مقالات سياسية

فاض النيل أم غرقت الحكومة؟

محمد التجاني عمر قش

ظل النيل مصدر إلهام لكثير من الشعراء والعشاق والمبعدين في السودان؛ فتغنوا بروعة شواطئه، وجماله ونسيمه العليل، وحق لهم ذلك؛ فهذا المارد هو رمز الحياة على طول ضفافه وروافده. ألم يقل إدريس جماع، رحمه الله:
النيل من نشوة الصهباء سلسله                 وساكنو النيل سمار وندمان
وخفقة الموج أشجان تجاوبها                    من القلوب التفاتات وأشجان
كل الحياة ربيع مشرق نضر                     في جانبيه وكل العمر ريعان
تمشي الأصائل في واديه حالمة                 يحفها موكب بالعطر ريان
وللخمائل شدو في جوانبه                      له صدى في رحاب النفس رنان
ولكن مصدر كل هذا الرونق والجمال قد يتحول، في بعض الأحيان، إلى سبب مباشر لكارثة طبيعية يصعب تداركها، بما كسبت أيدي الناس، حتى ظهر الفساد في البر والبحر، فهدمت المنازل وأخرجت الحرائر من خدورها، وابتلع المارد تلك الخمائل التي تغنى بها ولها جماع وغيره من الشعراء.
ما يحدث في السودان، هذه الأيام، من فيضانات ليس كله بسبب زيادة منسوب المياه في النيل وروافده، بل يعود لعوامل بشرية ومناخية وبيئية وربما سياسية وعمرانية، ظلت تتراكم منذ فترة ليست بالقصيرة! فمن جانب زحف الناس على ضفاف النيل، حتى سدوا جميع المنافذ، التي كان النيل سابقاً يتنفس عبرها، إذا صح التعبير، فنحن نرى الآن العمائر الشامخات والقصور والمنازل والبنايات الشاهقة، التي أقيمت على ضفتي النهر، دون مراعاة أو اعتبار للمحاذير المناخية، وكأن الناس قد نسوا أن الماء لا يغير مجراه، مهما طال الزمن أو امتدت فترات الجفاف، فهجموا على ضفاف النيل طمعاً في الاستمتاع بالخضرة والماء، والحسن، فانقلب الأمر نقمة على كثير من الضعفاء والمساكين الذين ظلوا يقتاتون على ما يخرجون من باطن النيل أو ما يزرعون على ضفتيه، وهذا لعمري خطأ بشري وهندسي لا يغتفر، ارتكبه أصحاب النفوذ والمال ولحقت أضراره بغيرهم.
أما الدولة فقد كان تقصيرها واضحاً في التعامل مع التوسع العمراني، الذي زحف على أطراف العاصمة المثلثة، والمدن الأخرى، وحتى كبريات القرى، وغفلت الحكومات عن تنبيه المواطنين بعدم البناء على مجاري الأودية التي تصب في النيل؛ مثلما هو الحال في مناطق شرق النيل وجنوب أم درمان وغيرها من المناطق السكنية والعمرانية الأخرى، الواقعة بالقرب من النيل، من سنجة حتى اقصى الشمال. وحتى المزارع لم تراع فيها متطلبات الصرف بطريقة هندسية بحيث لا تحجز المياه، ولكن “الطمع ودّر ما جمع”؛ فخسر كثير من المزارعين بساتينهم ومحاصيلهم وثروتهم الحيوانية التي جرفها النيل عند غضبته!
أما المواطن، هو الآخر، فقد أسهم في هذه الكارثة بتهاونه، وركونه إلى فترات الجفاف المتطاولة التي تعاقبت على البلاد منذ سبعينات القرن الماضي، فدأب على بناء المنازل بمواد لا يمكن أن تتحمل هذه الكميات الاستثنائية من الأمطار والسيول؛ لأن ما حدث هذه السنة لم يكن في الحسبان بشهادة علماء الإرصاد الجوي وخبراء المياه.
ومن الناحية السياسية، فإن أخفاق الأطراف المعنية بسد النهضة في التوصل لاتفاق فيما يتعلق ببدء ملأ السد، قد فاقم المشكلة، بزيادة كمية التبخر والأمطار. ولذلك من المتوقع أن تتكرر هذه الكارثة مستقبلاً إذا لم تتخذ الدول الاحتياطات الهندسية اللازمة لتفادي تدفق المياه بمكيات كبيرة عبر النيل الأزرق. كما أن انشغال الحكومة بقضايا هامشية، وسعيها إلى تصفية منظمات الإغاثة، ذات الخبرة الطويلة في العون الإنساني، ودرأ آثار الكوارث، التي كانت قائمة في السودان، قد أدى إلى فشل كبير في مد يد العون إلى المتضررين من السيول، من حيث توفير المأوى المؤقت والإعاشة، ولا يلام على ذلك إلا حكومة قحت التي لم تعد تنظر للأمور إلا بعين واحدة، وحتى هذه قد أصابها الرمد. وهذه المنظمات كانت لها علاقات طيبة مع بعض الجهات المانحة والخيرين دولياً وإقليمياً؛ ولذلك كان بمقدورها توفير الدعم اللازم ومواد الإغاثة بكل يسر وسهولة، ولكن حكومتنا كسرت “المحافير” بلا سبب وجيه. وذات الحكومة عجزت عن استخدام علاقاتها الخارجية لطلب الدعم العاجل، فيما عدا بعض المساعدات التي قد تخفف من وطأ الكارثة، لكنها لا تمثل حلاً دائماً للمشكلة، ولا هي تكفي لإعمار ما دمرته هذه المياه، في مساحة هي أكبر بكثير من بعض دول المنطقة.
إن ما يحدث ليس شراً كله بل هو كما قال سيف الدين الدسوقي:
والكنز كان هو الإنسان مكتملاً
في محفل الجد لم يهرب ولم يغب
والنيل إن فاض أروتنا جداوله
وإن تراجع جاد النخل بالرطب
وأن يفيض النيل بهذا الشكل الكارثي، الذي تسبب في كثير من الخسائر الفادحة في الأرواح والممتلكات فتلك مصيبة، بيد أنها نتيجة لغضبات الطبيعة، وهي كثيرة، ولكن المصيبة الأعظم أن تغرق حكومة السودان بأكملها في شبر ماء! ومع هذا كله لا نملك إلا أن نردد مع المبدع الراحل المقيم سيد خليفة قول الشاعر المصري المعروف صلاح عبد الصبور:
لا هذي ولا تلك
ولا الدنيا بما فيها
تساوي ملتقى النيلين
في الخرطوم يا سمرا

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..