
بكل عدم تواضع أقول إنني “ولد عز” منذ طفولتي الباكرة، التي قضيتها في حي المرابيع في كوستي في بيت مستأجر من مأمون الريح، يجاور دكان “تقلا” الذي كنا نشتري منه الطحنية وحلاوة لكوم، ثم انتقلنا الى جزيرة بدين في بيت مساحته نحو 1500م2، وبه طلمبة الماء الوحيدة في الحي وتلك الطلمبة (المضخة) عبارة عن ماسورة طويلة جدا يتم غرسها في بئر عميقة وفي الجزء السفلي منها مصفاة ناعمة، وفي الجزء العلوي ذراع طويلة ملحقة بنظام ميكانيكي وترفع الذراع وتخفضه فيشفط الماء، وبما ان والدي كان يعمل في النقل النهري (الوابورات) ويتقاضى راتبا شهريا فقد كنا من البيوت القليلة في بدين التي تشتري احتياجاتها بالكاش بينما كان اغلب الناس يقايضون الحبوب والتمور بالسلع الاستهلاكية، وكنا – قولوا ما شاء الله- ناكل “الدمعة” يومي الاثنين والخميس عندما ينعقد سوق بدين ويتسنى لنا شراء اللحم.
وعندما وصلت الصف الثالث الابتدائي أهداني خالي “أبيض” واسمه الأصلي محمد فقير حمارا دراوي (نسبة الى دراو جنوب مصر) وكان ذلك الحمار حيوانا بمعنى الكلمة ولا يطيع لي أمرا، ولكن المهم انني كنت أذهب به الى المدرسة وأوقفه في “الباركينق” المخصص لحمير المدرسين، وذات مرة كنت اركبه في طريقي الى السوق فقام بتغيير اتجاهه واندفع نحو الشفخانة (المركز الصحي) ودخلها “توووش” فقام المساعد الطبي بمسح أنفه بقطعة قطن فيها نشادر، وصار الحمار مؤدبا لنحو يومين متتاليين، ولكنه رجع الى ضلاله فأعدته الى “أبيض” (اسمه الأصلي محمد ونال لقب ابيض لأنه لم يكن يكذب او يحلف بالله او بغير الله أبدا)
ذات سنة أحضر أبي لي ولابن عمي عبد اللطيف الطيب رداءين (شورت) ف”قشرنا” بهما في المدرسة، وفي الطابور الصباحي نادانا الناظر وقال: صفقوا للمفتشين وعلا التصفيق، واحسسنا بالفخر، وفجأة انهال علينا ضربا بالعصا والشلوت، وعلت ضحكات الشماتة من مائتي تلميذ وهربنا الى بيوتنا ونحن “نسكلب” وننوح.
أجدادي من الجهتين فقهاء ارتبطت أسماؤهم بسلسلة من المساجد يناهز عمرها 400 سنة، ومدفونون في قبة في حي أب جاسي، وبعضهم في “زاوية” ملحقة بمسجد الحي، وكان كل من يملك شيئا ثمينا لا يستطيع تخزينه في بيته يضعه قرب القبة فلا يقترب منه أحد، وذات ليلة كان الدور على ابن خالي “محمد حامد كنه” لجلب الحطب الى الخلوة القرآنية فاختار الدرب السهل وحمل فاسا صغيرة وشرع في قطع أجزاء من حلقة ساقية كانت قرب القبة فإذا بالفأس يقطع جزءاً من اصبعه الخنصر وبعدها ازداد الجميع اقتناعا بان ساكني القبة حراس أمناء لا يجاملون حتى أحفادهم.
وحدثت لي قفزة برجوازية أخرى في مدرسة البرقيق الوسطى عندما صرت أملك لمبة خاصة وكان من يملكون مثل تلك اللمبات التي تعمل بالجاز يتغطون ليلا ببطاطين سوداء ويذاكرون دروسهم وهم في مأمن من ان يقفشهم ضابط الداخلية، ولحسن حظنا لم يكن هناك ثاني أوكسيد كربون في ذلك الزمان، وفي البرقيق عرفنا العسل أبو أسد (Lyle’s Golden Syrup)، وسافرت الى ابي في كوستي مرتين وانا في تلك المرحلة وذقت الدندرمة و”دخلت” السينما وصرت بذلك “الفريد في عصري”، وفي المرحلة الثانوية حدثت لي قفزة حضارية عندما امتلكت بنطلونا (صفاره فاقع)
وفي السنة الأولى في الجامعة كنت أملك عجلة (دراجة) اركبها (غرض بلا غرض) حول سور الجامعة، وبعد التخرج أهداني أخي عبد الله سيارة مجهولة الهوية تمشي خطوة اتنين مستحيل، وليس فيها ترس للرجوع الى الخلف وكنت كلما توجهت نحوها هرب شباب الحي الى بيوتهم كي لا يضطروا الى دفعها لمسافة كيلو او اكتر حتى يدور محركها، وزهجت منها وتركتها تحت كوبري شمبات ناحية ام درمان، وأحزنني انه حتى باعة الحديد الخردة لم يفكروا في “تلشيعها” وبقيت هناك حتى أتى فيضان وكنسها، فراحت غير مأسوف عليها.
باختصار حدثت لي طفرات برجوازية كثيرة في حياتي ولولا الخوف من اتهامي بالفشخرة والبوبار وفك الزرار لذكرتها بالتفصيل (وأتحدى جيل الألفية الثالثة إذا كانت لأي منهم قفزات حضارية كتلك التي مررت بها)
جعفر عباس
يا ابو الجعافر خليك من السياسة ما يجي منها إلا البلاوي ..كتاباتك حلوه و مسليه. .فقط ابعد من ساس يسوس