التحكم في النيل بالتنمية

ما تتدوله الأسافير من فيديوهات وصور السيول والفيضانات يدمي القلوب ، غير أن الوجوه الأخرى من الكارثة تجاوزت آلام التدمير والتّشريد وازهاق الأرواح وتدمير الجسور والبيوت ، إلى رحاب آخر ، فالمصيبة جمعت مصابيها ، والتف المواطنون المختلفون مع بعضهم في كل شيء ، على ضرورة التكاتف لإنقاذ المركبة من الغرق ، وتجلّت بطولات الانسان السوداني وجلده وصبره على الشدائد وقناعته بالأقدار للدرجة التي نقلت فيها فضائيات الدنيا مناظر الشباب وهم يخوضون المياه ويرددون الأغاني والأهازيج الشعبية والوطنية .
الوجه الثاني المشرق هذه المرة هو التضامن الكبير من النجوم والشخصيات والدول المحلية والاقليمية ، والتي طالما وقفت موقف المتفرج في مختلف الكوارث التي مرت على بلادنا ، تقابلها المواقف البطولية لشبابنا وهم يعرضون حياتهم للخطر من أجل إنقاذ آخرين .
لقد أعادت الكارثة العديد من القيم السودانية الأصيلة التي كادت أن تندثر للدرجة التي أحارت الشعوب الأخرى بين الشعور بالحزن على مشاهد الدمار والمعاناة ، والشعور بالدهشة والاعجاب بهذا الشعب الملائكي العظيم .
الكارثة ليست سهلة هذه المرة ، ولم تتسبب فيها سياسات خاطئة أو إهمال كما يحدث عادة ، ولكنها يجب أن تؤسس لمرحلة جديدة للتعامل مع نهر النيل ومع كل المجاري المائية ، فالبقاء تحت رحمة الإحتمالات في كل عام أمر لايستقيم ، والتحكّم في النيل بشق قنوات تفريغية لايكلّف شيئا ولايحتاج خططا هندسية عملاقة ، فبالفطرة كان المزارعون يشقون القنوات ، وأهلنا في الشمالية كانو يفتحون مجاري لتفريغ فائض النيل في الصحراء ، ونحن أصلا نملك أراض شاسعة تعاني من العطش ، ففي الشرق والغرب وأجزاءا كبرى من الشمال ، بل وحتى على مسافات قريبة جدا من شريط النيل ، نجد الأراضي قاحلة برغم خصوبتها وقابليتها للزراعة ، وحصتنا الضئيلة من مياه النيل معظمها مهدر ولانستفيد منه شيئا ، والمياه الجوفية التي تغمر باطن الأرض لايجب أن نستخدمها بإسراف ، ففي مخططات كل دولة مخزونات عديدة تترك للأجيال القادمة .
ما أثلج صدري حقا أنني ما أن دعيت لمبادرة التحكم في النيل بالتنمية حتى تنادى لها الخبراء وأهل المعرفة والمناصرون للفكرة ، ووجدت تأييدا كبيرا وبدأت بمناقشات جادة ، وهي مبادرة وطنية شعبية تستهدف الحدّ من آثار الفيضانات المتوالية وإحياء بقية مناطق السودان الأخرى التي أدّى إفقارها إلى تفريغها على حساب العاصمة المثلثة التي تشهد انفجارا سكانيا غير عادي تعذّر معه تقديم الخدمات ، ونتج عنه ضعف في الإنتاج الزراعي والحيواني والتخطيطي وغيره بسبب هجرة سكان المناطق الزراعية والرعوية للعاصمة .
ومن المخجل حقا أن نشهد في منطقتنا دولا لاتملك مصادر مياه عذبة وتعتمد في حياتها على مياه التحلية من البحر ، ولاتصلح أراضيها للزراعة ، ولكنها مع ذلك وظّفت ثرواتها التوظيف الأمثل واستفادت من التقدم العلمي والتّقني وأصبحت دولا زراعية بعضها وصل مرحلة التصدير ، بينما تجري كل تلك الأنهار من تحتنا ونعيش في أزمات الجوع والعطش ناهيك عن التصدير .
السياسات الجيدة تولّد تخطيطا جيدا ، والذهب الأخضر هو مستقبل بلادنا خاصة وأن جائحة كورونا خلقت أزمة كبيرة في الغذاء العالمي ، والأنظار كلها تتجه لأرضنا التي نتصارع حولها دون وعي بدلا عن أن ندرك قيمتها ونتحد ونقبض عليها بأيدينا وأسناننا .
وما نعيشه الآن من ضوائق كان سببه المباشر هو هجران الزراعة وعدم الاستفادة المثلى من مياهنا وأرضنا ومختلف ثرواتنا ، ولو أردنا لدولتنا أن تنهض فعلينا توظيف ثلاثية الماء والانسان والأرض توظيفا سليما ، وإلا ، فإن الأسوأ دون شك قادم .
وقد بلغت
عبدالدين سلامه
[email protected]>
افضل مقال قراته منذ زمن بعيد بارك الله فيك