
(1)
من المسلم به أن لكل ثورة، ثورة مضادة لها، وإن انتصار قوى الثورة أو الثورة المضادة في هذا الصراع أو ذاك؛ مرهون بعوامل القوة التي تمتلكها أي منهما، وعوامل الضعف الكامنة في جسد هذا الطرف أو ذاك، المؤثرة سلباً في صراعه مع الطرف الآخر؛ وحين ندقق النظر في هذه العوامل مجتمعة نستطيع أن نتبين، سر استبهام الثورة السودانية، وذلك من خلال امعان النظر في جولاتها الثلاث التي حدثت في أكتوبر 1964م وأبريل 1985م ومؤخراً في ديسمبر 2018م؛ واستطاعت أن تسقط رأس النظم الاستبدادية دون أن تسقط النظم ذات نفسها ومؤسساتها القديمة؛ ونستطيع أيضاً أن نتلمس سر قدرة الثورة المضادة على تنظيم نفسها واستعادة دورها التخريبي بسرعة بعد كل جولة من الجولات الثورية الثلاث التي حدثت في السودان.
(2)
لعل من الراجح هنا أن نذكر؛ بأن مجموع سنوات حكم النظم الاستبدادية العسكرية للسودان؛ قد فاقت اضعاف سنوات حكمه بنظم مدنية ديمقراطية، وهذا يقودنا لتذكر قاعدة علم الاجتماع الشهيرة القائلة: بأن الأفكار والقيم، والعادات والتقاليد والمعتقدات السائدة في أي بلد أو مجتمع، هي أفكار وقيم وعادات وتقاليد ومعتقدات الطبقة السائدة فيه، المتحكمة في حياته وسلوكه؛ وهذا ما يبرر التناقض الذي نلمسه في حراك الشارع السوداني فهو من جهة راغب في التغيير ويعمل من أجله ومن جهة أخرى قليل الصبر لا يحتمل معاناة فترات الانتقال المضطربة قاسية السمات الأمنية والمعيشية مما يعني ضعف القدرة على الفكاك من أسار الأفكار والمعتقدات والقيم، القديمة التي رسختها النظم المستبدة التي سادت لفترات طوال.
(3)
إن أسوأ تشويه وتحطيم لمنظومة القيم والعادات والتقاليد السودانية؛ قد تم على يد نظام الحركة الاسلامية البائد؛ فطوال ثلاث عقود جرفت كل المكتسبات الحضارية؛ التي راكمها إنسان السودان؛ ليعود القهقري لمربعات أكثر تخلفاً قد تجاوزها منذ عقود؛ فالطبقة الطفيلية المتأسلمة التي سادت وتسيد اقطابها الثلاث عقود الماضية رعوية الأصول والمنشأ، يعود فكرها وسلوكها ونظرتها للحياة، إلى زمن الحقبة الإقطاعية والرعوية البائدة التي مرت يوماً على المجتمعات الإنسانية، فرغم التغير والتطور الذي لامس حياة أفرادها كأفراد؛ فلا تزال هي كحركة سياسية مجتمعية تنظر إلى بقية مكونات المجتمع على أنهم مجموعة من الجهلة فاسدي العقيدة، و لا ترى البلد الذي تحكمه، سوى إقطاعية على الشيوع، تتصرف بها وبمقدراتها كيفما تشاء ولا ترضى معارضتها من أي كائن كان، باعتبار أن هذا الوضع حق طبيعي لها، خصها وفضلها به ”الله“.
(4)
طبيعة فكر الحركة الإسلامية منغلق محافظ، ومحدود الرؤى، وهي لا تسعى للأخذ بشيء من أسباب التغيير والتطور الحقيقي، سوى ما يعزز سلطتها وسيطرتها على الحكم؛ فأقصى غاياتها في الحياة هو أن تتميز عن باقي أفراد المجتمع الذي تحكمه، بتوافر الاحتياجات الغريزية وامتلاك وسائل الترفيه والمتع الحسية، وهذا ما يفسر هول ما كشفت عنه (لجنة تفكيك التمكين) من أوجه فساد لأقطاب الجماعة الذين استباحوا أراضي السودان وامتلكوا أعداد هائلة من القطع السكنية والزراعية؛ ولشعورهم بفداحة الجرم والفساد المرتكب اهتموا بإحاطة سلطتهم بعوامل القوة والمنعة، حتى بلغت نسبة الصرف على الأجهزة الأمنية الـ (67%) من مجمل موازنة الدولة دون أن يكون في وارد تفكير الشيوخ خلق برامج نهضوية لتطوير الوطن الذي انشبوا أظافر النهب في مقدراته وثرواته طوال ثلاث عقود.
(5)
الفكر كما يعرف فلسفياً، هو نتاج وسائل الإنتاج الموجودة بأي مجتمع، وانعكاس لها بالضرورة؛
لهذا فالحركة الإسلامية وشريحتها الاجتماعية الطفيلية غير معنية اقتصاديا سوى بالإنتاج الهامشي المتمثل في النشاطات التجارية البسيطة “كالمنتجات والسلع الاستهلاكية”، أما “الإنتاج الصناعي” فليس له نصيب من تفكيرها، إنما تعتبره مهدداً لوجودها وكيانها، لأنه يخلق، في نهاية المطاف، طبقة “عمالية صناعية” قوية خارج إطار سيطرة تفكيرها المحدود، فالاقتصاد الطفيلي بطبيعته واهن وعديم الأفق؛ غير قادر على الإبداع والابتكار اللازم لتطوير وسائل إنتاجية صناعية يعتد بها والجهد الذي بذل في هذا المجال على قلته طوال ثلاث عقود كان في مجال التصنيع العسكري وتم بأيادي وخبرات أجنبية (ايرانية) في اطار لعبة المحاور الدولية.
(6)
انغماس المجتمع السوداني بمؤسساته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية؛ في مستنقع هذا الفكر الذي يحاكي؛ خيوط العنكبوت وهنا ولزوجة؛ لثلاث عقود عجاف؛ اصاب المجتمع ومؤسسات الدولة السودانية بقحط فكري واخلاقي حاد؛ نرى انعكاساته جلية اليوم في ممارسات النخب السياسية؛ التي سطت على منصة ثورة 19 ديسمبر 2018م وابعدت القوى الثورية عنها؛ وها هي تحاول جاهدة حرف مسار الثورة عن الأهداف التي تفجرت من أجلها؛ فبعض الذين التحقوا بركب الثورة حين تبدى لهم نصرها المؤكد، قفزوا فجأة لصدارة منصتها، ولم يكتفوا بذلك إنما سعوا أيضًا للعب دور قيادي في توجيهها، والتأثير سلباً في توجهات الجماهير التي صنعتها وضحت في سبيلها بكل غالي ونفيس.
(7)
اخذت النخب الانتهازية باكراً تتأمر لإقصاء قيادات لجأن المقاومة الميدانية؛ والصراع مع النظام القديم لم يحُسِمَ بعد؛ ولا تزال مؤسساته تتحكم في مقاليد البلاد؛ للحد الذي مكن بقاياه من فرض (اللجنة الامنية) التي كونها رأس النظام الساقط؛ كشريك لقوى الثورة في السلطة الانتقالية؛ واجبر القيادات السياسية الخائرة المتعجلة للمكاسب والمناصب؛ على التوقيع على وثقتين “سياسية ودستورية” معيوبتين؛ هذا أدى لاهتزاز هيبة (تحالف قوى الحرية والتغيير)؛ وانقسام مكوناته انقسامًا حادًا؛ اتاح الفرصة أمام قوى الثورة المضادة؛ لتسترد انفاسها بأسرع ما يمكن وتنتقل من مربع الدفاع للهجوم المباشر؛ على سلطة الثورة ؛ ووضع العراقيل امامها؛ بخلق الازمات الاقتصادية والمعيشية؛ في محاولة جادة لإفشال الفترة الانتقالية برمتها.
(8)
بدعاوي تبدو ظاهرياً مقنعة بدأت قيادات الأحزاب اليمينية والإصلاحية بالترويج إلى أن موازين القوى التي تبعت سقوط رأس النظام، وقيام السلطة الانتقالية لا تسمح بتحقيق أهداف الثورة دفعت واحدة، وأخذت ترمي بإشارات وتبدي رغبات ضمنية حيناً؛ وجهيرة احيانا؛ يفهم منها حرصها على استصحاب جزءاً من النظام البائد؛ ترى أنه قد ساعد على نجاح الثورة؛ بل ذهبت بعض من تلك القيادات الحزبية إلى أبعد من ذلك والتقت سراً من وراء ظهر حلفائها في (قوى الحرية والتغيير) ببعض رجالات النظام القديم (صلاح قوش) على أمل وضع مخطط للتخلص من القوى الثورية في مراحل لاحقة وبناء نظام مغاير يحمل في طياته ابعاداً من النظام القديم تحفظ لهم مصالحهم وقد شهدنا جميعا في مرحلة متقدمة من عمر السلطة الانتقالية كم من التصريحات السالبة لنفس تلك القيادات تؤكد فشل السلطة الانتقالية وتدعو لانتخابات مبكرة!!.
(9)
إذا كانت حقاً موازين القوى التي تبعت سقوط النظام، ودخول البلاد في مرحلة انتقالية؛ لا تسمح بتحقيق أهداف الثورة وإقامة نظام جديد؛ يعكس أهدافها في – الحرية والسلام والعدالة – ووفق زعمهم فكيف يمكن أن تذهب الثورة إذن من خلال صناديق الاقتراع المبكرة إلى تسلّم زمام السلطة ومقاليد البلاد، ولا تزال مؤسسات الدولة المدنية والأمنية وعلى رأسها الجيش والقضاء، ضدها، أضف إليها قطاعات واسعة من الانتهازيين والمنتفعين الذين استفادوا من وجود النظام القديم، ناهيك عن أولئك الذين يمسكون بالاقتصاد والمال خارج دولاب الدولة؟!!
(10)
المنطق السياسي المعوج الذي استندت عليه قيادات أحزاب اليمين الإصلاحية لم يكن منطق من يريد التغيير بل هو منطق غير برئ يتماهى مع ما تسعى إليه الثورة المضادة؛ فإذا كان ميزان القوى؛- بحسب زعمهم – لا يسمح ببناء نظام جديد جملة واحدة؛ وأن مراكز القوة القديمة جميعها ؛خارج سلطة الثورة؛ فكيف ستأمن تلك القيادات الداعية للذهاب إلى انتخابات مبكرة على سلطتها المنتخبة من عدم حدوث انقلاب عسكري يعيد إنتاج النظام القديم؛ إلا إذا كانت قد عقدت صفقة مشبوهة من خلف ظهر الجميع مع (اللجنة الامنية) التي احتلت مجلس السيادة؟؟.
(11)
اثبتت التجربتان الثوريتان السابقتان في السودان – أكتوبر 1964م وأبريل 1985م- أن العجلة في الوصول لصناديق الانتخاب كانت من الأسباب الأساسية لفشلهما وانحرافهما عن الخط الذي رسمته الجماهير فميزان القوى مهما كان مؤاتِ لا يشكل ضمانة كاملة للوصول لوضع ديمقراطي مستقر ما لم يضمن تماماً ولاء القوة المسلحة ومؤسسات الدولة المدنية والجميع يعلم ما هو وضع الجيش والقوى الأمنية ومؤسسات الدولة المدنية الأخرى التي تعج اليوم بالكثير من منسوبي النظام البائد أضف إليها القوى المتنفذة اقتصادياً ومالياً وإعلامياً وثقافياً في المجتمع، وأكثرها من مناصري النظام القديم أيضا؛ هذا الوضع الماثل يدل دلالة قاطعة على أن الدعوة لانتخابات مبكرة والتعجل للوصول لصناديق الاقتراع هو معركة محسومة سلفاً في غير مصلحة الوضع الثوري.
(12)
إن من ضعف البصر والبصيرة أن لا يتوقع السياسي امكانية حدوث انتكاسة في مسار الثورة أو هجمة مرتدة انقلابية من قوى الثورة المضادة في الوضع السياسي الهش الذي يعيشه السودان والذي يعاني من انقسام سياسي واجتماعي حاد يستوجب الحذر واتبّاع سياسات صحيحة في إدارة الصراع والنظر بنظرة شاملة للعلاقة المعقدة بين ميزان القوى الداخلي والخارجي من جهة والإرادة الجماهيرية والخط السياسي من جهة أخرى فتلك العلاقة المركبة هي التي تقرر في نهاية المطاف مصير الصراع نصر أو هزيمة؛ كما هي التي تحدد امكانية نشوء معادلة سياسية جديدة مقبولة نسبيا من قبل جميع المكونات الاجتماعية والقوى السياسية.
(13)
فن إدارة الصراع السياسي يعتمد على حُسْن تقدير المواقف فهناك أساسيات تحكم الصراع غالباً ما تتجاهلها، الأحزاب التقليدية ذات الحشود الجماهيرية الميكانيكية؛ التي تفتن بحشودها وتصاب قياداتها بغرور القوة؛ فتتعجل المكاسب السلطوية والثورة لم تبلغ بعد كامل نصرها، فتجنح إلى الاستئثار بأقصى ما تستطيع الوصول إليه من مكاسب ولا تكتفي بهذا بل يقودها غرورها لمحاولة إقصاء قوى التغيير الحقيقية التي فجرت الثورة بزرع العراقيل ونسف استقرار التحالفات المرحلية كما هو حادث اليوم داخل تحالف (قوى الحرية والتغيير) وما استهداف مواقف الحزب الشيوعي ولجأن المقاومة الشبابية إلا تعبير حي عن فجاجة ورعونة سياسية بالغة ان لم تحاصر قد تضر بمجمل عملية التغيير كما حدث من قبل في التجربتين الثوريتين السابقتين.
* ولنا مع الجدب العقيم.. محاولات واختبار … وغداً يكون الانتصار.
تيسير حسن إدريس
______
*الميدان 3699،، الأحد 20 سبتمبر 2020م.*
مقال رائع يعبر عن ثقافة رفيعة وعن فكر غالبية الطبقة المستنيرة في السودان وعن تطلعاتها وتحليل موفق لمشكلات الثورة وحلولها وفكر الحركة الإسلامية . نحتاج للترويج لإفكار السيد تيسير بين ممن يمكن أن يسنمعوا لها ونتطلع للمزيد . تحياتي
شكرا استاذ تيسير علي هذا التحليل العميق، نرجو ان تواصل السير في كشف المستور.