بين الجبل والقاش (2)

إن الذين أججوا نار الفتنة القبلية والذين سمحوا لتلك الفتنة ، وتلك الفوضى أن تستمر أحدثوا شرخاً في ذاكرة سيدة الحسان كسلا ربما لم يطيب قريباً ، هولاء أرادوا أن يصيبوا وعي إنسان كسلا في مقتل ، ولكن وعي أهل كسلا أكبر من هذه الفتن وهو الذي جعل أهل كسلا دوماً في قلب قضايا الوطن الكبرى ، فلا يغيبون عن مناسبات الوطن ، فلم تتخلف كسلا عن ركب اكتوبر الأخضر عبر قطار الشرق (قطار الموت )الذي سيرته جماهير كسلا لمؤازرة ثورة اكتوبر حتى وصل الخرطوم بقيادة المناضل المرحوم محمد جبارة العوض ، ثم أخيراً موكب كسلا الذي وصل لمقر الاعتصام بالقيادة العامة ، الذي سيره أبناء كسلا لدعم ثورة ديسمبر المجيدة ،علاوة على حضور كسلا الأنيق والمتميز في الفعاليات الثقافية والرياضية ومناسبات الوطن القومية .
سيعم الأمن كسلا لتلاقي زوارها بشوق وبفرح ، وتستقبل سواقيها ضيوفها بكل ذلك الكرم وطيب الخاطر ، ويذهبون إلى توتيل عصر كل يوم يشربون من نبعها الطيبة التي أصبحت صفة ملازمة لأهل الوريفة ، وليجددوا زيارتهم لكسلا مرات ومرات ويلاقي القاش عيون الناس حديث الإلفة والشوق .
كان أهل كسلا يحتفون كثيراً بمدينتهم وبتواصلهم الاجتماعي ، وهم كانوا خير سفراء لها في طيبتهم وحبهم للناس ، يقدمون الدعوة لزيارتها لكل من يلتقونه ليقوموا بإكرامه وضيافته ، وعندما يأتيك قريب أو صديق في زيارة ، تجده ضيفاً على كل أهل كسلا ، كون الصداقات والمعارف الجديدة أين ماحل بكسلا .
كان أهل كسلا ( أهل زين قبيل )، عندما تناسوا قبائلهم وتضامنوا جميعا لنجدة بعض دول الجوار، وخرجوا بالغذاء والكساء وأطعموا الفارين من ويلات الحرب والمرض وجحيم الموت واستوعب مجتمع كسلا كل من أتى إليها بكل حفاوة لينصهر بكل سهولة وبكل أريحية في مجتمع كسلا .
كسلا مدينة مطبوعة على الحب ، وليس في قاموسها الشتات والفرقة ، فغنى أهل كسلا مع التاج مكي (حبيت عشانك كسلا) رائعة االحلنقي . ومع عبد العظيم حركة ( يا أرض الحبايب يارمز المحنة ) ، وغنى علي اللحو ( نحن ناس بنعيش حياتنا الغالية بالنية السليمة …وكل زول دايرين سعادتو .. تشهد الأيام عليمة ) وكتب توفيق صالح جبريل (كسلا أشرقت بها شمس وجدي فهي بالحق جنة الإشراق والمنى بين خصرها ويديها … والسنا في ابتسامها البراق ) التي غناءها الأستاذ عبد الكريم الكابلي . كما شغل الراحل الفنان الراحل محمد مطر وجدان أهل كسلا ،وتغنى بشعر كثير من أبناء كسلا ، وصدح بصوته الجميل في أفراح ومناسبات كسلا ، حتى أمسى رمزاً للفرح في كسلا ، وصدح برائعة الشاعر الجميل أبوامنة حامد ( الحب ليس قضيتي … ويامفرد ضم كل الناس) فكانت كسلا بحق هي المفرد الذي ضم كل الناس ، فكسلا مع أنها ذلك البستان الأخضر ، فهي بستان للشعر والقوافي الجميلة .
كيف لمدينة كتبت كل تلك القوافي الوسيمة ، وسطرت كل تلك القيم الإنسانية ، أن تجد لها الفتنة سبيلاً ، وكيف لمدينة عاشت كل هذا الزخم والفرح الإنساني أن يجد الحزن لها طريقاً ، كيف لهذه المدينة الفاتنة الجميلة بجبالها وهضابها وخضرتها وقاشها الذي يحيط بها إحاطة السوار بالمعصم ، والتي ازدانت بطيب أهلها وجمال خصالهم وحلو معاشرتهم أن تبكي بدموعها الغالية. كيف لهذا البريق واللمعان والتوهج أن يخبو وراء قبح القبلية البغيضة .
د. السموءل محمد عثمان
[email protected]