مقالات وآراء

عبارة “صنع في السودان” طواها النسيان وجار عليها الزمان (1)

امير شاهين

ثار جدل كثيف مؤخرا فى بعض وسائل التواصل الاجتماعى عندما تناقل بعض الناشطين صورة لمنتج غذائى كتب على غلافه من الخارج ” صنع فى السودان وبايدى ( تم ذكر جنسية عربية من بلاد الشام) ” وكالعادة فقد تبارى البعض فى ايصال وجهات نظرهم مابين  منقدون  وهم الاغلبية و مبررون او متفهمون وهم اقلية و بالطبع لا يوجد مادحون !
فقد كانت وجهة الاغلبية المنتقدة بانه كان يكفى ذكر ” صنع فى السودان” ولاداعى لذكر البقية  اذ انه لاتوجد فى كل العالم مثل هذه العبارة , فمثلا لاتوجد عبارة من شاكلة ” صنع فى اليونان وبايدى بلغارية ”  ولكن بالنسبة الى فقد فسرت الامر على نحو مختلف ! فابناء الشام  معروفون ومنذ القدم ومعهم اليمنيون  بانهم موهوبون فى التجارة و البزنس منذ ايام رحلتى الشتاء و الصيف ( اليمن و الشام)  فى عصر الجاهلية وقبل ظهور الاسلام  , واعتقد جازما بان من كتب هذه العبارة لم يكن يقصد الاقلال او الحط من شأن مهارة او اجادة العامل السودانى بالرغم من ان الرسالة الى اراد  ان يوصلها كاتبها الى الجميغ  هى ” انه بالرغم من ان هذا المنتج قد تمت صناعته فى السودان , الا  انه قد تمت صناعته بواسطة  الشوام  المشهورين باجادة صناعة مثل هذه المنتجات “
واذا نظرنا الى الامر من زاوية اخرى فاننا على الفور ندرك بن القصد من هذه الرسالة هو جذب المزيد من العملاء من خلال التركيز على مهارة و جودة المصنوعات  الشامية وتفوقها على ما عداها بالذات فى مجال صناعة  الماكولات و الخبائز و الحلويات .  ولكن ما ازعجنى فى هذا الامر هو انه و بطريقة ما يشير لابتعاد السودانيين عن طريق اجادة التصنيع او تخلفهم عنه ! وهنا رجعت بى الذاكرة الى تلك الايام عندما كنا صغارا نسعد و نحتفى عندما نجد كلمات ” صنع فى السودان او Made in Sudan”  ”  مكتوبة بخط جميل وواضح فى العديد من بقايا خارج الصناديق او الكراتين و نشعر باننا قد امتلكنا الدنيا بما فيها  وكنا نحلم بان ياتى اليوم ونرى ان  بلادنا قد صارت ماردا صناعيا له مكانته وسط الامم وان عبارة ” صنع فى السودان” قد اصبحت تزين الطائرات و السياررات وحتى الدبابات وكان الشعور الوطنى لدينا قويا جدا  ففى  المدرسة  كنا ننفعل مع الاناشيد الوطنية مثل “انت سودانى و سودانى انا وهنا صوت يناديني تقدم انت سوداني و سوداننا الحبيب فداؤه النفوس”  .
وفى فترة السبعينيات من القرن الماضى كانت هنالك مايشبه ثورة التصنيع فى السودان ,  او ما يعرف بالصناعات الخفيفة وبحكم ولادتى و نشاتى فى مدينة الخرطوم بحرى والتى كانت فى يوم ما يطلقون عليها العاصمة الصناعية  ومدينة العمال وذلك لاحتوائها على اكبر منطقة صناعية فى السودان  الى جانب وجود   النقل الميكانيكى و النقل النهرى و مصلحة المخازن و المهمات  الذين تم انشائهم منذ فترة حكم الانجليز  وقد تعلم و تدرب فيها  ابناء السودان على احدث التقنيات الفنية فى مجال التصنيع و التصليح و الصيانة فولدت طبقة من  المهندسين و الفنيين و العمال  المهرة الذين هاجروا و اغتربوا بعد ذلك نتيجة للعديد من الاسباب فانتفعت بهم و بخبراتهم وعلومهم ومعارفهم دول الاغتراب و المهجر.
كانت المنطقة الصناعية فى بحرى هى الاكير من حيث المساحة فى السودان وكانت تعج بالنشاط و الحركة حيث ان هدير الماكينات و ضجيج الالات لا يتوقف على مدار الساعة , حيث انتشرت فى ذلك الوقت مصانع الغزل و النسيج و الملابس الجاهزة و الاحذية  الرجالية و النسائية حيث كانت شركة باتا فى اوج تالقها  ولقتها بعد مدة شركة لاركو والتى كانت مشهورة  يتعيينها لمشاهير كرة القدم فى السودان عندما كانت لكرة القدم السودانية  تحتل المراكز المتقدمة فى التصنيف  الافريقى والعربى قبل ان تتدهور و تصبح على مافيه الان من حال يغنى عن السؤال  ,مثلها مثل الكثير من الاشياء الجميلة التى كانت فى السودان قبل ان تلحق ” امات طه” اما الصناعات الغذائية  قثد كانت متقدمة كثيرا على  ما عداها  من ناحية الجودة  فهنالك حلويات سعد  والتى على حسب اعتقادى قد سبقت الزمن فى جودة ما تقدمه من حلويات و اذكر فى طفولتى اننا كنا نكن محبة خاصة لبسكويت كوكو   وكانت حلويات سعد تنتج نوعين منه الاول كان بالعبوة الزرقاء وهو ابيض اللون  وبنكهة  الفانيليا والاخر بالعبوة الحمراء الداكنة وهو بنى اللون و بنكهة الشيكولاتة  وكانت قمة متعتنا عندما نتلذذ بقضمه  و المشكلة التى كنا نراها فى انه يخلص بسرعة  من ” القرمة الاولى والثانية”
ولم نكن نعرف بان بسكويت كوكو انه من عائلة ما يعرف ببسكويت الويفر الذى هو الان فى قمة   الحلويات المعاصرة   والتى لا ازال اذكر دعايتها المشهورة   فى تلفريون السودان ويا حليل تلفزيون السودان  حينما كان المغنى يردد فى نهاية الاغنية  متسائلا ” حلويات سعد  وينو بديلها وينو ؟؟ ” وفعلا ان حلويات سعد لم يكن لها بديل بالرغم من وجود عدد اخر من المنافسين مثل حلويات كريكاب و بدرجة اقل حلويات ريا ,  كما ان مصانع الزيوت و الصابون  كانت من كثرتها ما تديك الدرب كما يقولون !

كلين – صابون السبعينات

Posted by ‎البيت السوداني في بولندا Dom Sudański w Polsce‎ on Thursday, August 2, 2018

وكانت  هنالك جودة عالية فى انتاج الصابون ونذكر صابون الحمام بوتيك  وصابون الفنيك المطهر و القاتل للجراثيم  وكان هو المفضل لدى العاملين فى الحقل الطبى وصابن الغسيل كان ذا جودة عالية ونذكر منه ابوفيل  البرتقالى اللون اما صابون الغسيل البودرة فقد كانت تمتلئ به ارفف البقالات ونذكر صابون كلين الذى اشتهر بدعايته  التى كانت مثار اعجاب الجميع وخصوصا عندما تضحك تلك السيدة السودانية وهى تقول ” هاهاه   كلين”   ولا اود الاسترسال فى جودة تلك المصنوعات السودانية كاملة الدسم فهذا حديث ذو شجون .
ولكن ما كان يلفت نظرى هو كمية  الناس  الذين يعملون فى تلك المصانع , فقد كان الشارع الذى يوجد  به منزلنا فى الختمية فى بحرى احد الشوارع القريبة و المؤدية الى المنطقة الصناعية   ومنذ الصباح الباكر كنت اشهد زحف  كميات كبيرة من البشر وهى فى طريقها الى اعمالها فى المنطقة الصناعية فترى الذين يسيرون باقادمهم والبعض يمتطون الدراجات السوداء العتيقة من نوع الرالى المشهور بجودته و بعض العاملين الذين توفر لهم مصانعهم الترحيل بواسطة الحافلات و البصات والتى كان يعلو هديرها فيشق عنان السماء  وهى مكتظة وتنوء بحملها من العاملين الموجودين بداخلها  والذين كانوا يتباداون الحديث و الضحكات و القفشات بصوت عال فى   تلك الساعات المبكرة من اليوم  , وكان هذا المشهد الذى لايغيب عن بالى اراه كاجمل لوحة تعبر عن انصهار السودانيين من جميع مناطق السودان فى بوتقة واحدة يجمعهم الحب و الانسجام فى وطن واحد كان يسع جميع ابنائه  بدون فرز و يوفر لهم العيش الكريم . وحتى فى المساء فقد كان سيل العابرين للشارع لا تنقطع من  الذين يعملون فى المناوبات الليلية وان كانوا اقل عددا من الذين يعملون فى الفترة الصباحية ولك ان تتخيل  كيف كانت هذه المصانع توفر فرص العمل لكل من يرغب  و تكفل العيش الكريم لالاف السودانيين من مختلف ارجاء الوطن الذى كان يلقب ببلد المليون ميل مربع وتوفر لهم ولذويهم اللقمة الحلال و المعيشة المستورة ! وهل يرغب السودانى البسيط فى اكثر من ذلك ؟
وحتى ان الطلاب الذين يرغبون فى العمل اثناء الاجازات المدرسية و اعانة اهلهم فى مصاريف الدراسة كانوا يجدون فرص للعمل المؤقت و شخصى الضعيف كان من ضمن اولئك الطلاب  فقد كنت اعمل فى مصانع الملابس الجاهزة واوفر مصاريف الدراسة بل كنت فى بعض المرات اقوم بمنح بعض الاصدقاء الذين يعانون من الفلس !, و بالاضافة  للفوائد المادية التى كان يجنيها  العاملون  فقد كانت هنالك فائدة اخرى لا تقل عن الفائدة المالية الا وهى اكتساب المهارات الفنية و الخبرات فى تشغيل و صيانة المعدات و الاليات الى كانوا يعملون فيها وبفضل هذه المهارات فقد  ازدادت فرص عملهم  خارج السودان  و كانت هذه الصناعات متوقع لها ان تتطور بمرور الزمن و يتحول بعضها الى الصناعات الثقيلة , ولكن يبدو ان عبارة ” الحلو ما يكملش” قد تم تفصيلها حصريا للسودان فقد تدهورت الصناعات فى السودان و اصبحت  ” يبابا” كما قال  امير الشعراء احمد شوقي:

أيُّها العُمالُ أفْنوا العُمْرَّ كَدَّاً واكتساباً واعمروا الأرضَ فَلَولا سَعْيُكُم أمْسَت يَبابا
فما الذي جرى؟ واصبحت المدن الصناعية أشبه بمدن الاشباح؟
هذا ما سوف نتطرق اليه باذن الله فى الحلقة القادمة
امير شاهين

‫2 تعليقات

  1. والله اتفق معك تماما ان الحكومات السودانية السابقة اهملت الصناعة الوطنية و حتى الموجود الان ليس صناعة بالمعني هى عبارة عن اعادة تعبئة و تغليف ليس هناك صناعة سودانية الا السكر و الاسمنت و حتى السكر بعد التصنيع تسلم لمصانع التعبئة مما يزيد تكاليفها للمستهلك اما صناعة الجلود و الزيوت و الصناعات التحويلة فهى ضعيفة لا تغطي السوق المحلى بسبب عدم وجود خارطة للصناعة و خطط و سياسات دولة تحمي و تراقب الخارطة الصناعية للبلاد منذ فترة ليست بالقصيرة لان الحكومة مشغولة بالسياسة و صراعاتها و تركت عمليات البناء و التطوير للقطاع الخاص دون حسيب و لا رقيب مما تكرش و اصبح يسيطر على كل المشهد نامل ان تعيد الحكومة فى نظرية الافتصاد الحر لانها لا تشبه السودان على الاقل الان و العودة الى الاقتصاد العام ( اقتصاد الدولة ) حتى تضمن وصول السلع و الخدمات بشكل سليم و منتظم و محاربة جشع القطاع الخاص و اعادة بناء الهيكل و الخارطة الصناعية للبلاد بشكل اكثر قوة

    1. اخى د عماد الدين الشكر الجزيل للاضافة المفيدة و المداخلة الطيبة مع تقديرى و احتراماتى

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..