مقالات سياسية

روزنامة الأسبوع: تِي شِيرتْ تَاسِيتِي!

كمال الجزولي

الإثنين

لولا أن على رأس سعادة الرَّشيد أبو شامة قُبَّعتين؛ قُبَّعة الجَّنرال العتيد، وقُبَّعة السَّفير التليد، لحسبت من قبيل السَّذاجة التي لا تليق، لا بمكانته العسكريَّة، ولا بمكانته الدِّبلوماسيَّة، اقتراحه مساومة المصريِّين على إرجاع مثلث حلايب ـ شلاتين ـ أبو رماد إلى السَّيادة السُّودانيَّة، مقابل تجيير موقف السُّودان من سدِّ النَّهضة لمصلحتهم (المواكب؛ 16 أغسطس 2020م). فالقضيَّتان، أوَّلاً، متباينتان، غاية التَّباين، وليس ثمَّة جامع بينهما، لا من حيث الطبيعة، ولا التَّاريخ، ولا الوقائع، ولا المنطق المؤسِّس؛ وثانياً: ليس ثمَّة ما يبرِّر موقفاً لاأخلاقيَّاً كهذا، نبدي فيه استعدادنا لخوض حرب الآخرين بمقابل، كالمرتزقة تماماً! وثالثاً: لئن كنَّا نحتاج مؤازرة العالم لحقوقنا في المثلث، استناداً إلى وقائعنا، ووثائقنا، وخرائطنا، ليس، فقط، منذ استقلالنا السِّياسي في 1956م، وقد اعترفت به، حينها، كلٌّ من دولتي الحكم الثُّنائي، رغم أن مجرَّد ذلك قد يكفي، وإنَّما منذ اتفاقيَّة 1899م، بل ربَّما منذ احتلال الباشا للسُّودان في 1821م، فضلاً عن استقامة شكوانا التي ظللنا نوالي إيداعها منضدة مجلس الأمن منذ 20 فبراير 1958م، فإن هذا العالم نفسه سوف يعطينا ظهره، غداً، عندما يرانا نساوم بهذه الحقوق في ما يشـبه سـوق نخاسة دولي (!) دَعْ أننا سوف نخسر دبلوماسيَّاً، حتماً، ولنفس السَّبب، على صعيد أيَّة مطالبة يمكن أن نطرحها، مستقبلاً، في شأن سدِّ النَّهضة، بل سنخسر سمعتنا، عموماً، في ساحة السِّياسة الدَّوليَّة؛ ورابعاً: المصريُّون أنفسهم ليسوا على هذه الدَّرجة من السَّذاجة التي تيسِّر استغفالهم بمثل هذه الأحابيل، دون أن يحتاطوا لها بألف شرط، من ألف جانب، خاصَّة وأن قدراتهم الاستخباراتيَّة تجاه «الجَّنوب» الذي يأتيهم منه النِّيل، بالذَّات، مِمَّا لا تجوز الاستهانة بها! وخامساً: إقدامنا على خطوة ركيكة كهذه سوف يضعنا في خانة عداء غير محسوب مع أثيوبيا، الجَّارة التي لا سبيل للتَّقليل من شأن مصالحنا التَّاريخيَّة معها .. الخ .. الخ.
كلُّ هذا، وذاك، وغيره، محض غيض من فيض التَّحفُّظات التي يمكن أن ترد على مقترح الجَّنرال السَّفير!
علاج مشكلة سدِّ النَّهضة لا يكون باصطناع حلف إقليمي يريد المصريُّون إبرامه معنا، كي نخوض، من خلاله، مواجهة حربيَّة عدميَّة ضدَّ إثيوبيا، وإنَّما عن طريق «دبلوماسيَّة المياه»، أو ما عبَّر عنه قمر الدين، وزير الدَّولة بالخارجيَّة، قائلاً إن السُّودان، رغم عدم قبوله بإقدام أثيوبيا على ملء السَّد قبل التَّوصُّل لتفاهم ثلاثي في هذا الشَّأن، لكنه يرفض التَّصعيد المصري للمواجهة مع إثيوبيا، ويدعو للبحث عن حلول عبر الحوار (وكالات؛ 21 يونيو 2020م).
أمَّا استعادة بلادنا سيادتها على مثلث حلايب فلا تكون بالمساومة المشينة، للأسف، التي اقترحها الجَّنرال السَّفير، إنَّما أفقها واضح بأحد سبل ثلاثة جميعها قانونيَّة دوليَّة: فإمَّا بالتَّفاوض الذي كانت مصر قد اقترحته بنفسها في 21 فبراير 1958م، قبل أن تتنصَّل عنه، وإمَّا بالضغط الدِّبلوماسي عليها لإرغامها على قبول التَّحكيم الدَّولي بلاهاي، على غرار قضيَّة «طابا» بينها، هي نفسها، وبين إسرائيل، وإمَّا، للأسف الشَّديد، بالقوَّة العسكريَّة التي نسأل الله ألا يلجئنا إليها، غير أن مصر ينبغي أن تعلم أنه لن يكون أمامنا ثمَّة مناص منها إن هي أصرَّت على رفض السَّبيلين الأوَّلين!

الثُّلاثاء

«7 أيام في هافانا ـ 7Days in Havana» إسم شريط سينمائي شهير من إنتاج شركة «أفلام مورينا» الأسبانيَّة عام 2012م، يروي سبع حكايات استغرق تصويرها، في العاصمة الكوبيَّة، أسبوعاً، بواقع يوم لكلِّ حكاية، وتولى إخراج الشَّريط 7 مخرجين، بواقع مخرج لكلِّ يوم!
إسم الفيلم أوحى، في ما يبدو، لأحد مصمِّمي شركة متخصِّصة في صناعة أقمصة شبابيَّة تحمل على صدرها عبارات باللغة الإنجليزيَّة تتَّسم بالنَّزق، والطَّرافة، أحياناً، و .. بقلَّة الحياء، أغلب الأحيان، بأن يستخدمه على إحدى إصداراتهم من تلك الأقمصة، لكن بعد تحوير رسم الحـرف «D» ليصير «G»!
ولأن أكثر شبابنا مولعون بارتداء هذه الأقمصة، دون أن يدقِّقوا، للأسف، كي يفهموا مدلولات ما تحمل من عبارات، فقد ظهر أحد «المُغنَّواتيَّة» الجُّدد، مؤخَّراً، على شاشة «قناة تاسيتي أنغام» السُّودانيَّة، يتمايل طرباً وهو يرتدي نسخة من هذا القميص! ولم يقصِّر، من عجب، لا المخرج، ولا المصوِّر، ولا مقدِّمة البرنامج، في المبالغة في إبراز العبارة النَّابية بتقريبها close up، فدخلت بيوتنا، دونما استئذان، وبقيت فيها على مدى أكثر من ساعة! ولا تسل عن دور كبير مسؤولي وزارة الإعلام الذي لم يتكبَّد مشقَّة أن يحرِّك ساكناً، حتَّى بعد أن نبَّهناه إلى أن بثَّ تلك «الجليطة» كان، وقتها، ما يزال متواصلاً!

الأربعاء

إنتابتني حالة من الحيرة الشَّديدة، وأنا أطالع، في صحف الأيَّام الفائتة، أخباراً عن مؤتمرات مختلفة، ومتصادمة، تُنظَّم باسم قبيلة الجَّعليِّين، وقد تعهَّدوا، في بعضها، ببذل «مساهمة فعَّالة» في «تحقيق الصُّلح وجبر الضَّرر بين القبائل المتصارعة في ولايات شرق السُّودان، وكردفان، ودارفور»! غير أن أكثر ما حيَّرني، على خلفيَّة هذه المؤتمرات، المطابقة بين «كياني» القبيلة والدَّولة، وبين «اختصاصات» القبيلة والسُّلطة، وبين «مكوِّنات» القبيلة والأجهزة التَّنفيذيَّة والبرلمانيَّة، حدَّ إحلال القبيلة محلَّ النِّظام الحاكم! تبدَّى ذلك، مثلاً، في كلمة مبارك علي جاد الله، أمام «الجلسة الافتتاحيَّة لمجلس شورى القبيلة في دورة انعقاده الأولي»، بالسبت 15 أغسطس 2020م، في حجر الطير بمحلية المتَّمة، والذي ذكر أن الغرض من الاجتماع هو «تطوير هياكل حكم وإدارة القبيلة!»، بحيث يكون «مجلس الشُّورى موجِّهاً، ومرشداً، ومحاسِبأً للجِّهاز التَّنفيذي للقبيلة»! كما أوضح الجَّعلي أحمد حمد، رئيس اللجنة المنظمة للاجتماع أن المجلس «كيان جامع يتكوَّن من 40 عضواً (لاحظ: مجلس أربعيني!) من منسوبي القبيلة في شندي والمتمَّة، ومثلهم لمنطقتي عطبرة والدَّامر» (السُّوداني؛ 16 أغسطس 2020م).
غير أن حيرتي سرعان ما انقشعت، حين طالعتُ، في نفس المصدر، ومن خلال بيان لجان المقاومة بالمتمَّة وشندي، أن الأمر لا يعدو كونه إحدى محاولات «المؤتمر الوطني» الذي طُرد من الباب، استغلال «الإدارة الأهليَّة» ليعود فوق ظهرها من الشِّبَّاك! لقد أكَّد هؤلاء الشَّباب أن عيونهم «يقظة، ساهرة، راصدة لكلِّ التَّحرُّكات الماكوكيَّة من فلول هذا الحزب المحلول، قانوناً، والذي لا يحقُّ لعضويَّته الاجتماع، أو التَّنظيم، أو حتَّى إقامة النَّدوات»! وكشفوا أن «نشاط هذا الحزب البائد قد ازداد، وتحرُّكاته قد تكثفت، خصوصاً بعد أن أدَّت آمنة أحمد المكِّي، الوالية المدنيَّة لنهر النِّيل، القسم الدُّستوري، إذ أنهم يعتبرونها المهدِّد الأوَّل لمصالحهم، واستثماراتهم، ومشاريعهم، وشركاتهم، ووظائفهم، وأوضاعهم الاجتماعيَّة، عبر لجنة إزالة التَّمكين القادمة، حيث ظلوا، عاماً كاملاً بعد انتصار الثَّورة، في مواقعهم، لم تطلهم يد التَّغيير، ولا المحاسبة، حتى لقد ظنُّوا ألا ثورة قد حدثت، بل بدأت الحرباء تغيِّر لونها عن طريق (الإدارات الأهليَّة!)، وقد رصدت لجان المقاومة اجتماعاتهم في شندي تحت غطاء آلية الإسناد الإعلامي التي حلتها الوالية المدنيَّة»!
وانقشعت الحيرة أكثر عندما استدركت لجان المقاومة، والقوى الثَّوريَّة، في بيانها، قائلة: «إننا نعرف (الإدارات الأهليَّة الحقيقيَّة) التي ساندت وباركت مدنيَّة الدَّولة، ولم تقف حجر عثرة أمام تطلعات الشَّعب، أمثال الناظر صلاح إبراهيم حاج محمد، ناظر عموم الجَّعليين الذي ندعمه بكامل قوانا الحيَّة لمواصلة دوره الوطني. لكننا، في نفس الوقت، رصدنا الدَّعوة المقدَّمة من القيادي السَّابق بحزب المؤتمر الوطني مبارك علي جاد الله، للاجتماع في منزله، بحجر الطير بالمتمة، يوم السبت 15 أغسطس 2020م»! ومضى البيان إلى القول: «إننا إذ نرفض، بشدَّة، عودة المؤتمر الوطني للحياة تحت أيِّ مسمَّي أو أيَّة راية، نؤكِّد، لمعرفتنا بالتَّاريخ والأنساب، أن الذين دعوا لهذه الاجتماعات بشندي، مِمَّن يتحدَّثون عن (نظارة دار جعل)، لا علاقة لهم بالجَّعليين! فالمقصود من هذه الدَّعوات، في هذا التَّوقيت، والدَّعم السَّخي الذي قدِّم لها من جهات نعلمها، هو أن توردنا المهالك بإثارة الكراهيَّة، والنَّعرات القبليَّة، والاحتراب بين مكوِّنات المجتمع الواحد»! ولذا استنفرت لجان المقاومة، ومن وصفوا أنفسهم بالقوى الثَّوريَّة الحيَّة، أجهزة الأمن، والشُّرطة، والنِّيابة العامَّة، للتَّصدِّي لما أسموها «الاجتماعات المستفزَّة غير القانونيَّة»، وطالبوا بحسمها، ومنع عرقلتها لأداء الحكومة المدنيَّة، محذِّرين من أنهم، حالَ استمرارها، سيستخدمون «الشَّرعيَّة الثَّوريَّة»، على حدِّ تعبيرهم، لحماية الثَّورة، والوفاء لدم الشُّهداء!

الخميس

بالخميس 13 أغسطس 2020م، ولدى استقباله، رفقة عدد من أركان الخارجيَّة الأمريكيَّة، د. نور الدِّين ساتِّي، سفير السُّودان الجَّديد لواشنطن، بحضور نائبته السَّفيرة أميرة عقارب، قال تيبور ناجي، مساعد وزير الخارجيَّة الأمريكي للشُّؤون الأفريقيَّة، إن «بلاده تعنزم إقامة احتفال (كبير!) عندما يتمُّ رفع اسم السُّودان من قائمة الدُّول الرَّاعية للإرهاب»!
لكن مساعد الوزير الأمريكي لم يقل، ولو تلميحاً، ولو بالتَّقريب، متى سيكون ذلك؛ بل لم يقل متى سيتمُّ، أوَّلاً، مجرَّد تعيين سفير لبلاده بالخرطوم!

الجُّمعة

ظلَّ الصِّراع محتدماً، أكثر القرن المنصرم، بين النِّظامين الرَّأسمالي والإشتراكي، وما انفكَّت كفَّته تميل لصالح الأيديولوجيا الاشتراكيَّة، حتَّى لقد تفاءل الاشتراكيُّون بأن العصر، بأسره، قد أضحى يتَّسم، نهائيَّاً، بالانعطاف الحاسم نحو انتصار الاشتراكيَّة، الحلم الذي بقي يراود خيال العمَّال، والكادحين، وسائر الطبقات المستضعفة في العالم. لكن الخلل البنيوي النَّاشب في عمق نخاع تلك التَّجربة التَّاريخيَّة دفعت ميخائيل غورباتشوف، آخر زعيم للحزب والدَّولة في الاتِّحاد السُّوفييتي، بل آخر زعيم للمعسكر الاشتراكي كله، لاجتراح خطته الموسومة بـ «البريسترويكا/إعادة البناء» و«الغلاصنوست/الشَّفافيَّة»، آملاً، لكن بالاستناد إلى نفس نهج «المركزيَّة الدِّيموقراطيَّة»، في إصلاح سياسة الكبت القديم للحقوق والحريَّات، مقابل تحقيق الرَّخاء المادِّي للجَّماهير، بعد أن أصبح من الجليِّ، تماماً، لكلِّ من ألقى السَّمع وهو شهيد، أن تلك المعادلة تنطوي على خطل بسبيله لإطاحة تلك التَّجربة التَّاريخيَّة إلى شفا جرف هار! غير أن مخاضات تلك الخطة الإصلاحيَّة التي تأخَّرت كثيراً ما لبثت أن فاجأت الجَّميع بهدم جدار برلين، وفي إثره الاتِّحاد السُّوفييتي ذاته، ثمَّ سرعان ما راح مجمل بنيان «المعسكر الاشتراكي» يتبعه في التَّداعي، تماماً كمثل كتدرائيَّات تتقوَّض!
في عقابيل ذلك انشغل المحللون بالبحث عن الخلل الكامن، ولا بُدَّ، هنا أو هناك، في نظريَّة «البريسترويكا والغلاصنوست» تلك، حتَّى لقد بلغت المفارقة الجُّنونيَّة بالبعض أن انحرف بالتَّحليل عن كلِّ عقلانيَّة الاحتمالات الموضوعيَّة التي يمكن أن تفسِّر أزمة النِّظام الاشتراكي التَّاريخيَّة، ليتشبَّث بالاحتمال السَّاذج الوحيد المتمثِّل في الاتِّهام المضحك لغورباتشوف بالعمالة لأجهزة المخابرات الغـربيَّة، في حين أن مبضع الرَّجل لم يمسَّ، في الحقيقة، جرح التَّجربة إلا بعد أن تقيَّح، واحتقن بالدَّم المتخثِّر، والصَّديد، فكان لا بُدَّ لذلك الجُّرح من أن ينفجر في جميع الاتِّجاهات، دون أن تكون ثمَّة قوَّة على الأرض تستطيع كبح جماح ذلك الانفجار المروِّع!

لقد شهد العالمان الرَّأسمالي والاشتراكي، من خلال أحداث ذلك القرن، ظاهرة متلازمة ومتضادَّة في آن. فالأنظمة الرَّأسماليَّة، من جانبها، ظلت تقمع بروز أدنى ميل صوب الأمزجة الاشتراكيَّة في بلدانها. وحتَّى عندما تغضُّ الطرف، أو تبدو كما لو أنها تغضُّ الطرف، عن نشاط منظَّمات المجتمع المدني في مجالات «حقوق الإنسان»، بدلالاتها القائمة في المساواة، وبقيمها المفاهيميَّة، فكريَّاً، وقانونيَّاً، وتنظيميَّاً، ومن خلال أطرها الوطنيَّة، والإقليميَّة، والدَّوليَّة، كافَّة، فإنها لا تفسح، في هذا الإطار، متَّسعاً للحقوق والحريَّات، كما قد تزعم، أو كما قد يتبادر إلى الأذهان، إنَّما تفعل العكس تماماً، فلا تغفل عن التَّعاطي مع مثل ذلك الميل، ليس، فقط، من منظور «السِّياسة غير المرغوب فيها»، بل ربَّما من منظور «التَّآمر الشِّيوعي» .. عديييييل!

أمَّا الأنظمة الاشتراكيَّة، وإن كانت تجاربها على صعيد الحياة «الماديَّة» لشعوبها مرضية إلى حدٍّ كبير، إلا أنها، مع ذلك، فشلت، طوال تاريخها، في تقديم تجربة واحدة رائدة يؤبه بها، أو تستحقُّ أن تُحتذى، في الدِّيموقراطيَّة «السِّياسيَّة». فقد ظلَّت تقمع، في بلدانها، بالمقابل، أدنى ميل صوب أيِّ شكل جادٍّ من أشكال «حريَّة التَّنظـيم»، أو «حريَّة التَّعبير»، أو «حريَّة النَّشاط المدني»، وتلك هي الزَّاوية التي ينبغي الإطلال منها، بجديَّة، على أزمة تلك التَّجربة التَّاريخيَّة، لا زاوية «نظريَّة المؤامرة»، أو «الخيال الاستخباري»!

ولئن كان الفارق شكليَّاً بين نهجي التَّعاطي مع «الحريَّات العامَّة والحقوق السِّياسيَّة»، في الأنظمة الرَّأسماليَّة وفي بلدان المعسكر الاشتراكي السَّابق، فإن أكثر ما انعقد حوله أوسع توافق، في العالم الرَّأسمالي، إزاء «حقوق الإنسان»، هو إيلاء الاعتبار اللازم لقيمها من الزَّاوية «الحقوقيَّة» النَّظريَّة البحتة، لكن بمنأى عن أيِّ نوع من دعم أو تعزيز الممارسة السِّياسيَّة «العمليَّة»، بحيث يضحى التَّبشير بها، فقط، هو منتهى واجبات منظَّماتها، وما ينبغي أن يتوقَّف عنده نشاطها! مثل تلك الشُّروط المخلَّة هي أحرص ما تحرص عليه «الكتالوجات» التي تصمَّمها مؤسَّسات التَّدريب في الغرب، لتدفع بها إلى بلداننا النَّامية، فيبقى الاعتبار الغالب لمنظَّمات المجتمع المدني، أصلاً، هو أنها «غير سياسيَّة a – political»، بينما يبقى معكوس ذلك منكوراً، بل ومستهجناً، من زاوية النَّظر الاقتصاديَّة، السِّياسيَّة، الاجتماعيَّة، رغم أن تقارير منظَّمة دوليَّة، كمنظمة الصحَّة العالميَّة، مثلاً، أصبحت تلاحظ ازدياد نشاط منظَّمات «حقوق الإنسان»، كقنوات لممارسة المواطنة، في الواقع العملي، بهدف تحقيق التَّغيير الاقتصادي، السِّياسي، الاجتماعي. وبما أنه من غير الممكن لمثل هذه القنوات أن تكون، بهذا المفهوم، “حقوقيَّة” بحتة، فإن الكثير من الباحثين، كالسُّوداني محمد سعيد الطَّيِّب، والتُّونسي منصف المرزوقي، على سبيل المثال، أضحوا يميلون إلى تأكيد أن مفهوم «حقوق الإنسان» هو مفهوم «سياسي» بامتياز؛ كما أن ثمَّة تياراً عالميَّا مرموقا أضحى يتشكَّل، منذ حين، ليشدِّد، لدى الحديث عن «منظَّمات حقوق الإنسان»، على أنه لا معنى لـ «الإنسانيَّة»، ذاتها، بدون الغذاء، والصحَّة، والعمل، والملبس، والمسكن، والتَّعليم، والثَّقافة، وما إليها، وجميعها مطلوبات «سياسيَّة» بالدَّرجة الأولى؛ كما أن تواتر المناداة بـ «المساواة» و«العدالة الاجتماعيَّة» في شأن هذه المطلوبات عائد لكون نفس الأسباب تولِّد دائماً نفس النَّتائج، ويخلصون، من ثمَّ، إلى أن من الضَّروري أن تتصدَّى «حركة حقوق الإنسان» لتحقيق هذه المطلوبات، باعتبارها مطلوبات مشروعة للطبقات الفقيرة، وللشُّعوب المقهورة. وبالتَّالي فإنه لمن عمى البصيرة عدم رؤية الطبيعة «السِّياسيَّة» لـ «حركة حقوق الإنسان» في العالم الرَّأسمالي من هذه الزَّاوية. وحتَّى لو جرى، بحسن نيَّة، «تجرُّع» الفكرة الزَّائفة بأن على هذه المنظَّمات المدنيَّة ألَّا تمارس «السِّياسة»، فإن من يناضل، عمليَّاً، في سبيل «حقوق الإنسان»، بالغاً ما بلغت بساطة الأشكال التي يعتمدها في نضاله، كحماية المستهلك، مثلا، سرعان ما يصاب بالحيرة، وفق المرزوقي، حين يكتشف أنه، في حقيقة الأمر، لا يغادر «السِّياسة»، في نضاله هذا، قيد أنملة! ذلك أنه إنْ شجب انفلات الأسعار مارس السِّياسة، وإن أدان تعذيب المتَّهمين مارس السِّياسة، وإن غضَّ الطَّرف عن ذلك مارسها أيضا، وسواء طالب بالحريَّات الشَّخصية، أو العامَّة، أو بحقوق الطفل، أو المرأة، أو الإثنيَّات المهمَّشة، أو نادى، فقط، بتعليم «حقوق الإنسان»، فإنما يمارس «السِّياسة» بالضَّرورة!
لذا، فإن الأمر أكثر تعقيداً، في جوهره، من كلِّ بُد، مقارنة بمجرَّد قوائم الشُّروط التَّبسيطيَّة المُخِلَّة التي تصمَّم، خصيصاً، في الغرب، ليُدفع بها إلى الورش التَّدريبيَّة في بلداننا، حيث أن المستهدف، في هذه الحالة، هو إخصاء الطابع الرَّاديكالي لخبرة المجتمع المدني، بالذَّات، خصوصاً في السُّودان، منذ نشأة هذا المجتمع في أتون الصِّراع «السِّياسي» ضدَّ الاستعمار القديم، وحتَّى إسهام «المنظَّمات المدنيَّة» في النِّضال «السِّياسي» ضدَّ الاستعمار الجَّديد من أجل التَّغيير الاقتصادي، السِّياسي، الاجتماعي، والثَّقافي.

السَّبت

كان د. حمدوك مفصحاً، تماماً، في خطابه المبهر بمناسبة مرور عام على توليه رئاسة الوزارة الانتقاليَّة، عقب إطاحة ثورة ديسمبر 2018م بنظام البشير، ما خلا تعبيره عن أن الحكومة الانتقاليَّة مستعدَّة للتَّعاون مع المحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة كي «يَمْثُل» المتَّهمون بارتكاب جرائم الحرب والإبادة أمامها ready to cooperate with the ICC for those accused of war crimes to «appear» before the court (وكالات؛ 22 أغسطس 2020م).
هكذا يبدو، للوهلة الأولى، أن ثمَّة تكراراً لنفس «الارتباك» الاصطلاحي الذي سبق وروده في بيان لمحمَّد حسن التَّعايشي، عضو مجلس السَّيادة، والنَّاطق الرَّسمي باسم الوفد الحكومي إلى مفاوضات السَّلام مع الحركات المسلحة بجوبا، حيث كانت الأطراف قد توصَّلت إلى اتِّفاق، ضمن ملف العدالة، على «إجراء» معيَّن بشأن المخلوع، ومن معه من المتَّهمين المطلوبين لدى المحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة في جرائم دارفور. وجاء «ارتباك» بيان التَّعايشي، وقتها، حين استخدم في إعلانه عن ذلك «الإجراء»، مصطلح «مثول» المتَّهمين أمام المحكمة، بدلاً من «تسليمهم» إلى المحكمة! وكنَّا اعتبرنا ذلك «الارتباك»، في حينه، خطأ غير مقصود، إذ أن «المثول» يعني فعل المتَّهم نفسه، لجهة «ظهوره الطَّوعي» الذي يتوقَّف على «إرادته» الحُرَّة، بعكس «التَّسليم» الذي يعني فعل السُّلطة، لجهة «حمْل» المتَّهم، قسراً، على «الظُّهور» أمام المحكمة!
بالخلاصة، وبقدر ما ذهبنا، يومها، إلى تغليب «الاعتقاد» بأن التَّعايشي قد استخدم، بطريق الخطأ البحت، مصطلح «الاتِّفاق على (مُثول) المتَّهمين أمام المحكمة»، مِمَّا أربك المطلوب، وأخلَّ بالمعنى، فإننا نجد أنفسنا، اليوم، وبإزاء استخدام د. حمدوك نفس «المصطلح المرتبك»، مجبرين على مراجعة «اعتقادنا» القديم، وتغليب أن الأطراف قد اتَّفقوا، بالفعل، على إجراء «المثول» لا إجـراء «التَّسـليم»، الأمـر الذي لا يعـني سـوى تـرك المتهمـين «يمثلونto appear»، بـ «حُرِّ إرادتهم»، أمام المحكمة، وليس قيام السُّلطات السُّودانيَّة بإجراء «تسليمهم» إليها!

الأحد

أصدر مدير جامعة الجَّزيرة قراراً بسحب درجة الماجستير في علم الاجتماع من المخلوع، وكان نالها على أيَّام «ثورة» التَّعليم العالي لصاحبها إبراهيم احمد عمر، والتي شهدت «هوجة» غير مسبوقة في منح كلِّ مَن هبَّ ودبَّ، وبسخاء غير معهود، درجتي الدُّكتوراة والماجستير، بل ولقب البروفيسور الذي لم يعُد ينافسه غير لقب «الشَّيخ»، حتَّى لقد قال طيِّب الذِّكر عبد الله الطيِّب أن كلَّ ذلك باخ، لهذا السَّبب، في نفسه، خاصَّة يوم عيَّنوا لهم مديراً لجامعة الخرطوم من «الجَّماعة»، فإذا به يطلب منهم، في أوَّل اجتماع، أن يمنحوه لقب الأستاذيَّة!
لكن السُّؤال .. أيُّهما «أحقُّ» بأن تُسحب منه الدَّرجة العلميَّة: مَن مُنحت له بلا استحقاق، أم مَن منحه إيَّاها؟!
***
______
*الميدان 3693،، الخميس 3 سبتمبر 2020.*

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..