
لننظر قليلا وبطريقة علمية مبسطة، للسبب المؤدي لحدوث السيول والفيضانات، خصوصا وهي الغريبة من نوعها على البلاد ومنذ العام 1912. لا بد هنا من ذكر التأثير المناخي على نطاق العالم. هذا التحول القاري في معدل درجات الحرارة، والذي يلعب الدور الأساسي في حدوث السيول والفيضانات على نطاق الكرة الأرضية، معززا بالإحتباس الحراري وتأثير غاز ثاني أوكسيد الكربون وغازات أخرى على طبقات الجو العليا المحيطة بكوكب الأرض، مثل طبقة الأوزون، ثم التأثير المباشرعلى الأرض والكائنات الحية على سطحها. هناك حدوث لبعض الظواهر الطبيعية والبيئية، التي تسجل في كل عام، مثل هيجان عواصف التورنادو والهريكان في الأمريكتين، وثورات فيضانات التسونامي والمونزون في آسيا. هذه الظواهر التي تبتديء بالأمطار، وتنتهي بعواصف عارمة ومدمرة، تصل سرعتها أحيانا إلى 510 كيلومتر في الساعة الواحدة. لنتخيل فقط الشيء الذي يمكن أن يتبقى من الأرواح الآوية لمنازلها تحت ظل تورنادو يعصف بسرعة 300 كيلومتر في الساعة الواحدة.
هذه العواصف الموسيمية تضرب في كل عام وبكل قوة الجزر الواقعة على البحر الكاريبي، على سبيل المثال البهاما والفيرجن آيلاند كما كان عليه الحال في العام 2019. كما تداهم العواصف الآسيوية في كل عام، جزر الفلبين والدول الواقعة على خليج البنغال (أندونيسيا، تايلاند، ميانمار، بنغلاديش، الهند وسريلانكا)، كما حدث من قبل في العام 2004 في منطقة باندا آتشيه بلقرب من جزيرة سومطرة بأندونيسيا. العواصف المدمرة التي تحول جنان يانعة على الأرض، إلى خرابات لا تصلح للسكن، بما في ذلك الشواطيء الحالمة، والفنادق الفخمة، والمنتجعات السياحية الأنيقة. وبنهاية هذه العواصف، يبدأ السكان في بناء مآويهم من جديد، حفاظا على ما يتمتعون به من طبيعة لا يحظى بها غيرهم من الشعوب.
إذا لاحظنا لتغيرات المناخ التي تعني بإرتفاع درجات الحرارة في المتوسط، نجد أن هناك تغير لمتوسط درجات الحرارة في حدود 0.7 إلى 1.0 درجة مئوية، وبه يتنبأ خبراء البيئة، بعدم التأثير الكبير هنا على حياة الإنسان. ويظل عدم التأثير على الحياة ثابت، حتى بلوغ درجات الحرارة في المتوسط ما فوق 1.0 درجة مئوية. الشيء الذي يلحق أضرارا بالغة بالكائنات الحية، بما في ذلك النبات، الحيوان والإنسان على حد سواء.
لنتمعن عواقب تأثير المناخ على الكائنات الحية بإرتفاع درجات الحرارة ما فوق 1.0 درجة مئوية: هنا يزداد الفقر ويتفاقم الجوع عالميا، خصوصا في الدول الواقعة جنوبي أفريقيا، دول شمال أفريقيا، دول شبه الجزيرة العربية، دول آسيا الصغرى ووسط آسيا، دول جنوب شرقي آسيا، وقارة أوستراليا بأكملها. السبب هو عدم صلاحية كثير من هذه المناطق المذكورة للزراعة والرعي مستقبلا، وهذا بإنعدام الماء الصالح للشرب، وعدم توفر كمية المياه اللازمة لعملية الري لإحياء النبات. زيادة على ذلك يتوقع خبراء البيئة الذوبان التدريجي للقطبين المتجمدين، شمالا وجنوبا، مما يؤدي إلى إزدياد منسوب ماء البحار والمحيطات، وبه إزدياد الفيضانات في الخليج البنغالي، وتفاقم الأعاصير في البحر الكاريبي وخليج البنغال.
كما سوف يكون هناك تأثير مباشر على قمم المرتفعات المتثلجة بزيادة درجات الحرارة. هنا يلاحظ الخبراء المختصين في شئون البيئة، التغيرات المتصاعدة على القمم المتثلجة في سلاسل جبال الألب، والقوقاز والآنديز والهيملايا وجبل الكلمينجارو في أفريقيا. الشيء الذي ينتج عنه تغير مصادر المياه فيها، بنقصان مياه العيون والشلالات والأنهار، كميتها، مجاريها، ومصبها. بل يلاحظ المراقبين لتغيرات البيئة أيضا تزايد النضوب السنوي لبعض منابع الأنهار، التي تنحدر من قمم هذه المرتفعات والجبال.
بزيادة درجات الحرارة يأتي أيضا التأثير المباشر على مصادر الأسماك، التي يمكن لها أن تبيض في الماء، ولكن لا يمكن لها من أن تتطور وتأتي بأسماك اخرى، وهذا بسبب إرتفاع متوسط درجات حرارة ماء المحيطات والبحار والأنهار. هذا الشيء سوف يكون له تأثير سلبي على كمية الأسماك المتاحة حتى الآن للعالم، الشيء الذي يحد من الكمية “الكوتة” التي يتمتع بها حتى الآن كل بلد يقع على الساحل. النتيجة تكون هنا تضاعف نسبة الفقر والجوع، خصوصا بين صغار الصيادين، الذين يعتمدون أساسا في عيشهم على إصتياد الأسماك من سواحل غير بعيدة الأعماق.
ولتوضيح ضرواة التغيرات المناحية إذا فاقت درجات الحرارة إلى 4.0 درجاة مئوية عن الرقم المسجل حتى الآن في حدود 0.7 إلى 1.0 درجة مئوية: هذا النقطة ترجع بنا إلى إحتمال صحة أسطورة “قارة أطلانطس” المفقودة والقائصة في عمق البحر، كما ذكرها الفيلسوف اليوناني أفلاطون في قصصه، محددا موقعها الجغرافي على البحر الأبيض المتوسط، ما بين سانتورين، صقلية، قبرص، مالطا، سردينيا وكريتا. وعلى هذا المثال يتوقع مستقبلا بأن جزر بأكملها سوف تختفي عن سطح الأرض، وتغوص في أعماق المحيط بإزدياد منسوب مياه المحيط، كما هو الحال في جزر الملاديف الواقعة على المحيط الهندي، والتي بدأت ومنذ أمد في النزول التدريجي.
يمكن عموما القول بأن تأثير المناخ سوف يؤدي إلى إنعدام الماء الصالح للشرب ومياه الري، ومن ثم محدودية غذاء الإنسان وأعلاف الحيوان معا. هنا يمكن أن يتأثر حتى 50% من سكان القارة الأفريقية بذلك سلبيا، وتكون النتيجة أن 120 مليون نسمة تعمل في إحترف الزراعة أو الرعي، سوف تقع ضحية لعواقب التغير المناخي في القارة الأفريقية. ينتج عن ذلك أيضا تأثر الزراعة المطرية في كثير من الدول، وتحول الموسم الزراعي لبعض المنتجات الزراعية كالأرز والقمح والشاي والبن. كما يأتي التأثير المباشر على التنوع الأحيائي، فيما يخص النباتات والحشرات الملقحة لها. وبداية بتغير مناخي بزيادة 2.0 درجة مئوية في المتوسط، تكون النتائج وخيمة العواقب. هنا يكون الناتج فقدان ما بين 20% إلى 30% من التنوع الأحيائي “البيولوجي” على سطح الأرض.
زيادة على ذلك يلعب كل من إرتفاع نسبة ملوحة التربة، بسبب فيضانات مياه البحار والمحيطات، وإزدياد تعرية التربة بسبب الزحف الصحراوي، دورين أساسيين في عدم صلاحية كثير من المناطق مستقبلا للإنتاجين الزراعي والحيواني. هذا الشيء يدعو كثير من الدول للتفكير مبكرا في البديل وتطبيقه عمليا، من أجل تأمين الغذاء بروتيني المصدر – (ربما تطرقنا لهذا الموضوع في مقال آخر منفصل – الديدان والحشرات، البديل التغذوي في المستقبل، لسد الحوجة في البروتين – خصوصا في الدول ذات المصادر الغذائية المحدودة).
عليه لا بد من التحوط لمثل هذه السيول والفيضانات التي تداهم مناطق حوض النيل موسميا. فهي تأتي بمتوالية دورية ثابتة على مدار كل أربعة أعوام، وتبلغ ذروتها في كل ستة عشر عام. كما لا بد من جعل مثل هذه السيول والفيضانات فرصة للإستثمار الرعوي والزراعي والسمكي على كل الأحوال. أن يستفاد من المياه المتدفقة بسبب الفيضانات، والأراضي الخصبة على أثرالسيول، لتكون عون في عيش المواطن وسند في تأمين الغذاء له ولماشيته، ولو موقتا. بها تتاح للدولة على سبيل المثال الفرصة لتدريب وتجهيز المهندسين “الرؤوس الذكية في البلاد” من مخططي المستقبل. يمكن هنا أن تستوعب الدولة الخريجين حديثا من كليات الهندسة، لتطبيق محصلتهم العلمية عمليا، وبعد خمسة أعوام من الدراسة النظرية.
هنا على سبيل المثال إنشاء مشاريع تطبيقية على مجرى حوض النيل بالبلاد وإصلاح ما ألم به من أثر، دراسة وتعديل مجرى روافد وفروع النيل في السهول والوديان البعيدة، مراجعة البنية التحتية للطرق والتروس والقناطر والكباري للمدن الكبيرة والعاصمة، إصلاح وتعديل مصارف المياه ومجاريها في المناطق المنكوبة، إعادة تخطيط المناطق السكنية المتاخمة لشواطيء النيل، وإعادة النظر في عملية التخطيط السكني الحديث في المناطق الزراعية. كما تتاح الفرصة أيضا هنا للدولة، لإعادة النظر في مواقع ومراكز التخلص من الأوساخ والنفايات، ومجاري الصرف الصحي، وشبكات مياه الشرب. والتي يمكن بمراجعتها وتحديثها، تجاوز أكبر العقبات والكوارث، التي تتمثل في التلوث البيئي المسبب للأمراض محليا.
… النهاية …
E-Mail: [email protected]
