منصور خالد: الابتعاد عن السياسة و التمرد على المألوف.

واحدة(و لعلها الأهم) من سمات الفنان هى رفضه للانصياع و الخضوع لما يأتى به الآخرون.. مهما كانوا. ربما يأخذ من هذا أو ذاك بطرف، لا أكثر. أما التسليم الكامل لفكر و ممارسة الغير أمر عصىّ عليه لأنه ينطلق من خيال ذاتى متمرد( كأبلغ ما تعنى الكلمة) يشكل له المنظور الذى يراقب من خلاله الدنيا فيراها بعيني خياله المحيط لا بعيون الآخرين. و غالباً يرى ما يعجز الآخرون عن رؤيته مما يجعله دوماً يفكر خارج الصندوق و يخرج عن المألوف ليس رغبة فى أن يخالف ليُعرف لكن ليُسمِع صوته المتفرد و يؤكد إنسانيته المتمردة التى لا ترضى بالتفكير المعلب والقوالب الجاهزة و سلوك القطيع. فهو يأتى بالجديد دائماً و تمرداً و بحكمة و بدون غضب و بقناعة ذاتية لا تعرف أنصاف الحلول. التمرد عنده ضرب من الفنون يعبر عن نفسه بأشكال شتى ليس من بينها بالضرورة حمل السلاح او إطلاق الشعارات أو الاقتات على مزبلة السياسة. الفنان كائن صامت متوارى و غير ملوث.
الناس عموماً عرفوا منصور خالد كديبلوماسي وسياسي شاغل لمنصب عامة و ككاتب مؤرِخ. و قد كان فعلاً
كل ذلك بصرف النظر عن الجدل الذى أثاره بمواقفه و آرائه. بيد أن من وراء تلك الواجهة البراقة توارت عن الأنظار روح قلقة متأججة هى روح الفنان بكل ديناميكيتها و فورانها محكومة بخيال لا حكم له و لا رقيب عليه على إستعداد للولوج فى عمق تضاريس المجهول لاكتشاف آفاق جديدة غير مطروقة متجاهلاً (لا جهلاً) معارضة من يعارض طالما أنه يرى فى التفكير خارج الصندوق و تحدى المألوف المستقر و المضى قدماً لآخر الميل الأخير يرى فيه ما يؤكد وجوده كإنسان كائن بذاته، منسجم مع مبادئه، باسطاً يديه لعامة الناس لا خاصتهم أو لنفسه.
سأروى حادثتين بسيطتين فى وقائعهما من خضم الحياة اليومية العادية تؤكدان _ رغم بساطتهما_ إن التمرد على المألوف كان سمة متأصلة شبه جينية فى نفس منصور ملازمة له بالميلاد. و الحادثتان لا علاقة لهما بالسياسة أو الشأن العام أو الفنتازيا.
تمرد منصور على المألوف حينما كان يتعاطى الشأن العام بات أمراً معروفاً و موثقاً بذل فيه نفر غير قليل جهدا مقدراً و منشوراً. و هو على أى حال خارج إطار هذه السطور ذات المنحى الشخصى.
الحادثة الاولى كانت فى صبيحة يوم عيد الأضحى من عام 1957. كان عمرى وقتها حوالى العشر سنوات. بعد صلاة العيد قال لى منصور إننى سوف أذهب معه فى مشوار. فرحت بتلك الدعوة المفاجئة ليس بسبب الزيارة المرتقبة فهو لم يخبرنى إلى أين نحن ذاهبان بل للفرصة النادرة التى أُتيحت لى للركوب فى سيارته “الناش” السوداء الأنيقة و التى بدأت رحلتها فى مصنع صغير للسيارات فى ولاية ويسكونسن، و من ثم عبر سهول و برارى و بحار و قفار لتستقر فى بيت عتيق من بيوت أب روف. إذن فهي فرحة لم تدانيها فرحة وليس في كل يوم آنذاك يتجول صبى فى عمرى بسيارة أمريكية على دروب أب روف و مكى ود عروس و الشهدا التى كم حاورنا ترابها فى ذلك الزمان مشياً و ركضاً، جيئةً و ذهاباً فتتربت أقدامنا به حيناً و زدناه تراباً فوق تراب أحياناً اخرى، وفى كل الأحوال كنا سعداء بالحياة فى “مدينة من تراب” (التعبير مستلف من عنوان كتاب على المك) إلا أن صباح ذلك اليوم من سنة 1957 لم يكن يوم التراب. كان يوم ” الناش” بلا منازع.
بالطبع لا اذكر كلماته بالتفصيل، لكن ما معناه: ” انحنا ماشين القبه نبارك العيد على الإمام عبدالرحمن المهدى فى الصالون الكبير و بعد كده نمشى بيت السيد عبدالله خليل رئيس الوزراء للفطور.” … قبه.. امام.. صالون كبير.. رئيس وزراء… كلمات و اسماء مبهمة أشبه بالطلاسم على مسامعى لم أعرها كثير إهتمام. همى كان فى تلك اللحظة مركزاً على الاُبهة التى كنت فيها داخل السيارة العجيبة و الفرجة من خلال النافذة على أعمدة الكهرباء و البيوت تتوالى تباعا و لربما تخيلت من فرط اندهاشى و نعيمى المؤقت أن الناس يلوحون لى بالتحية و كأنى ملك متوج. قال لى منصور ما معناه: ” حتشوف ناس كتيرين ينحنون و يقبلون يد الإمام عبدالرحمن فى الصالون الكبير. اوع تعمل زيهم. سلم عليه عادى زى ما انا حاسلم عليه.” و لابد أنه كرر التحذير عند اقترابنا من رجل يجلس على كرسى لم أرى مثله. لم أنحن و لم أُقبل يده. فعلت تماما مثل ما فعل منصور من قبلى بينما كان الناس من حولنا يتزاحمون لتقبيل يد الرجل الجالس على الكرسى الكبير و الذى لابد أن حسبته ملك البلد. و ربما تسألت حينها إن كان الرجل ملك البلد و الناس يقبلون يده فلماذا لا يفعل منصور مثلهم. لم أجد جواباً و لابد إننى خشيت أن اسأل منصور عن أمور “حقت الناس الكبار.” كان لزاماً علىّ أن أنتظر سنوات طوال حتى أجد الإجابة و يستبين لى مغزى ما حدث.
إن رفض منصور الانحناء و تقبيل يد عبدالرحمن المهدى لم يكن إهانة متعمدة او تقليلاً من شأن “سيد القبة” فلم تكن من ثمة خصومة بينهما. إنما كان تمرداً صامتاً مهذباً و خروجاً علنياً على ما كان مألوفاً لغيره مرفوضاً عنده. و لاشك عندى أن منصور قد فعلها مراراً و تكراراً مع “أسياد” أُخر تحت قباب أُخر. على أن ذلك التصرف من جانب منصور كان مفهوماً فى حدود شخصه و نطاقه. أما أن يأخذه درجة أعلى ليشملنى و أنا إبن العاشرة لم أدرك بعد الفرق بين تقبيل اليد و السلام العادى لأمر ملفت للنظر. فى تقديرى إنه الإصرار على المضى الى نهاية الشوط دون نكوص و دون مجاملة.. بشخصه و بغيره إن إستطاع سبيلاً. مهما كان التفسير، الآن و بعد مضى أكثر من نصف قرن على تلك الحادثة، أنظر الى ذلك الصباح بمزيج من نوستالجيا و امتنان. فقد أتاح لى شخص واحد و فى يوم واحد و دفعة واحدة فرصتين ذهبيتين و درساً بليغاً قلما يُتاح لصبى فى سنى و ظلوا محفورين فى ذاكرتى كل هذه السنين.
أما الفرصة الأولى كانت التمتع من داخل السيارة الأنيقة بالطواف فى تلك البقة الحبيبة. و ربما كان خليل فرح يشدو من مذياع السيارة فى تلك اللحظة “من علايل اب روف” حيث بدأنا طوافنا صبيحة ذلك اليوم من البيت العتيق فى قلب اب روف. و هكذا هى اب روف دائماً… يومذاك و الآن: بداية الطواف و خاتمة المطاف.
أما الفرصة الثانية أن ألتهم فطوراً امدرمانياً/ رئاسيا فى دار عامرة بكرم أهلها.. آنذاك و الآن.
و أما الدرس(و هو الأهم) أن لا أنحنى لكائن من كان.
الحادثة الثانية كانت فى عام 1980 أى بعد أكتر من عشرين عاماً. كان منصور وقتها قد نفض يده عن نظام مايو إذ اعتبر أن جعفر نميرى قد خرق إتفاقية السلام و قوض الحكم المؤسسى -بتدبير من جهة ما- دافعاً البلاد نحو حرب أهلية جديدة مما حدا بمنصور ليس فقط الخروج على نميرى بل الخروج عن المألوف برمته، و إتخاذ موقف لم يسبقه عليه أحد من أبناء الشمال المُغيبين بعروبية متوهمة ما جرت عليهم سوى الفُرقة و الاحتراب و الإصابة بشيزوفرنيا الهوية. لكن تلك قصة أخرى ليس هذا مجالها. إلا إنها تشير -فيما تشير- الى أى مدى بعيد كان منصور على إستعداد للذهاب فى طريق التمرد على المألوف إن كان فى ذلك تعبيراً عن قناعته و نفعاً لبنى جلدته أياً كانت اثنيتهم أو مذهبهم. لا شأن للسياسة هنا. التمرد الحر و السياسة لا يتفقان. أحدهما فضيلة و الثانية جريمة.
فى ذلك اليوم من عام 1980 إتصل بى منصور هاتفياً و قال لى بطريقته التى لم تعرف التسكع فى الكلام: “عاوزك تشتغل معاى فى المزرعة” فوجئت بالطلب. قلت”مزرعة شنو يا منصور. انا ما بعرف طز من سبحان الله فى الزراعة و لا انت.” رد بهدوء:
“الظاهر انك ما عارف انو احسن مدير لمشروع الجزيرة منذ الاستقلال ما كان زراعى. حنزرع فراولة و قلاديولس و نصدرها لهولنده. مر على بكره.” هكذا و بكل بساطة.. فراولة و زهور و كمان تصدير لبلد لا تقبل إلا نقاوة النقاوة فى الصنف و التعبئة و اللوجستيات و الاستمرارية. مواصفات لم تكن متوفرة فى السودان، لا فى الذهنية السائدة و لا فى الممارسة الزراعية اليومية. و بالطبع منصور كان يعلم ذلك. فكيف له أن يحلم بأكثر من جرجير و قرع و طماطم سيكو و الله كريم؟
بعد تلك المحادثة بعام و ذات ليلة من ليالى يناير الباردة كانت طائرة كى ال ام الهولندية فى طريقها من مطار الخرطوم الى مطار( شخيبول)فى أمستردام تحمل فى جوفها كعينة طنا من الفراولة و مثله من زهور الزنبق فى كراتين انيقة رشيقة تذكرك بسيارة الناش عليها شعار بساتين النيل الأزرق، اسم المزرعة.
من الممكن أن تنتقل من الاستوزار الى الاستزراع، و من الممكن أن تملأ أرضك باصناف من المنتجات التى ألفها المزارع و المستهلك و استقر عليها الذوق العام.
أما أن تأتى بما لم يأت به الاولون و فى بلد مثل السودان فالأمر يحتاج إلى أكثر من سلفية البنك الزراعى و تقاوى و سماد و شهادة دكتوراه فى علم البستنة. الأمر يتطلب روح الفنان المبدعة الوثابة ونظراته الممعنة في الدقة ،روح متمردة تتطلع الى ما وراء الظاهر المرئى، تركب الصعاب و تدوس على السهل المعتاد غير هيابة ولا مبالية إلا بقناعاتها.
لقد كان التمتع بالمعهود و الانغماس فى الترف المادى و الحسى (وما أكثره على زماننا هذا) فى متناول يد منصور فى أى وقت شاء. لكن عافت روحه ذلك طلباً للصعاب إن لم يكن المستحيل. رغم ما قد يتراى للآخرين من بريق و زخرف أحاطا بمنصور هما فى حقيقتهما ليس أكثر من ستر تدثرت به روح فنان وحدانى لا بريق و لا زخرف فى دواخله إنما تمرد مرهق على المألوف دام طوال حياته و دفع ثمنه غالياً و راضياً كما ينبغى فإنك لا تدرك تلك المصاف دون ثمن باهظ فلا مال و لا ولد و هما زينة الحياة الدنيا، إضافة الى الحسد و المراقبة و حملات التشهير(حتى بعد وفاته) و ذم الشخص لا نقد الفكر و محاولة الاغتيال. و حتى الذين امتدحوه بالغوا فى الثناء مما افقدهم التوازن و الموضوعية. فالرجل كباقى البشر أصاب ما أصاب و أخطأ ما أخطأ و لا أحد يملك فصل الخطاب.
قال لى كبير الطهاة السويسري فى فندق هلتون الخرطوم آنذاك حينما زار المزرعة و وقف امام أحواض الفراولة يتأمل: ” تذوقت الفراولة فى سويسرا و فرنسا و ايطاليا و كينيا. لم ار مثل هذا. من وراء هذا الانتاج الذى يفوق التصور ؟” قلت له مازحاً : “منظمة الأغذية العالمية.” و سراً : ” الله أكبر عليك يا خواجه… قول ما شاء الله.”
سامى الصاوى.
لله درك يا صاوى ولكم تحدث المغفور له بإذن الله المنصور خالد عبد الماجد عن الصاوى واسرته.. منصور خالد رحمه الله كان سباقا لعصره ..واحكى لك هذه عنه حيث لا تجمعنى به صلة قربى ولا زمالة إنما صلة بما خطه قلمه وهو التراث الذى لا ينزوى ولا يذبل ولا ينتهى وإنه لأجود ما كثب مثقف سودانى إتفقنا معه أو إختلفنا لقد نال من المجد مالم ينله سودانى أخر في مجاله. مدرسة في الكتابة والملاحظة موسوعى المعرفة ورقى في إستخدام مفردات اللغة واشتقاقاتها فى منحى لا يجامل ولايداهن. لصياغة أفكاره وما يؤمن به . كنا حديثى التخرج باحثين عن العمل مررنا بمكتب منصور خالد فى الخرطوم شرق بالقرب من ديوان الخدمة ومكتب توظيف الخريجين إذا لم تهترئ الذاكرة.. .حيث كان يعمل أحد الزملاء ممن سبقونا فى التخرج وبينما نحن نتبادل التحايا مع الزميل دخل دكتور منصور خالد لتحية الزميل الذى يعمل بمكتبه وباغته بالسؤال عمن نحن فرد عليه بانهم زملاء تخرجوا حديثا و يبحثون عن عمل سيما ونحن أبناء أقاليم الخرطوم بالنسبة لنا كانت مثار دهشة وحيرة وغربة.. توجه د. منصور بالحديث إلينا وطلب منا توزيع استبيان بين كبار موظفى الخدمة المدنية والقطاع الخاص.. كان محتوى الإستبيان بسيطا ويرمى إلى معرفة الإحساس بالزمن والمواقيت بين التنفيذيين ووقتها كانت الإدارة العمومية بمثابة راس الرمح في توجيه مسيرة البلاد.. تقاسمنا نسخ الإستبيان وتوجه كل منا إلى حيث يشاء… توجهت إلى أحد معارفى وكان يعمل مساعدا لوكيل وزارة بشارع الجامعة بالنسبة لى كانت فرصة دخلت مكتبه جلست على الكرسى الوثير ومستنى نفحة التكييف سرعان ما أسترخيت وبادلت صاحب المكتب بعض التعليقات على الأحوال حالئذ..مددت له الإستبييان الذى نظر إليه مليا.. فالرجل ذاته قد تخرج من كلية الإقتصاد ثم أبتعث لجامعة سيراكيوز الأمريكية حيث نال درجة الماجستير وعاد لأرض الوطن.. وما إن أكمل قراءة الإستبيان إستطرق قليلا ثم فاجأنى قائلا إنه وبحسب معرفته بالساسة في نظام نميرى وبعض المسئولين وبكثيرين أخرين في الحياة العامة بمن فيهم الأكاديميون فإنه لا يرى أحدا منهم بمقدوره تصميم إستبيان كهذا إلا د. منصور خالد قالها هكذا وبإعجاب شديد قلت له نعم فقال لى إذن أنت لست فى حاجة للبحث عن عمل فى أى مكان أخر عليك أن تواظب بالتعاون معه فمكتبه خير مكان للتدرب وتطوير القدرات .. وحكى لى سياسى مخضرم بأن الحكومة البريطانية قد افرجت عن بعض الوثائق التاريخية بعد إنقضاء خمسين عاما كما هو معمول به في الدوائر البريطانية.. تم تنظيم معرض لتلك الوثائق كما جرت العادة في تلك المناسبات ..كانت هناك وثائق تخص السودان خلال الحقبة الإستعمارية وخلال تجوله بالمعرض وقف عندها واخذ الموظف يشرح له بعض مافيها وأثناء ذلك وقع نظره على إيصال باسم منصور خالد دفع بع مبلغا لتصوير تلك الوثائق سال الموظف إن كان شخص أخر قد تقدم لاستنساخ تلك الوثائق أجابه بدهشة بدت على وجهه بأن شخصا واحدا فقط هو من دفع لتصويرها دون أن يذكر إسمه وأضاف بأنه سأل د. منصور لاحقا في مناسبة جمعتهما واكد له أنه صور بعضا منها ولا يدرى إن كان شخص أخر قد صورها أيضا…رحمه الله كان قارئا شغوفا ..موثقا مؤرخا .. كاتبا لا يشق له غبار وسياسيا من طراز فريد بإختصار كان مدرسة قائمة بذاتها
رحم الله منصور خالد و متعك بالصحة و العافية
نرجوا أن نقرأ لك المزيد