات المدنية الممثلة لمختلف الفئات والكيانات الفاعلة، وتمثل (الجسم) الذي يعبر عنهم، حتى لا يتم تجاوزه في مراحل التفاوض مع الجهات المعنية، وكذلك لإبعاد الملف عن يد الساسة وأصحاب المصالح الآنية، حتى لا تتم المساومة بمطالبهم بالمكاسب الفردية كما سبق وأن حدث في المرات السابقة، فوجود مثل تلك الآلية ينتج قيادة يتركز اهتمامها بقضايا المواطنين وتتمتع بالقبول لدى الجميع.
اتيم سايمون