ثقافة وآداب، وفنون

يبحث الغرباء أحيانا عن قبور بعيدة وجنائز صامتة

عبدالحميد البرنس

ذات مساء خفيف المطر، وصلتُ إلى مطار وينبيك. لحظة الوصول تلك، لم يخالجني أدنى قدر من فرح. الرهبة لم تكن موجودة هناك، في داخلي. كما لو أنني على علم بتفاصيل عالم قد خبرته من قبل جيّدا. غبت عنه فترة. ثم عدت إليه بالخواء القديم نفسه. كذلك، توقفت ضمن فوج صغير من اللاجئين كان وصل معي على نفس السفرية، أنتظر بلا مبالاة وصول متاعي قبالة حامل آليّ. كان شنطة متوسطة الحجم وأخرى صغيرة. لم أصطحب من بين مئات الكتب سوى القليل. كان من بينها كتاب سلاطين باشا “السيف والنار في السودان”. كتاب يحكي عن سيرة ذاتية لأسير من أصل نمساوي في بلاد بعيدة. هكذا، صادف أن تكون تلك البلاد “وطني”. وجد سلاطين نفسه في حياة مختلفة بين قوم مختلفين ولغة مختلفة والموت بدا ماثلا لعينيه طوال تلك السنوات في أي لحظة. مع ذلك، الوغد نجا، في الأخير، بجلده!

“أي نوع من فروج النساء ينتظرني في هذه البلاد”؟

تساءلت في سري، بينما يقود مارتن الحافلة الصغيرة مغادرا المطار، متجها صوب المجال الحيويّ للمدينة. كان مارتن يبتسم طوال الطريق لأمر ما. كما لو أن الليلة تعده بموعد غرامي. لا يُضحك الغرباء و”يبسطهم” عادة سوى أمر مثل هذا!!

أخذ إسماعيل يتحدث تاليا في اجتماع قصير بنا عند مدخل البناية عن مخاطر ممارسة الجنس بلا واق وأشياء أخرى. كان يتحدث بالعربية. حين جاء على سيرة الجنس على ذلك النحو، لم يعكس وجهه أي علامة هناك للبهجة، كما لو أن قائدا يعدد المهام قبالة جنده على أعتاب حرب ضروس. كانا، مارتن وإسماعيل، قد استقبلانا كمندوبين من مركز إعادة توطين اللاجئين الجدد في المدينة. كان إسماعيل الحسن في منتصف العمر تقريبا. قصير القامة. ضئيل الجرم. ثمة شيء غامض في شخصيته يدعوك للتعاطف معه. بيد أنه متكتم الأغلب لدرجة النفور. لا تدري بالفعل إن كان ما يتمتع به إسماعيل من أدب أنثوي لعذراء لم تتجاوز عتبة باب بيت أبويها- نتيجة تهذيب صقلته تلك البلاد أم جراء خوف قديم زالت أسبابه برحيله عن موطنه الأصلي في العراق وطبع روحه مرة واحدة وإلى الأبد. أول ما رأيت في المطار من العراقي، كان ورقة عليها أسماؤنا وعددنا والجهة التي قدمنا منها وتاريخ وزمن إقلاع الطائرة وهبوطها. كما لو أنه يراجع بدقة أوراق بضاعة تم إستيرادها للتو من وراء البحار. كان مارتن سائقا نحيفا من إحدى دول شرقي أوربا، لعلها بولندا. مارتن هذا، وُجِدَ بعد مرور نحو عدة أشهر مذبوحا في شقته في نواحي حيّ “تاكسيدو” من الوريد للوريد. قيل وقتها إن في الأمر امرأة. المرأة غالبا هناك. ظللت أفكِّر بأسى في غربة ذلك الوجه لمدى أكثر من عام. وجه مأكول ومسحوب إلى أسفل بذقن مدببة حادة. تتصدره عينان كبيرتان مكللتان بأسى غامض. أذكر أنني رأيت بعدها مارتن أكثر من مرة وهو يجلس وحيدا على مقعد خشبي عند أطراف حديقة سنترال بارك المحاطة بأشجار الآش مديرا ظهره لمركز إعادة توطين اللاجئين الجدد في الطابق الأرضي من عمارة كمبرلاند وراء شارع جانبي صغير يمر حذاء الحديقة ناحية الشرق. كان مارتن يواصل التدخين كعهدي القصير به بشراهة وروحه هائمة دائما في مكان ما عصيّة رؤيته.

لم يطرأ على ذهني حين رأيته لأول مرة مساء ذلك اليوم البعيد في مطار وينبيك أن أيامه قد غدت في هذه الحياة الدنيا قليلة.

يبحث الغرباء أحيانا عن قبور بعيدة وجنائز صامتة.

كان يتردد هناك في قلبي صوت حصاة تدحرجها ريح خفيفة على سقف أحدب، حين عبرت بوابة زجاجية واسعة ضمن ذلك الفوج الصغير من اللاجئين، ولم يكن الظلام قد حلّ في الخارج بعد. كانت الأرض مشبعة مبتلة والطرق تتخللها بِرك صغيرة سائلة نحو مصارفها أما السماء فبدت غيمية قريبة ذات سحب رمادية داكنة بينما المطر الذي أخذ يتواصل خفيفا لا تزال قطراته تتساقط من على فروع الأشجار المتناثرة بانتظام فيما الريح الباردة نوعا ما تهب بصخب فجأة وتسكن.

لكأن الهواجس تتملك العراقي، إسماعيل الحسن هذا.

طلب منّا أن نقف قبالة باب العربة. أخذ صعودنا يتم إليها وفق قراءته للأسماء. لم يكن عددنا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة!

هناك، في القاهرة، هرعتُ أنظر في خريطة كندا، ما إن علمت بوجهتي الجديدة، إذا بموقع وينبيك قريب من الحدود المشتركة جنوبا مع ولايتي منيسوتا وداكوتا الشمالية في الولايات المتحدة الأمريكية. تلك بدت في حينه إشارة طيبة إلى أن شدة البرد لن تكون في وينبيك بمثل ذلك السوء الذي أخذ ينحدر إليَّ عبر روايات أولئك المنفيين في القاهرة فور أن علموا بنبأ اندماجي الوشيك في الحياة الكندية. رؤية القلاع من الخارج غير رؤية القلاع من الداخل. ما إن استقر بي المقام داخل أجواء وينبيك المتقلبة قليلا، حتى صدمني تماما حقيقة أن المدينة ليست في نهاية المطاف سوى أبرد مكان في العالم يمكن أن تطأه قدما إنسان ما بعد سيبريا. يا لبؤس موقعها السهلي المنبسط وسط ذلك العدد اللامتناهي من البحيرات!

أذكر ما حدث خلال ذلك الصباح. عزمت على التسوق. دهمتني رؤية العالم في الخارج على ذلك النحو المفزع، لا بل المرعب. كانت الطرق بيضاء صفراء هنا، قاتمة سوداء هناك، جراء المرور المتكرر للسيارات على طبقات الجليد المتراكمة. الأشجار، أسوار المنازل، السيارات، الأبنية، أعمدة الكهرباء، حوامل إشارات المرور، الإعلانات؛ كل ذلك وغيره، بدا مغمورا داخل ندف قطنية وقطع ثلجية سميكة ورفيعة في آن لها هيئة الملح المتكلس أحيانا. كانت المدينة ذلك الصباح أشبه بعامل طاحونة في إحدى قرى شرقي النيل في السودان، شعره مغطى بغلالة مسحوق الذرة، رموشه مغمورة بنثار الدقيق، شواربه مدفونة بالبياض، جلبابه كما لو أنه غُمس أثناء طقس وثني ما في رماد. لم يدر بخلدي أن المنفى قد يجبرني يوما على القاء رحلي في مدينة أشبه ما تكون في جحيم الشتاء ذاك بعامل في مطحنة بدائية للغلال.

عبدالحميد البرنس <[email protected]>
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..