مقالات متنوعة

لغة الشايقية القديمة من منظور تاريخي (الأخيرة)

لغة الشايقية القديمة من منظور تاريخي (الأخيرة)
جاي سبولدنق
ترجمة د. محمد عبدالرحمن أبوسبيب
The Old Shaiqi Language in Historical Perspective
Jay Spaulding
History in Africa 17 (1990), pp. 283-292.

من المترجم:

ما تشهده بلادنا ليس ثورة سياسية فقط، لكنها ثورة ثقافية شاملة كما يرى ويرجو الكثير من الناس. ويجري هذا الحدث الثوري على خلفية تغييب ممنهج لوعي قطاع واسع من الأجيال بتاريخ البلاد وثقافاتها، وما رفد هذا التاريخ من نظريات وآراء حملتها مدارسه قديمها وجديدها. وأسوأ نتائج هذا التغييب وأخطرها ليس فقط تعتيم الفهم بتاريخ الشعوب السودانية بل أدلجة هذا التاريخ واختزاله في “عقيدة تاريخية” فحواها عملية أسلمة وتعريب جارية لهذه الشعوب بدأت مع دخول جماعات عربية في القرن السابع الميلادي. أدّى هذا الاختزال إلى حالة انفصام في استشعار الهوية في أهم مستوياتها: الاثني والوطني، كما أصبح، هذا الاختزال، رافعة أيديولوجية تملكتها الطبقة الحاكمة منذ الاستقلال ضمن استراتيجيتها لحكم البلاد فكان أساس الأزمة الوطنية.

وكل ذلك أدى إلى تشويه، إن لم يكن غياب، الإدراك الصحيح للهوية، باعتباره مكون أساسي في منظومة القيم التربوية الفردية والجماعية يتغذى عليه الشعور بالارتباط والولاء الصادق للوطن. وربما أفضل السبل “لتفكيك” (بلغة أنصار ما بعد الحداثة) هذه العقيدة التاريخية، التي ترسخت أكاديمياً في المدرسة التاريخية القديمة واستقرت كمسلّمة في الفهم العام، هو العمل من خلال دراسات محدودة ومُحكمة في نماذج مصغّرة microcosmic paradigms تتناول عناصر المكون الثقافي لشعوبنا من لغات وفنون وعادات ومعتقدات، إلخ، مثلما نراه في هذا البحث الذي نحن بصدده، وهو نهج بحثي مطروق بالطبع في العلوم الاجتماعية والإنسانية.

والمؤرخ المعاصر بروفسور جاي سبولدنق من أعمدة المدرسة التاريخية الجديدة في ارتكازها على نظرية الاستمرارية التاريخية في مسار الحضارة السودانية كما أسس لها علماء المدرسة الآثارية الجديدة، ومن أهم إنجازات هاتين المدرستين إعادة النظر في تفسير عملية التلاقح الثقافي وتصحيح معادلتها، أي أن ما جرى، وما زال، هو استيعاب الثقافات السودانية وهضمها للوافد من العناصر الثقافية، بما فيها الوافد الإسلامي والعربي، وليس العكس؛ وبلغة أخرى هو عملية سودنة Sudanization process وَسَمت السيرورة التاريخية للشعوب السودانية عبر تاريخها. وهذا في واقع الأمر “قانون عام” في فعل التلاقح الثقافي في تاريخ الشعوب.

أكمل سبولدنق رسالته للدكتوراه حول دولة الفونج في جامعة الخرطوم في السبعينيات، ثم نشر مؤلفه الهام “عصر البطولة في سنار” في 1985 والذي ترجمه المؤرخ أحمد المعتصم الشيخ؛ كما له العديد من الأوراق يعمل هذا الكاتب في ترجمت بعضها لأهميتها. هذا وتشتمل دراسته هذه على ملحق بسجل لأكثر من ثمانين من المفردات اللغوية غير العربية في لغة هذه المجموعة اعتمد عليها في بحثه وتحليله، لكن رأينا، كاختصار لهذا النص المنشور، عدم تضمينه والاعتماد على ما ورد في متن الدراسة من العديد من هذه المفردات وشرحها وتحليلها. ويمكن القول أخيراً، أن هذه الدراسة تُلقي ضوءً كاشفاً ليس فقط على الموروث اللغوي للمجموعات المتحدثة بالعربية في وادي النيل وما حوله، لكنها تضع بشكل حاسم في دائرة الضوء هذه مجمل ميراث هذه المجموعات من فنون ومعتقدات وعادات وملامح وأصولها الممتدة في العصور الكوشية والمسيحية. فإلى نص الدراسة.

ليس في اللغة النوبية أداة تعريف أو نفيْ. فإذا أشرت إلى شيء ما وسألت بالنوبية عما يكون، تكون الإجابة عادةً في صيغة المفعول به معينة بأداة إلحاق. وأفضل دليل على الخاصية النوبية للغة الشايقية القديمة كما تبقت في وثائق النضيفاب تكمن في الاستخدام الشائع لأداة الإلحاق النوبية هذه وهي “قا” أو “كا” كما تشهد على ذلك مفردات مثل دانقا، تمرقا، كدنقا، سفروقا، كسكسيقا، كوريقا، سبلوقا، مكدناقا، سبيقا، سلوكا. وقد يلاحظ المرء أن الكلمات التي تنتهي بحرف القاف والكاف في العربية واللتان بغياب حروف الجر ربما تخفيان أمثلة أخرى مثل شايق وباداق وإرموق وشبيك وشلاّك. بالإضافة للكلمات الأفريقية التي تحمل هذه المقاطع بوضوح يمكن للمرء أن يلاحظ وجود مفردات عربية مثل تمرقا وسفروقا والتي جرى نوبنتها في السابق عن طريق الإستلاف لتسهيل استخدامها الاصطلاحي في لغة غير العربية. من هذا المنظور، من السخرية أن نرى لفظة التمرقا تكتسب أداة التعريف العربية في وثائق النضيفاب في القرن التاسع عشر عندما تم تكييفها للاستخدام في العربية؛ هذه اللفظة المحدَثة شبيه بالصياغة الإنجليزية الركيكة لكلمة الكوران “the Alcoran” أو الصيغة الإسبانية الفصيحة “el arroz” (الأرز، المترجم.)

تتكون اللغة النوبية المعاصرة في وادي النيل من لغتين مترابطتين، أُشكِر (وتسمى أحياناً الكنزية أو الدنقلاوية) وتتحدث بها الغالبية العظمى من النوبيين القاطنين بين إقليم الشايقية والحدود اللغوية الفاصلة بين اللغتين النوبية والعربية المصرية. والثانية تسمى المحسية أو الفدجا ويتحدث بها القليل من النوبيين في المناطق المجاورة لكرمة. بسبب القرب الجغرافي والتفاعل التاريخي اللصيق شهدت هاتان اللغتان تجربة ممتدة من الإستلاف المتبادل للكلمات، لذلك من الأفضل تحديد البعد اللغوي بينهما من خلال مقارنة المعالم النحوية بدلاً من دراسة معجم الكلمات. إحدى هذه المعالم النحوية، والتي يمكن أن تؤخذ كتشخيص بغرض التصنيف، هو تفضيل اللغة المحسية لأداة الإلحاق “قا” أو “كا” بدلاً عن “قى” أو “كى” في أُشكِر، وعلى هذا الأساس يمكن للغة الشايقية القديمة أن تُنسب إلى المحسية بدلاً عن أُشكِر.

لغة الشايقية القديمة في السياق التاريخي

شكل توزيع اللغات النوبية المعاصرة في وادي النيل شيئاً من الحرج بالنسبة لمؤرخي السودان القديم. ذلك أن اللغة النوبية الكلاسيكية باعتبارها اللغة المكتوبة في الممالك المسيحية في العصور الوسطى هي، خلافاً للمنطق وكل التوقعات، سلف اللغة المحسية وليس أُشكِر. لم يكن من السهل التوفيق بين التفسير التاريخي والحقيقة اللغوية؛ فتحت أي ظروف متصورة أمكن لقلة من متحدثي النوبية المحسية في ذلك الوقت أن يفرضوا لغتهم على العدد الكبير جداً من متحدثي أُشكِر؟ يرى الآثاري المعروف علي عثمان محمد صالح أنه ليس من إجابة مقنعة لهذا السؤال طالما استمر الباحثون في تصورهم لنوبيا في العصور الوسطى على ضوء الحدود الجغرافية الحالية للغة النوبية في وادي النيل.

وهذا الخيار للغة المحسية السلف باعتبارها اللغة المكتوبة في العصر النوبي الوسيط يكون منطقياً فقط إذا افترض المرء أن جماعات كثيرة تحدثت بها في ذلك الوقت أكثر مما هو جاري الآن، وأن هذا الثقل السكاني السابق والمعادل للأكثرية المتحدثة بأُشكِر في الوقت الراهن ينبغي البحث عنه خارج المجتمع المعاصر المتحدث بالنوبية، وهو ما يمكن تصوره بين الجماعات “العربية” المجاورة مثل الشايقية والذين تصفهم حتى الدراسات الإستشراقية التقليدية بأنهم “نوبيين مستعربين.” وكما قال آدمز: “كل هذه الجماعات تحدثت لغة واحدة أو سلسلة لغات، أما إلى أي حد كانت هذه اللغات منتمية إلى أُشكِر أو المحسية يظل أمراً قابلاً للتخمين. عموماً، لقد اقترح علي عثمان أيضاً منهجاً يمكن للمرء عن طريقه أن يميز بالفعل بين المتحدثين السابقين بأُشكِر أوبالمحسية، وهو وجوب النظر في اللهجات السودانية العربية المحيطة والبحث في المفردات النوبية المتوقع وجودها واحتفاظها بلاحقة أداة المفعول به والتي تطابق تقاليد هذه أو تلك من اللغات النوبية النيلية. لكن في غياب الأدلة المناسبة الداعمة لهذا المنهج، تظل آراء علي عثمان حتى الآن فرضيات محفزة في هذا الاتجاه.

ونختم بالقول أن هذه الدراسة تولت تدعيم منظور آدمز تجاه تاريخ الشايقية قبل الاستعمار، وذلك من خلال تطبيق منهج مقترح من علي عثمان للبرهان على ذلك في شكل مفردات أفريقية محفوظة في أرشيف النضيفاب. والحجة الأكثر إقناعاً بأن المفردات غير العربية المتبقية في أرشيف النضيفاب عبارة عن آثار متبقية من لغة هي على وجه التحديد نوبية في أصلها، تكمن تحديداً في احتفاظ هذه المفردات بلاحقة أداة المفعول به النوبية، وهي في الشكل الكلاسيكي، أي المحسي، “قا” أو “كا”، في حين أن اللاحقة “قى” أو “كى” الخاصة بأُشكِر لا دليل عليها. ويمكن للمرء أن يقترح بأنه قبل صعود اللغة العربية وسط الشايقية تحدث هذا المجتمع لغة أفريقية تسمى هنا “لغة الشايقية القديمة”، وأن هذه اللغة كانت نوبية وأنها شكل من النوبية أكثر ارتباطاً بالنوبية الكلاسيكية أو المحسية المعاصرة وليس بأُشكِر.
______
*الميدان 3690،، الخميس 27 أغسطس 2020.

‫2 تعليقات

  1. الشايقية نيجرييين او فلاتة من غرب افريقيا نقطة سطر جديد بس شوفو لينا موضوع تاني

  2. تقول أنت في العنوان: ( لغة الشايقية القديمة من منظور تاريخي (الأخيرة)
    جاي سبولدنق
    ترجمة د. محمد عبدالرحمن أبوسبيب )
    ولكن القارئ للمقال يجد انك تناقش موضوع اللغة التي سميتها لغة شايقية ولأول مرة نسمع ان للشايقية لغة!!
    فحقيقة عملك هنا ليس ترجمة لنص اول مقال
    وانما مناقشة لبعض ما جاء في المقال
    انتبه

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..