
أغلقنا علينا كالعادة باب غرفة النوم. لم تتخفف ها المرة عن ملابسها. جلسنا (أتذكر) عند حافة منتصف السرير. وضعت يدها اليسرى على كتفي. ركبتي هناك تلامس ركبتها. قالت “أريد أن أحيا معك للنهاية لكنني خائفة، خائفة، يا وليم”.
كذلك، كنت أُخفي عنها اسمي الحقيقي:
“حامد”!
كنت محتشدا، حد العماء، بالرغبة فيها.
لم أمنح نفسي أبدا أي فرصة للتفكير فيما قد قالته لي “للتو”: “أريد أن أحيا معك حتى النهاية لكنني خائفة، خائفة، يا وليم”؟
فقط، قمت، رفقا، بطرحها على السرير!
كما يحدث دوما هناك، ظللت أرتفع، أهبط بين بساتينها. وديانها. عشبها أخضر. أهيم تائها على هضابها. أتوغل داخل ثناياها إلى درجة الغليان. كانت تبدو كل مرة مرنة سخية حقيقية داخل دفئها الحليبي المشع. تذهب معي صوب قمة المتعة مكتوية بغمار الجرأة الخالدة نفسها. كما لو أن العالم لا يحمل بين كفيه غيرنا. أصابعنا متشابكة. شفاهها ذائبة داخل فمي. أطرافنا في الأسفل متلاحمة ضاغطة على بعضها. حلمتا نهديها، أجدهما تارة بين إصبعي إحدى يدي، تارة أعثر عليهما بين رحمة أسناني. أعضهما وهناً ترتعش. نظل في غرامنا المستميت هذا، لا نلوي على شيء آخر غيره، لكنّ أماندا ماران بون لم تمكنني طوال تلك المرات مجتمعة من رؤية أعماق النبع بعين موضوعي الخاصّ لثانية واحدة.
على الجانب الآخر، كانت جيسيكا تميمة أماندا ماران بون للنجاة تصل ذروة السعادة، بينما تلتهم في الصالة بشراهتها التي أعلنت عن نفسها منذ الوهلة الأولى ما لدي من مطايب داخل الثلاجة وخارجها. لدى جيسيكا مع الطعام ثأر غريب!
ذلك عهد مضى لحاله كاد أن يفضي بي إلى الجنون.
وذلك عهد درجت فيه أماندا ماران بون على زيارتي في مكان العمل أثناء تلك الأوقات التي أحمل معي خلالها جهاز الكومبيوتر المحمول إلى المكتب لبعث رسائل خيالية عن روعة الحياة في كندا إلى منفيين لا يزالون يكابدون شظف العيش في منافٍ وسيطة مثل القاهرة. كنت أرسم لهم بخيال مستعار في شطط عنفوانه من سلفادور دالي ما قد تريد أعينهم العطشى من رؤية لفراديس ساحرة زاخرة بأنهار خمر ورائحة شواء و”عسل المرأة بين فُرشِها الوثيرة لا ينضب”. كانت تشكو عند مستهلّ تلك الزيارات المتباعدة إلى مكتبي قائلة إنها تضجر، بينما تجلس وحيدة حبيسة حيطان الشقة، وقد ظلّ الكومبيوتر يبني لها تلك الجسور، عبر غرف الدردشة في موقع “ياهو”، إلى أصدقاء وصديقات وراء البحار، بينما يمتد دوام عملي عادة أكثر من نصف اليوم. كنت أدفعها أحيانا إلى البحث عن عمل ما أو مواصلة الدراسة. لا جدوى!
منذ أن رآها ديريك المرتاب لأول مرة، لم ينفك يسألني عنها، وهي حين تراه عبر شاشة الكاميرا المعلقة أعلى باب المكتب الخارجي، أو عندما تتناهى إليها حركة المفتاح رقم 14 على القفل في الدقائق التي تكون فيها غرفة التهوية ساكنة؛ تنطوي على نفسها لائذة إلى هدوء مربك. ديريك لم يجلس إليها في واقع الحال مطولا عدا مرة واحدة، عدا ذلك كان يحييها على طريقته المتوجسة، قبل أن يدلف إلى دورة المياه ويخرج مغادرا على الفور إلى حيث أتى من مرآب السيارات ذي الطوابق المنحدرة أسفل الأرض. في تلك المرة، تجاوز ديريك صمته. بدأ يبرهن عمليّا على خبرته كأكبر حارس مرتاب يمشي على قدمين. ظلّ يتابع أماندا بأسئلته على نحو جعلها تنظر إليَّ برجاء وتوسل مُختَلس، “بالمناسبة، يا أماندا، لديَّ شخصيا أمر ما يشغلني: هل يوجد بعض الأغبياء لديكم يقفزون كذلك على أكتاف المارة من البلكونات القريبة”؟
“هذا الحارس يسخر مني بنظراته تلك، يا وليم”.
لم أتوصل من جانبي أبدا إلى إقناعها أن “هذا المسكين المدعو ديريك مولر” مصاب بخلل عقلي ما. إلى أن جاء ديريك نفسه مهرولا في ذلك اليوم مقسما بحق المسيح والجديّة اللعينة نفسها تكاد تقفز من داخل عينيه العليلتين قائلا إنه رأى كائنا فضائيا ما في المرآب. كاد قلبه يتوقف مما بدا شدة الهلع. كانت تلك المرة الوحيدة التي رأيت فيها أماندا تنطلق في الضحك على سجيتها قبالة “إنسان أبيض”. زاد الأمر سوءا أن أماندا رأتني أستجوب ديريك المرتاب متفاعلا لحظتها بجديّة تفوق جديته تلك، مستفسرا منه بتفهم سائلا برصانة لا أحسد عليها عن مواصفات ذلك الكائن الفضائي. إذن:
“هل يمكن أن تصف لي، الآن، ما شكل أُذنيه، يا ديريك”؟
لا تكاد أماندا ماران بون تتوقف عن الضحك وسط حيرة ديريك مولر. تلك الحيرة التي أخذت تحل، منذ دقائق، في أعقاب تلك الموجة الطاغية من الذعر. كل إنسان يرى أحيانا كائنه الفضائي الخاص. أما أنا فكائناتي الفضائية لا حصر لها لو لا رغبتي اللا نهائية تلك في تجنب الاستسلام للجنون كمسكن آخر لألم الخروج عن هذا العالم. لعل ذلك ما ضمن لي القدرة على البقاء خلال عبور دهاليز المنفى تلك الأكثر حلكة حتى الآن. سألني ديريك مولر المرتاب هذا يوما، وثمة حياء يطل من وراء نظارتيه الطبيتين، عما إذا كان لدى فتاتي أماندا ماران بون شقيقة ما أكبر منها عمرا. لم أخبر أماندا بما حدث بيني وبينه. كانت أماندا، ذلك الخليط البديع من بِيض وهنود حمر، في جزء منها غارقة في هواجسها تجاه كل ما له صلة بعِرقها الآخر الأبيض المتحدر إليها من جهة أمّها. وذلك السؤال لا يطرح عادة في كندا. قلت:
“لا، ليس لديها شقيقة أخرى، يا ديريك”.
كما لو أنه أصيب بخيبة أمل لا نهائي.
قال مشيحا بوجهه ذاك صوب السقف:
“لا عليك”.
لم أستطع مقاومة فضولي أكثر من ذلك:
“لِمَ تسأل، إذن، منذ البداية، يا ديريك”؟
قال ديريك في شرود مشوب بحياء ما:
“سألتك فقط من باب الفضول يا هاميد”.
كان لديها هناك أكثر من شقيقة واحدة.
كنّ جميعا مرتبطات بعلاقة ما أو أخرى. لا جمال يتبقى طويلا في هذا العالم من دون طارق. إلا أنني لا أتذكر منهن الآن بمثل ذلك الوضوح سوى شقيقتها سمانتا لسبب لا يمكن نسيانه. ما إن يغادر ديريك، متجها إلى المرآب، حيث يغالب هناك تلوثا وعتمة كئيبة وضجيج مراوح وشفاطات هواء ضخمة، حتى تهجم أماندا على أسطوانات كيتي سام الغنائية، وتبدأ في نسخ بعض محتوياتها على جهاز الكومبيوتر المحمول، “ما الذي تفعلينه الآن بأغاني البيتلز والريف القديمة، يا أماندا ماران بون”، سألتها مرة.
عاد إليها بريق وجهها ذاك الآسر الأليف.
قالت:
“لا تنسى أنّي نشأت مع والدي في الريف”.
قلت:
“ظننتك تحبين فقط أغاني… الهيب هوب”.
فجأة، غمرت فرحة طفولية وجه أماندا كله.
كانت لا تزال ملتفتة نحوي، ممسكة بإحدى تلك الأسطوانات القديمة من مقتنيات كيتي، حين تابعتْ بدهشتها: “يا إلهي! أكاد لا أصدق! إنها “ليلة السبت في مدينة صغيرة”، لكم أحبّ هذه الأغنية يا وليم”؟ كذلك، تتحكم البدايات في مساراتنا. حتى بعد أن عرفت أماندا بحقيقة اسمي ثلاثيا، ظلّت لا تناديني في أكثر لحظات الفراش حميمية سوى بذلك الاسم: وليم!!
