
هاج النيل الأبيض وعربد وزمجر، وانتفض الأزرق واكتسح ودمر، وعم الدمار والخراب، وصارت الديار مرتعا للبعوض والذباب، ومع هذا لم يكن من مجال للدموع، فقد كتم الناس أحزانهم في الضلوع، وتداعوا لنجدة الضعفاء، بالإسهام في كل جهد يخفف وقع البلاء.
رغم فداحة الكارثة لم أشهد أي علامة ضعف بين المنكوبين، بل شهدت ملحمة بطولية ساهم فيها الشباب بالقدر الأعظم لإنقاذ البشر والضأن والبقر؛ وتداعى أبناء وبنات السودان في كل الأصقاع لاحتواء المحنة، ولكن كان وسيكون القدح المعلى في الاستبسال في وجه النهر المتمرد الكاسح الجامح للمنكوبين أنفسهم، فمشاهد الأيدي المتشابكة تعلو أسطح المياه في لجج متلاطمة هي عنوان البطولة الحقة، وهي نفس الأيدي التي كتبت أنشودة الخلاص من سلطان الطغاة الفراعنة الذين ساموا شعبنا العذاب لثلاثين سنة.
ما أروعك يا شعبنا العظيم وفيك ذاك الفارس الذي شاد المتراس على ضفة النهر واستلقى ليحرسه وغشاه التعب وهو على تلك الحال فنام على الترس، التحية للصبية الصغار وهم يسندون المتاريس ويخوضون المياه الوعرة لنجدة من يعجزون عن الإفلات بأنفسهم من براثن الهلاك. والتحية لشعبنا العملاق الذي أظهرت كارثة الفيضان صفاء ونقاء معدنه فصار المصاب شأنا وطنيا عاماً.

وفي شأن آخر التحية لفاطمة جبريل التي أحرزت المرتبة الأولى بين طلاب وطالبات ولاية شمال كردفان، وهي أحق بالتحية دون غيرها من أوائل الولايات لأنها انتصرت على الفقر والظلام، فهذه الزهراء الزهرة تفتحت في قطية من القش ولم تتعامل قط مع الكهرباء والمياه الجارية عبر مواسير، وكان سلاحها لقهر الظلام عند الاستذكار بطارية (تورش)، وبمثل هذا الجلد والعزيمة ستظل فاطمة تحمل تلك البطارية شعلة تنير لها طريق المستقبل الواعد الزاهي بإذن الله
لنكن جميعا فاطمة جبريل وبالإرادة نهزم المستحيل، ويا بنت ويا ولد لتكن أيدينا للبلد..
جعفر عباس