مقالات سياسية

عرض تحليلي وتلخيص أوراق مؤتمر سياسات الاقتصاد الكلي يناير 1986

بمناسبة عقد المؤتمر الاقتصادي القومي

د. محمد محمود الطيب
من أهم المؤتمرات الاقتصادية في تاريخنا المعاصر مؤتمر سياسات الاقتصاد الكلي والذي نظمه مركز الدراسات والبحوث الانمائية (جامعة الخرطوم) بالتعاون مع منظمة فردريش ايبرت الألمانية وانعقد في الأيام من 13 وحتي 15 من يناير. 1986 بقاعة الصداقة بالخرطوم.

عقب الانتفاضة العظيمة في مارس ابريل 1985 والتي أدت الي سقوط نظام حكم الفرد واستعادة الديمقراطية عم شعورا عاما بالفرح والتفاؤل المبرراذ شعرالمواطن وتنسم عبيرالحرية والديمقراطية لأول مرة بعد فترة حكم ديكتاتوري بغيض وكانت البلاد تستعد لبزوغ فجر جديد تسوده الحرية والديمقراطية والعدالة وفِي تلك الأجواء كان الشأن الاقتصادي الهم الشاغل لكل الناس  وكان الأمل كبيرا  في ان يتمكن النظام الديمقراطي الجديد من تغيير الواقع الاقتصادي المرير من جراء فشل سياسات النظام المايوي وان يتمكن النظام الجديد من اجراء إصلاحات أساسية وهيكلية تمكن المواطن البسيط بالشعور بالامن والامان الاقتصادي والسياسي.

وفِي تلك الاجواء عقد المؤتمرالاقتصادي الهام والذى يكاد ان يكون الاول من نوعه في تاريخ السودان الحديث وكان يهدف الي دارسة الواقع الاقتصادي المرير من جراء سياسات نظام مايو والبحث عن سبل الإصلاح واستشراف المستقبل من خلال تقديم دراسات شاملة قدمت من خيرة الخبراء والاساتذة الاجلاء في مجال الاقتصاد والسياسة وكان المؤتمرتحت إشراف كلية الاقتصاد جامعة الخرطوم ومساهمة من منظمة فردرش ايبرت الألمانية.

ورغم انقضاء العقود والسنوات الا اننا نجد ان هناك الكثيرمن الدروس والعبروالفائدة العلمية والاكاديمية والعملية  يمكن ان تستخلص من الاواراق القيمة التي قدمت من اساتذة اجلاء وعلماء افاضل نسأل المولي عز وجل الرحمة والمغفرة لمن مضى منهم ونتمنى دوام الصحة والعافية لمن مازال مقيما بيننا اطال الله في عمرهم المديد٠
في هذا المقال محاولة عرض وتلخيص وتحليل لأهم ما جاء في تلك الأوراق التي قدمت في كتاب طبع  بعد المؤتمر ليكون توثيق تستفيد منه الأجيال القادمة.

ولقد رأينا أنه من المناسب الان وفي هذا التوقيت ونحن على اعتاب المؤتمر الاقتصادي المزمع عقده في نهاية سبتمبر 2020 ان نقوم بعرض هذا الجهد العلمي القيم بدلا من يكون حبيسا الاضابير المكتبات ويقدم ويستفاد من بعض التوصيات الهامة والتي نرى أنها مازالت تعبر عن واقع الحال بشكل يدعو للدهشة رغم مرور كل هذه السنوات بل العقود٠
وتوخي الامانة العلمية والدقة كان يجب أن يكون المؤتمر الاقتصادي الحالي هو المؤتمر الاقتصادي الثاني لأن المؤتمر الأول كان قد عقد في يناير 1986 ونستعرض أوراقه في هذا المقال.

وفي اعتقادنا الخاص ان مايجعل هذه الاوراق والتوصيات ذات فائدة ويمكن ان يستفاد منها ان هناك مازال بعض التشابه في الأوضاع والظروف الموضوعية والسياسية إلى حد كبير يدعو للدهشة ويمكن تلخيصها في الاتي:
أولا/ الطبيعة العسكرية الدكتاتورية  للنظامين (نظام مايو ونظام يونيو) واستيلائهم على السلطة عن طريق الانقلاب والحكم بالقبضة العسكرية الأمنية القمعية والدولة البوليسية.

ثانيا/ ايديولجية النظام المعتمدة علي استغلال الدين والمتاجرة به واستخدام الجهاد وأسلمة المجتمع كأدوات للتمكن والسيطرة وبسط نفوذه.

ثالثا/استخدام الدين في الاقتصاد وأسلمة النظام الاقتصادي في المعاملات المصرفية وفِي الزكاة٠تحول النظام المصرفي في عهد النميري الي نظام البنوك الأسلامية بأيعاز من الاسلامين بقيادة حسن الترابي٠
رابعا/ سيطرة طبقة الطفيليين المتأسلمين والتي تعمل في مجال المضاربات في العملة والعقارات والسيارات والمحاصيل واخيرا الذهب والابتعاد عن الأنشطة الإنتاجية كالزراعة والصناعة وذلك بدافع  تحقيق الربح السريع بأقل جهد وأقل مخاطر ساعدهم في ذلك قيام  البنوك الاسلامية  بتمويل نشاطهم الطفيلي.

خامسا/ الارتباط بمؤسسات التمويل الدولية والالتزام بتنفيذ روشتة صندوق النقد الدولي للحصول على قروض أو استشارات فنيه والالتزام بتسديد الديون المتراكمة وفق برامج اعادة الجدولة.

سادسا/ تغيير سلوكيات المجتمع وتحويله إلى مجتمع استهلاكي طفيلي غير منتج و تفشت ظواهر اجتماعية سيئة نتيجة لذلك كالسرقة والاحتيال والدجل والشعوذة  والصرف البذخي والتفاخري والاستهلاك المفرط من البضائع المستوردة٠
في مقدمة المؤتمر استهل الدكتور بشير عمر فضل الله وزير المالية في فترة الحكم الديمقراطي 1986 بكلمة ضافيه جاء في كلمته الاتي:

تحت ظل حكم الفرد واحتكار الحكمة والقرار تستشري الأخطاء ويكثر من يحملون وجه القبح ويكرسون التعتيم وتنمو في المجتمع كل أنواع الاختلالات والتشوهات٠وقد كان ذلك نصيب بلادنا العزيزة وحصيلتها من الحكم الأوتوقراطي البغيض والتي ما فتئت تقاومه كجسم دخيل غريب علي شعبها السمح بطبعه المحب الديمقراطية والشورى لمدة 16 عاما غير منقوصة حتى لفظته في أبريل 1986
لقد خلف النظام المباد أزمة اقتصادية شاملة تمثلت في اختلالات وتشوهات رهيبة تتجلى مظاهرها فيما يلي:
-اختلال الموقف المالي  للقطاع العام للتضخم  المنفلت ولالتزامات الإنفاق والذي يقابله عجز بائس في جانب زيادة الإيرادات٠
– اختلال بين قدرة المجتمع على الادخار وحاجته موارد حقيقية إضافية للاستثمار٠
– اختلال بين القدرة علي زيادة الصادرات والطلب المتزايد على الواردات
– تراكم الديون الخارجية والتي تجاوزت 9 بليون دولار وبلغت التزامات سدادها السنوية أضعاف حصيلة الصادرات٠
كما ترك لنا النظام المباد إرثا لا نحسد عليه من المشاكل الجسيمة الأخرى مثل تدني الانتاج والانتاجية وتدني مستوى الأداء علي نطاق القطر في كل القطاعات والاجهزة  وانهيار النظام والهيبة في الخدمة العامة……. الخ
وهذه وخلافها مشاكل لن تنتهي بزوال النظام المسبب لها ومن ثم فهي تمثل تحديات كبري في طريق اعادة بناء الوطن٠
ولقد قبل الخيرون من أبناء هذا الوطن التحدي واجتمعت كلمتهم حول بذل الجهد المتخصص لذوى المعرفة الأكاديمية والخبرة في شكل دراسات تقدم في مؤتمرات قطاعية يشترك في مداولاتها التنفيذيون و الأكاديميون المتخصصون والاقتصاديون ومراكز البحث العلمي والأحزاب السياسية والاتحادات ويفضي كل مؤتمر قطاعي  ألي توصيات تصب في المؤتمر الاقتصادي القومي وهو منبر قومي اشمل يتوج الجهود القطاعية السابقة له ببرنامج عمل لإنقاذ الوطن ويتفق عليه المشاركون فيه ويلتزمون به٠

ولقد كان أول المؤتمرات القطاعية مؤتمر سياسات الاقتصاد الكلي والذي نظمه مركز الدراسات والبحوث الانمائية (جامعة الخرطوم) بالتعاون مع منظمة فريدريش ايبرت الألمانية وانعقد في الأيام من 13 وحتى 15 من يناير. 1986 بقاعة الصداقة بالخرطوم٠

تناولت الورقة الأولى موضوع تحديد هوية الاقتصاد السوداني وتحديد مفهوم للتنمية وخلصت إلى ضرورة قيام القطاع العام بالريادة في عملية التنمية ٠
أما الورقة الثانية فقد طرحت للبحث موضوع سوق النقد الأجنبي وما أحاط بها من سياسات في إطار علاقة الاقتصاد السوداني والمنظمات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي والصناديق العربية وقد تمكن الباحث من تفنيد الأساس النظري لأطروحة صندوق النقد الدولي بتحقيق تطابق في السعر الرسمي والسعر الحر للعملة السودانية على مدى سنوات من خلال خلق سوق رسمية وأخرى موازية (سوق سوداء كما يسميها الباحث) بعد رفع نظام الرقابة على النقد كما أن الباحث اثبت بالشواهد العلمية خطل السياسة وما أفضت عليه من تشوهات في الاقتصاد٠
تناولت الورقة الثالثة سياسة الأسعار واستراتيجية دعم السلع الضرورية  من عدة زوايا هامة. البحث يشمل عرضا مستفيضا لضرورة الدعم من منطلق متطلبات الأمن الغذائي للإنسان السوداني انسجاما مع معايير المنظمات الدولية (منظمة الأغذية والزراعة العالمية) ويطرح الباحث جوانب مثيرة حول الحقيقة والخيال في مسالة الدعم وهل صحيح مثلا ان الخبزمدعوم؟ ويخلص إلى توصيات هامة لدعم كل سلعة من السلع الضرورية (الخبز السكر المواد البترولية)٠
تتناول الورقة الرابعة ما اتسمت به فترة الحكم المباد من اختلال في السياسات المالية والنقدية والموازنات من خلال استعراض مثابر وشامل لكل مظاهرالإفراط النقدي وأسبابه ونتائجه ومن ثم يخلص الباحث الي توصيات مستفيضة لمعالجة مختلف المشاكل الناجمة عن سياسة الإفراط النقدي من اختلالات اقتصادية واجتماعية٠
وفي  الورقة الخامسة  (ظاهرة عدم التوازن بين الأقاليم والعلاقة الاقتصادية بين المركز والأقاليم) يتناول الباحث الجذور التاريخية التي صاحبت عدم التوازن حيث حظيت أقاليم بعينها بالنصيب الأوفر من المشاريع الاقتصادية الهامة بينما لم يكن الحال كذلك بالنسبة لبقية الأقاليم ثم جاءت سياسات ما بعد الاستقلال تكريسا للوضع السابق فازداد الإقليم المغبون غبنا والمحظوظ حظا اكثر٠

تناولت هذه الورقة عبر استعراض نظري مستفيض للمسألة الإقليمية والسياسات المتبناة وسجل الباحث أن النمو المتوازن بجانب كونه مطلبا جديرا بالأخذ به من قبل العدالة فهو لايقل الحاحا كذلك من زاوية كفاءة الأداء كما استعرض الباحث الجوانب المختلفة كمظاهر النمو غير المتوازن والتفاوت بين الأقاليم مستخدما معايير علمية مثل نصيب الفرد من الدخل والخدمات والنسبة المئوية لتوزيع الموارد القومية ٠
ولاحظت الورقة خلو الممارسة في توزيع الدعم المالي المركزي علي الأقاليم من معادلة تأخذ في الاعتبار أسس موضوعية للتوزيع واقترحت الورقة معيارًا من ستة مؤشرات بتفاوت وزنها النسبي كعناصر في معيار تشكيل حجم الدعم المركزي لكل اقليم٠

اما الورقة السادسة والاخيرة فقد تناولت موضوع كفاءة الجهاز التنفيذي الحالي لإدارة دفة الاقتصاد خاصة على مستوى الوزارات والمصالح الحكومية. تناولت الورقة مظاهر تدني مستوى الأداء من ناحية ومن ناحية أخري أسباب كل ظاهرة من ظواهر ذلك التدني في شمول وتفصيل٠ وخلصت الورقة إلى أن تدهور كفاءة الجهاز التنفيذي على مستوى الوزارات والمصالح الحكومية والمؤسسات العامة قد ساهم بالقسط الأوفر في تدهور أداء الاقتصاد القومي ومن ثم في الازمة الاقتصادية الموروثة من النظام السّابق٠

الورقة الأولى

 تحديد هوية الاقتصاد السوداني والاتفاق حول مفهوم واضح المقصود بالتنمية مع تحديد أدوار كل من القطاع الخاص والعام
إعداد دكتور ابراهيم الكرسني
كلية الاقتصاد جامعة الخرطوم
مقدمة
إن الانطباع الذي يتبادر الي الاذهان من خلال النقاش في الدورات والمحاضرات والندوات العامة من دور القطاعين العام والخاص في عملية التنمية الاقتصادية ينبئ عن الاستقلال التام وعدم الصِّلة بين هذين القطاعين٠
وفِي الحقيقة فإن القضية الاساسية ليست لأي من القطاعين تترك مهام القيام بعملية التنمية إذ إن التنمية الاقتصادية والاجتماعية للسودان موضوع هام وخطير لايمكن تركه لأحد القطاعين منفردا٠
 إن القضية الاساسية تكمن في أن القطاعين يمكن أن يقوم بدور القيادة في عملية التنمية لتصفية التخلف ووضع السودان على أعتاب طريق التنمية الذي يعتمد على استلهام واستنهاض الذات والاعتماد على النفس والموارد المحلية٠
ان الغرض من هذه المساهمة إيضاح اهمية القطاع العام كقائد لعملية التطور الاقتصادي والاجتماعي في السودان وسنقوم بتبيان هذا الدور من خلال إبراز السلبيات والتخريب الذي وقع على البنية الاقتصادية والاجتماعية إبان الفترة التي تميزت بسيطرة وقيادة القطاع الخاص لعملية التنمية باتباع هذا النهج السلبي اَي إبراز سلبيات سيطرة القطاع الخاص ليس مرده عدم امتلاكنا وحيازتها للمعلومات القوية لدفعها لتعضيد مقولتنا عن الضرورة الموضوعية لقيادة القطاع العام للتنمية الاجتماعية والاقتصادية في السودان ولكن لان اغلب الاقتصاديين الذين ساهموا في النقاش اتخذوا موقفا مؤيدا لاتباع الطريق الثاني المنادي بقدر ضروري من التخطيط من قبل الدولة والاجهزة الحكومية تحت قيادة القطاع العام٠
ملخص الورقة:
منذ استقلال السودان السياسي عام 1956 ظل الصراع بين القوى الاجتماعية المختلفة يدور حول قضية التنمية٠ ان هذه القضية الجوهرية  الهامة لم تكن محور الصراع بين القوى الاجتماعية المختلفة وحدها بل أضحت محورا الصراع بين الحكومات المدنية والعسكرية أيضا
ولقد نادت الأحزاب السياسية المختلفة بطريقين لتنمية البلاد٠
نادت الأحزاب التقليدية المحافظة بطريق التنمية الرأسمالي وذلك بتشجيع قيادة الرأسمال الخاص لعملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية وأدت إلى نمو أسرع في معدلات التخلف في السودان٠
ونادت الأحزاب الراديكالية اتباع طريق التنمية الاشتراكي الذي يهدف إلى رسم وتنفيذ خطط قومية متكاملة تحت توجيه القطاع العام٠
أن استراتيجيات التنمية التي تم تنفيذها منذ الاستقلال كان لها محتوى طبقي محددا هو تعبير عن تبعية النظام الاقتصادي بالضرورة لنظام الاستعمار الجديد٠
أن ديمومة التخلف كشكل مميز للرأسمالية التي عرفتها الدول الواقعة تحت سيطرة رأس المال الأجنبي تتطلب وجود الطبقات المحلية التي تتطابق مصالحها مع مصالح رأس المال الأجنبي وسعيها لتحقيق سيطرتها السياسية٠
أن استراتيجية التنمية في محتواها الشامل (الاستقلال الاقتصادي) كأداة ضرورية للحفاظ على ذلك الاستقلال السياسي والتحول الديمقراطي تظهر في تبني مسألة  الإصلاح الزراعي والتي تشكل جوهر الصراع الطبقي في السودان منذ العام 1956
ولقد انعكس ذلك في الصراع السياسي بين الرأسمالية المحلية وقوى الاستعمار الجديد من جهة وبرنامج الطبقة العاملة وبقية القوى الشعبية من جهة اخري٠
ان جوهر ومحور الثورة الوطنية الديمقراطية هو كما يرى الحزب الشيوعي- القضاء على القاعدة المادية للطبقات الاجتماعية التي تقف حائلا إزاء تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية في السودان وهذه الطبقات تشمل:
1/ العناصر التي خلقها الاستعمار في القطاع الزراعي خاصة مشاريع الطلمبات الخاصة٠
2/ الشرائح العليا في بيروقراطية جهازً الدولة والتي تخدم مصالح الاستعمار الجديد٠
3/ البرجوازية الطفيلية التي تتعاون مع الاستعمار الجديد٠
4/ العناصر الرجعية التي خلقها  الاستعمار في قطاع ما قبل الرأسمالية٠
ولتحقيق هذه الأهداف فإن الإصلاح الزراعي يمثل العمود الفقري للثورة الوطنية الديمقراطية وسيؤدي إلى تغيير علاقات الإنتاج المختلفة والتي مازالت تعم الريف وسيؤدي إلى تطوره وتحرير أكثر من 80٪؜ من السودانيين والذين مازالوا أسرى علاقات انتاج استغلالية وإلى إبراز قواهم وطاقاتهم الكامنة٠
الأثار السلبية لتنمية القطاع الخاص على البنية الاقتصادية والاجتماعية في السودان:
ان اثر قيادة القطاع الخاص لعملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية في السودان تبدو جلية في ظهور أثار سلبية في كافة أوجه الحياة في المجتمع السوداني وسنحاول إلقاء الضوء علي المظاهر الاساسية لهذه التجربة التي شكلت البناء الاقتصادي للمجتمع السوداني وتتمثل هذه المظاهر الاساسية في الاتي:

اولا/ سيادة الاقتصاد الزراعي
بالنظرالي مساهمات القطاعات المختلفة في الناتج القومي للاقتصاد السوداني نجد الارتفاع النسبي لمساهمة القطاع الزراعي والتدني النسبي لمساهمة القطاع الصناعي – خاصة السلع المصنعة- ويؤكد ذلك السمة المتخلفة للاقتصاد السوداني٠
ويورد الكاتب بعض الأرقام لتوكد هذه الحقيقة فنجد ان نسبة مساهمة الزراعة للناتج القومي قد بلغت نسبة ال66% في العام 1955 وتناقصت هذه النسبة حتي وصلت نسبة ال39.2% في العام 1977 ويقابل هذا زيادة مساهمة الصناعة من 1% في العام 1956 ألي 9.4% في العام 1977 ووفق هذه الإحصائيات نجد ان ليس هناك تحسن يذكر و ان الزراعة مازالت تسيطر علي اقتصاد القطر٠

ثانيا/ تدني إنتاجية الأرض والعمل
يعتبر انخفاض مستوى إنتاجية الأرض والعمل سمة بارزة أخرى في تركيب الاقتصاد السوداني فنجد حوالي 70% من السكان يعملون بالزراعة ويساهمون ب40% من مجمل الناتج القومي وهذا مؤشر تدني إنتاجية العامل وتدني مستوى التقنية المستخدمة في عملية الإنتاج
إضافة لذلك يؤكد الكاتب أن تدني الإنتاجية في القطاع الزارعي ناجم عن غياب استخدام المخصبات وغياب تطبيق الدورة الزراعية واستخدام اُسلوب الزراعة المتنقلة للحفاظ على الإنتاجية السابقة مما يؤدي إلى تدهور خصوبة التربة والقضاء على ثروات البلاد الطبيعية حسب رأي الكاتب.
ثالثا/ تدني مستوى دخل الفرد
أدى انخفاض إنتاجية الأرض والعمل إلى تدني الإنتاج الكلي والي تدني جملة الناتج الإجمالي المحلي وكذلك متوسط دخل الفرد٠
ويعزي الكاتب تدني متوسط دخل الفرد إلى تخلف القاعدة الإنتاجية في السودان وبعتبر ذلك حاجزا كبيرا وعائقا أمام التنمية المستقبلية في البلاد٠

رابعا/ تدهور المستويات المعيشية للفقراء
انخفاض مستوى متوسط دخل الفرد تمثل مؤشرا ودلالة على الفقر أضف إلى ذلك ارتفاع أسعار السلع الأساسية مثل الذرة واللحم الضاني والبقري والذي بلغ 400% في الفترة ما بين 1956-1976 بينما كانت الزيادة في الحد الأدني للأجور 94% فقط لنفس الفترة وهذا مؤشر واضح تفاقم حدة الفقر في السودان٠

 خامسا/ جهاز الدولة تقليدي ومحافظ

أن نشوء وتطور الرأسمالية الخاصة في السودان استلزم وجود استمرارية جهاز دولة رجعي وقمعي ويرمز الكاتب إلى مصطلح “رجعي” الي قيام الدولة دوما وباستمرار بخدمة أهداف الطبقات الرجعية٠
ويشرح الكاتب خصائص جهاز الدولة المنحاز الطبقات الرأسمالية على حساب الفقراء ويرى الكاتب ذلك في ازدياد نسبة الضرائب غير المباشرة والتي تصل إلى نسبة الـ 85%  في الفترة ما بين 1971-1976
ويؤكد الكاتب ان الدولة بخصائصها الرجعية هذه بدلا من أن تعتمد على زيادة دخلها من زيادة الإنتاج والانتاجية للشركات العامة نجدها تتبع اسهل الطرق بفرض ضرائب على المواطن وهنا تظهر الطبيعة الرجعية للدولة حسب قول الكاتب٠
ضريبة الدخل الشخصي معظمها يأتي من دخول الأعمال والتي يعود معظمها ثانية إلى الطبقة الرأسمالية فإن هذا يوضح انحياز الدولة ضد الفقراء٠
كما يؤكد الكاتب أن الصرف والإنفاق الحكومي المتزايد على الأمن والدفاع والذي بلغ نسبة 31.6% وهو يساوي حصيلة الصرف على الخدمات الاجتماعية والاقتصادية في نفس الفترة
سادسا/ غياب القطاع الرأسمالي
إن إحدى السمات البارزة للاقتصاديات المتخلفة هي الوجود المحدود لقطاع الصناعات ومساهمته في إجمالي الناتج المحلي واقتصاره على إنشاء الصناعات الخفيفة الاستهلاكية والتي يستهلكها الأغنياء  كما نلاحظ غياب الصناعات الرأسمالية٠
الضرورة الموضوعية لقيادة القطاع العام
يؤكد الكاتب ان هناك اجماع عام بين الاقتصاديين  أنه نتيجة لضعف وتبعية الطبقة الرأسمالية في الدول المتخلفة فإن نظم وقوانين واستثمارات الدولة تلعب دورا هاما وضروريا لتحقيق “القفزة” إلى إيجاد تنمية ذاتية مستمرة وعرف الاقتصاديون القطاع العام بأنه يشمل المؤسسات الاقتصادية المؤممة وتلك التي تملكها الدولة وفِي هذا السياق يرى هؤلاء الاقتصاديون أن على القطاع الخاص أن يلعب دورا مساعدا ولكنه مهم لتعزيز دور القطاع العام في تحقيق أهداف التنمية الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع ككل٠
أن الضعف والتبعية التي تميز طبيعة طبقة الرأسمالية السودانية  كما اكد الكاتب دورها في الدمار والتخريب الناتج لقيادتها لعملية التنمية منذ نيل الاستقلال السياسي٠
أن التركيب الاقتصادي والاجتماعي في السودان جعل الطبقة الرأسمالية تفشل في ان تلعب دورها التاريخي في تثوير وتطوير القوى المنتجة
الطبقة الرأسمالية السودانية تحقق مصالحها عن طريق النمو الاحتكاري وهذه صفة نجدها في الرأسمالية الخاصة في معظم الدول المتخلفة عكس مايحدث في الرأسمالية الخاصة في الدول المتقدمة والتي تعمل في ظل ظروف المنافسة الكاملة٠
ويتوصل الكاتب أن هناك استحالة قيام رأس المال الخاص في الدول المتخلفة اليوم بتحقيق تثوير وتطوير القوى المنتجة وهنا تبرز الضرورة الموضوعية لقيادة القطاع العام لعملية التنمية٠

ويشترط الكاتب لنجاح دور القطاع العام لابد ان يسبقها وضع السلطة السياسية في أيدي تخالف عريض من العمال والفلاحين والفقراء لتوجيهه الدولة لخدمة مصالحهم٠

ويرى الكاتب ان الفلاحين والفقراء يمثلون أكثر من 85% من مجموع السكان فإن هذه الخاصية تعطي سلطة التحالف الأفضلية وأنها الأكثر ديمقراطية في الإطار السوداني ٠
اَي خطة يجب أن تعمل من خلال المواطنين لهذا لابد من العمل على تعبئتهم لأجل مصالحهم وإجراء تغييرات تعبر عن مصالحهم وهنا يأتي دور الدولة في العمل على إنجاح اَي خطة٠
كما يؤكد الكاتب على أن التطبيق الناجح لاستراتيجية تنموية علي ضرورة  الاستقرار السياسي لأحداث تغيير جذري في التركيب الاقتصادي والاجتماعي٠
تعليق وتحليل

نحن نري ان هذه الورقة والملاحظات الواردة فيها مازالت مفيدة حتي الان ويمكن استخدامها كأطار تحليلي للاسباب التالية:
اولا/ تشابه السمات الاساسية لاقتصاد الطفيلي قي فترة مايو وفِي فترة المتاسلمين واستمراره حتي الان قطاع غيرمنتج تدني نسب مشاركة القطاعات المنتجة وتراجعها كالقطاع الزراعي والصناعي وكذلك القطاع الاجتماعي في التعليم والصحة وتزايد نشاط قطاع الخدمات والأعمال والانشطة الهامشية والطفيلية ومازالت هذه السمات قائمة حتي الان٠
ثانيا/ تعميق التفاوت في توزيع الدخل لصالح الطبقات غير المنتجة علي حساب الفلاحين والعمال في القطاعات المنتجة بسبب إهمال هذه القطاعات   كذلك تدني مستوي الانتاج والانتاجية في هذه القطاعات خاصة بعد ظهور النفط والذي اصبح عماد الاقتصاد بشكل كامل وادي لظهور “المرض الهولندي” وهو اعتماد الاقتصاد علي  مصدر ريعي واحد الاهو قطاع النفط واهمال باقي القطاعات وهو خلل هيكلي خطير في الاقتصاد الوطني٠
ثالثا/ طبيعة الدولة القمعية والصرف الكبير علي قطاع الدفاع والأمن  للحفاظ علي السلطة لأطول فترة ممكنة مهما كلّف الأمر من أموال وأرواح
رابعا/ القطاع الخاص الطفيلي المحلي والأجنبي  الغير منتج والاستغلالي وغالبا ما يلعب دورا محطما ومدمرا لموارد البلاد٠
إصلاحات القطاع العام

أولا/ إزالة التمكين والتخلص من عناصر النظام المباد لخطورة  وجودهم وتأمرهم على الثورة٠
ثانيا/ البناء المؤسسي والعمل وفق نظام علمي يراعي الفعالية وتجويد الأداء والمحاسبة والشفافية٠
ثالثا/ ادخال تكنولوجيا المعلومات وخلق نظام مالي واداري حديث وتفعيل الحكومة الالكترونية٠
رابعا/ التخطيط المؤسس على أسس علمية ومتابعة التنفيذ والتقييم والمحاسبة في كل مراحل التنفيذ٠
خامسا/ اختيار الكفاءات المؤهلة ومتابعة الأداء وتطويره عن طريق التدريب والتأهيل المستمر٠
سادسا/ تفعيل دور القطاع التعاوني والدخول في شراكات مع القطاع العام والقطاع الخاص وتطوير أداء الجمعيات التعاونية الاستهلاكية والانتاجية٠
الورقة الثانية

صندوق النقد الدولي والفوضي الاقتصادية في السودان.
تجربة السوق السوداء
تقديم
بروفسير علي عبدالقادر جامعة الجزيرة
بروفسير محمد نور الدين جامعة الجزيرة
بداية العلاقة بين السودان ومؤسسات التمويل الدولية وبالتحديد البنك الدولي وصندوق النقد كانت إبان الحكم المايوي وذلك عندما مر النظام بأزمات اقتصادية وسياسية حادة أدت لخضوعه لتلك المؤسسات خضوعا تاما ملتزما بتوصياتها ومتابع لكل ما يملى عليه من سياسات بعد أن أصبح النظام يبحث عن اَي سبيل للبقاء في السلطة وبأي ثمن وكان ذلك في العام 1979 من خلال ما يسمى ببرنامج الإصلاح الهيكلي للاقتصاد السوداني والذي بموجبه تمكن النظام من الحصول على بعض القروض والمساعدات الفنية مقابل الالتزام بكل التوصيات او بما يسمى بـ روشتة الصندوق والتي تشمل تخفيض العملة وسحب الدعم عن السلع الأساسية وزيادة الضرائب وتحرير التجارة الخارجية وغيرها من الشروط المجحفة في حق المواطن السوداني لصالح الطبقات الرأسمالية والطفيلية٠
سنتعرض في هذا الجزء  لعرض وتحليل ورقة الأساتذة الإجلاء بروفسير علي عبدالقادر وبروفسير محمد نورالدين من جامعة الجزيرة وكانت الورقة بعنوان “صندوق النقد الدولي والفوضى الاقتصادية في السودان: تجربة السوق السوداء”
اخترت الحديث عن هذه الورقة تحديدا لما تشمله من تحليل سياسات مشابهة شكلا ومحتوى لما يحدث الآن من فوضى في مجال إدارة النقد الأجنبي ومجمل سياسات الاقتصاد الكلي ولا يفوت على فطنة القارئ الاختلاف الجوهري لطبيعة النظام المايوي ونظام المتأسلمين  كما وكيفا مع وجود بعض أوجه التشابه في سياسات سعر الصرف والالتزام التام بتوجهات صندوق النقد الدولي في هذا الإطار٠
ما أشبه الليلة بالبارحة
هذا العنوان يصف واقع الحال الْيَوْمَ رغم انه يتحدث عن ويحلل الأوضاع الاقتصادية في فترة نظام مايو مما يدل على أننا ندور في نفس الحلقة المفرغة من التخبط وتكرار الأخطاء واجترار التجارب الفاشلة وكما يقول المثل من جرب المجرب حاقته الندامة٠
في مقدمة البحث تعرض الباحثان لتلخيص سياسة الصندوق في السودان وشرح اهم بنودها واكدت الدراسة خطل سياسة الصندوق في السودان وفشلها في ارض الواقع واستندت الورقة في التحليل علي عدة شواهد نظرية وعملية لإثبات فشل فرضيات سياسة الصندوق في السودان٠
تعرضت الورقة لاستعراض ما جاء في أدبيات ونظريات سعر الصرف في ظروف الدول النامية٠
قدمت الورقة النموذج العملي والمودل الاحصائي لتحديد سعر الصرف والذي يعتمد عليه الصندوق في تبرير سياساته في الدول النامية أو ما يسمى بنموذج (نواك) والذي يستند علي افتراضات محددة٠
توصل الباحثان لتقديم نموذج بديل استند علي عدة افتراضات تختلف عن افتراضات نموذج (نواك) وفي الختام تتعرض الورقة لأثر سياسة الصندوق على مجمل سياسات الاقتصاد الكلي٠
ملخص الورقة ما جاء في أدبيات تحديد سعر الصرف بالتعرض علي آراء. بعض الأكاديميين على سبيل المثال لخصت آراء كروقر(1983) الذي يرى أن معظم الدول النامية تتعرض لتقلبات في شروط التبادل التجاري لذلك أن تحديد سعر الصرف بعينه ربما لم يستمر كسعر توازني للصرف
كما يرى  دياز اليخاندرو (1983) ان سعر الصرف حتي اذا استخدم كأداة مثلي للسياسة الاقتصادية فلا يوجد دليل على سلوك سعر الصرف هذا سيكون السعر الحقيقي على المدى الطويل  بلاك (1976) يقول ان السوق الحر للنقد الأجنبي يتسم بعدم الاستقرار أما كروقر (1983) فيرى أن العلاقة بين تعديلات سعر الصرف وازدياد الواردات او علي الاقل تقليل الفجوة بين الأسعار المحلية والعالمية للصادر او السلع المنافسة للوارد يري كروقر أن هذا السؤال لم يحسم بعد٠
استعرضت الورقة النموذج الذي صاغه نواك عام 1984 والذي يشرح كيفية أداء السوق غير الرسمية للنقد الأجنبي ومن المعروف ان هذا المودل يستخدم بواسطة صندوق النقد الدولي لتبرير سياسته لتحديد سعر الصرف٠ ويعتمد نموذج نواك على عدة فرضيات تتلخص في الاتي:
اولا/ تعرف السوق السوداء وتتحد مصادر النقد الأجنبي فيه من عائد تهريب سلع الصادر٠
ثانيا/ يعتمد عرض النقد الأجنبي في السوقين الرسمي والاسود على الأسعار النسبية المناسبة بحيث يكون يكون تأثير أسعار الصرف النسبية على عرض النقد الأجنبي متساويا في السوقين وبناء على هذه الافتراضات الجوهرية اضافة عدة افتراضات أخرى توصل نواك إلى النتائج التالية:

اولا/ كلما حدث تخفيض في سعر الصرف الرسمي (يعني تخفيض قيمة الجنيه) أدي ذلك الي ارتفاع في سعر الصرف في السوق السوداء اَي أن هناك علاقة عكسية.ويري نواك أن السبب في ذلك يعزى إلى أن تحويل الموارد من إنتاج السلع غير التبادلية إلى سلع الصادر ويؤدي ذلك إلى توسع العرض الإجمالي لسلع الصادر على الرغم من انكماش البيع في السوق السوداء٠ وتنبه الورقة هنا أن التوصل لتلك النتيجة قد تم باستخدام القيد المفروض على تأثير أسعار الصرف النسبية على حصيلة الصادر ومرونة الصادر لتغيير سعر الصرف في السوقين٠
تنوه الورقة ايضا ان النتيجة التي توصل إليها نواك تذهب تؤيد مادرج عليه الصندوق من توصية للدول النامية لاتباع سياسات خفض سعر الصرف العملات المحلية بحجة ان من شأنه تضييق الشقة بين السعرين السعر الرسمي والسعر في السوق الموازي٠

من ابتكارات هذه الورقة القيمة أنها أتت بنموذج بديل لنموذج نواك او النموذج الذي يستند عليه الصندوق في تبرير سياساته٠
واستند هذا النموذج البديل على افتراضات مختلفة عن نموذج نواك والمعروف في علم الاقتصاد أن اَي تغيير في افتراضات اَي نموذج يتوقع أن يأتي بنتائج مختلفة بطبيعة الحال وهنا علينا ان نشير الى أن الافتراضات التي استند عليها النموذج البديل أكثر ملائمة وواقعية لظروف الاقتصاد السوداني يستند النموذج البديل على عدة افتراضات أهما:
اولاً/ تتم مقابلة الطلب الزائد على النقد الأجنبي في سوق موازية أو سوق سوداء رسمية تمثل مصادر النقد الأجنبي فيها من تحويلات المغتربين
تانيا/ يعتمد عرض النقد الأجنبي في السوق على سعر الصرف الرسمي بحيث تكون مرونة الصادرات للسعر الرسمي مساوية للصفر بينما تعتمد تحويلات المغتربين على نسبة السعر الموازي ٠ويتوصل النموذج البديل على نتائج مختلفة تماما عن نموذج نواك.
النتائج التطبقية للنموذج البديل
لاختبار أطروحة الصندوق قام الباحثان بإجراء بعض التجارب التطبيقية من خلال استخدام الدالة الخطية “Linear regression analysis” وذلك لاختبار العلاقة بين سعر الصرف الرسمي وسعر الصرف في السوق السوداء وكما اسلفنا ان نموذج نواك قد توصل لوجود علاقة “عكسية” بين سعر الصرف الرسمي وسعر الصرف في السوق السوداء في مسار نحو التوحيد٠اما النموذج البديل فقد قام الباحثان المحترمان باستخدام معلومات تعكس واقع الاقتصاد السوداني وكانت المعلومات عبارة عن المتوسطات الشهرية لأسعار الصرف في السوق السوداء في الفترة من سبتمبر 1981 الي فبراير 1985 وكانت نتائج التقديرات الاحصائية تؤكد وجود علاقة “مباشرة”  قوية بين سعر الصرف الرسمي وسعر الصرف في السوق السوداء٠وهذه النتيجة تؤكد على رفض اطروحة الصندوق باستقرار سوق النقد في السودان او بمعني اخر الاتجاه العام لأسعار الصرف نحو التوحيد٠وخلاصة النموذج البديل أن أي تخفيض في سعر الصرف الرسمي يؤدي إلى المزيد من التخفيض في سعر الصرف في السوق الموازي٠
ومضت هذه الورقة القيمة في إجراء عدة اختبارات تطبيقية إحصائية كاختبار أطروحة عدم الاستقرار الديناميكي باستخدام فكرة شيانج (1974) وذلك باستخدام الدالة الخطية واثبت الباحثان احصائيا عدم الاستقرار الديناميكي في السودان وهذا يعني تباعد السعر مع سعر التوازن مع مرور الزمن وتؤكد الورقة ان شروط عدم الاستقرار الديناميكي للسوق السوداء تتوفرفي السودان٠
وتعرضت الورقة بشكل ضاف لدراسة العوامل المؤثرة على سعر الصرف في السوق الموازي وفي هذا الاطار قام حسين (1982) وهو احد المشاركين في الدراسة بصياغة الاطروحة التي تقول بان التغيرات في سعر الصرف في السوق الموازي يمكن ان تفسر بواسطة التغيرات في التسهيلات الائتمانية للقطاع الخاص كذلك التغيرات التي تحدث علي الفارق بين السعر الرسمي وسعر الصرف في السوق الموازي٠
تحليل وتعليق علي الورقة
أكدت هذه الورقة القيمة خطل تطبيق سياسة تحرير سعر الصرف وخلق سوق سوداء لسعر الصرف بفرضية اتجاه السعرين نحو التوحيد في المدي المتوسط والطويل انصياعا لتوجيهات صندوق النقد الدولي٠
والغريب في الأمر إصرار الحكومة في اتباع نفس النهج المجرب سابقا اذ طبقت هذه السياسات منذ العام 1979 إبان فترة الحكم المايوي وتكرر نفس الخطأ في بداية عهد حكومة المتأسلمين إبان تولي عبد الرحيم حمدي لوزارة المالية وتطبيقه لسياسة التحريرالاقتصادي٠

والآن اتجهت حكومة المتأسلمين الى استخدام نفس الأسلوب فيما يسمى بسياسة الية تحديد سعر الصرف وهي في مجملها سياسة تعويم تام لسعر الصرف الرسمي وتقنين للسوق الأسود ليس الا٠
ونؤكد على ما خلصت إليه هذه الورقة من أن اَي معالجات لمشاكل توحيد سعر الصرف سوف تكلل بالفشل الذريع في وجود هذه الحقائق:

أولا/ سيظل الاختلال الهيكلي المزمن في سوق سعر الصرف ماثلا أمامنا لارتباطه بطبيعة النظام السياسي الطفيلي فاذا نظرنا الي الميزان الداخلي نجد ات هناك عجز في الموازنة ناجم من زيادة الإنفاق الحكومي وخاصة في بندي الأمن والدفاع والصرف السياسي مصحوبا في ضمور الإيرادات الضريبية والجمارك لضعف النشاط الاقتصادي والفساد والإعفاءات الضريبية والجمركية٠

ثانيا/ عجز مزمن في الميزان الخارجي يقدر بحوالي الخمس مليار دولار فالواردات تفوق الصادرات لأسباب هيكلية مزمنة فإذا نظرنا لهيكل الواردات وهي تمثل جانب الطلب علي الدولار فنجد معظم هذه الواردات تتمتع بعدم مرونة عالية للتغير في سعر الصرف فمعظم الواردات اما ادويه ومعدات طبية او مدخلات انتاج او سفر للعلاج في الخارج اضافة لبعض السلع الكمالية ومعظم هذه السلع لاتستجيب لتغيرات سعر الصرف بمعني ستظل الورادات تشكل عبئا وضغطا على الطلب علي الدولار٠
ثالثا/ اذا نظرنا الى جانب العرض فنجد أهم مصادرة عوائد الصادرات وتحويلات المغتربين وعوائد بيع الذهب ومعظم هذه المصادر يتشكك في استجابتها لأي تغير في سعر الصرف مهما كان محفزا لأسباب تتعلق بعدم الثقة في النظام السياسي والنظام المصرفي في السودان٠

في ختام هذه الورقة القيمة تعرض الأساتذة الإجلاء إلى تلخيص آثار تجربة السوق السوداء لسعر الصرف على الاقتصاد الكلي و تلخصت هذه الآثار في الجوانب الآتية :

اولا/ الآثار التضخمية أكدت الورقة علي اعتراف الصندوق بتأثير تلك السياسيات السلبي على الاقتصاد السوداني فقد أدت التوقعات بتخفيض سعر الصرف الي عددا من الآثار الضارة منها المضاربات وتخزين سلع الصادر والوارد للحصول على أرباح اوفر في حالة تخفيض العملة وفد أدي ذلك لازدياد حدة التضخم واختفاء كثير من السلع وذلك لطمع التجار والمضاربين من الطفيلية وتؤكد الورقة أن التخفيض أدى إلى تحويل الدخل من المستهلكين والمنتجين إلى طبقة التجار كما توجهت البنوك بتوفير التمويل اللازم لمعظم نشاطات العملة في السوق السوداء مما أدى إلى توجيه الموارد في نشاطات غير منتجة وأضاع فرص تمويل نشاطات أكثر جدوى اقتصادية٠

ثانيا/ الأثر السلبي علي توزيع الدخل أكدت الورقة على في الفترة ما بين العام 1977 و1983 فترة تطبيق تلك السياسات كان النمو الحقيقي في القطاعات الإنتاجية مثل الزراعة والخدمات والمواصلات سالبا بينما حقق دخل الفرد في قطاعات التجارة والبناء والتشييد أعلى معدلات نمو وهذا يؤكد ازدياد نهم الطبقات الطفيلية غير المنتجة والتي استفادت من تلك السياسات في نشاطات السمسرة والمضاربات وتخزين السلع الهامة بغرض الربح٠

ثالثا/ تعرضت الورقة لأثر تلك السياسات على عملية اتخاذ القرارات الاقتصادية فتجربة السوق السوداء أدت إلى خلق سلوك طفولي غير منتج مثل المضاربات وفقدان الثقة في الجنيه واستخدام الدولار محافظ الثروة وكذلك برزت حمي هروب رؤوس الأموال المحلية للخارج مستفيدة من ما يسمى بحرية التعامل في النقد الأجنبي كذلك يلاحظ انحراف سلوك القطاع المصرفي وانخراطه في تمويل عمليات السوق السوداء لصالح الطبقات الطفيلية غير المنتجة أصلا كل ذلك أدى إلى تشويه عملية اتخاذ القرار الاقتصادي في السودان٠
نستخلص من هذا الجهد الأكاديمي المقدر النتائج التالية:
أولا/يستند صندوق النقد الدولي على مودل لتحديد سعر الصرف مبني على افتراضات لاتمت للواقع السوداني بصله وتاتي بنتائج غير واقعية وأثبت الباحثان عند صياغة النموذج البديل بالشواهد النظرية والتطبيقية أنه وعند تغيير الافتراضات لتلائم الوضع السوداني نأتي  بنتائج مختلفة وأكثر واقعية٠
ثانيا/ يفترض نموذج الصندوق أن تخفيض سعر الصرف الرسمي يؤدي إلى تقارب الفجوة بين السعر الرسمي والسعر في السوق الموازي في اتجاه نحو التوحيد وأثبت المودل البديل خطاء تلك النتيجة بالشواهد التطبيقية وواقع الحال يؤكد أن تخفيض سعر الصرف الرسمي يؤدي إلى توسع نشاط السوق الأسود بشكل ملحوظ٠
ثالثا/ تؤكد الورقة ان نشاط السوق الأسود واقعا ماثلا أمامنا ويغذي بنشاط تحويلات المغتربين وتهريب عوائد الصادر وان مهما حاولت الدولة من تقليص نشاط السوق الاسود بإجراءات أمنية وإدارية ان ذلك لايجدي فتيلاً٠
رابعا/ تؤكد الورقة أن مرونة الصادرات لتخفيض سعر الصرف الرسمي متدنية للغاية وربما تصل للصفر لذا لايمكن توقع استجابة المصدرين واتجاههم نحو السوق الرسمي في ظل وجود نشاط السوق الأسود٠
خامسا/ يؤدي التخفيض في السوق الرسمي الي مزيدا من التخفيض في السوق الموازي ويكثف نشاط السوق الأسود كما أثبتت الورقة و تؤكده شواهد الواقع المعاش٠

الورقة الثالثة: سياسات الأسعار واستراتيجية دعم السلع الضرورية

د. صديق عبدالمجيد صالح
د. خالد عفان
كلية الاقتصاد جامعة الخرطوم
موجز الدراسة:
من ضمن مقترحات صندوق النقد الدولي لتطبيق برنامجه المعروف في السودان رفع الدعم نهائيا عن سلع الاستهلاك وإيقاف سياسة تثبيت الأسعار وقد نفذ هذا البرنامج تماما منذ أن ابتداء صندوق النقد في إدارة الاقتصاد السوداني في يونيو 1978 واختفي الدعم من الميزانية العامة للدولة تماما منذ ذلك التاريخ٠
والمتابع لنسبة الدعم منذ العام 1973 يكتشف أنها لم تتجاوز ال2.4% من نسبة الصرف الحكومي الكلي وعليه تصبح مسالة رفع  الدعم ليست ذات قيمة مالية تأخذ مثل هذه الضجة٠
الدعم مسالة ذات اهمية اقتصادية واجتماعية ذَا اهمية من الدرجة الأولى لبناء رأس المال البشري كعنصر مهم لتنفيذ البرامج التنموية في المدي البعيد٠
هناك ثلاثة أرباع سكان القطاع الحضري وأكثر من من تلك النسبة للقطاع الريفي يستهلكون أقل من الحد الأدنى من السعرات الحرارية المطلوبة يوميا لكل فرد ويعتبر اكثر من ثلث هذا العدد في عداد سوء التغذية
وفِي نفس الوقت نشهد ارتفاعا مستمرا في اسعار السلع الاساسية بينما ينخفض مستوى الدخل الحقيقي للفرد في تلك الشرائح ولذلك يصبح الدعم ضرورة اقتصادية واجتماعية حتى يتمكن المواطن من الحصول علي الحد الأدني من الاستهلاك الضروري لتوفير الطاقة المطلوبة٠
تبعا لذلك فقد توصلت هذه الدراسة إلى مؤشرات عدة تتلخص في تحقيق الأمن الغذائي وتشجيع الإنتاج المحلي لبدائل الاستيراد مع دعم مدخلات الانتاج الاساسية باتباع سياسات تسعيرية وتسويقية وتوزيعية وتتلخص هذه السياسات في الاتي:

ضمان سعري ارضي يفرق من  سعر السوق الحر وتطبيق الأسعار المختلفة حسب انواع السلع المصنعة بحيث تدعم السلع ذات المكون المحلي وترفع أسعار السلع الفاخرة ذات المكون المستورد حتى يمكن لمبدأ الدعم التقاطعي مقابلة تكلفة الدعم جزئيا ولضمان إدارة ورقابة هذا البرنامج لابد من رفع كفاءة وتنظيم دور الجهات الرسمية مع إشراك النقابات والهيئات الشعبية في إدارته ومراقبته٠
مدخل لسياسات الدعم والتسعير 
هناك جدل حول موضوع دعم السلع الاساسية وهناك فريقان حول الموضوع الفريق الأول يطلب دعم السلع الاستهلاكية وفريق اخر يسعى الي توفير السلع  بل اغراق الاسواق وفرة بدعم او بدون دعم
ولما لم تكن هناك استجابة من الحكومة لأي الفريقين بحجة عدم وجود بدائل مدروسة خارج إطار توصيات صندوق النقد الدولي  برفع الدعم عن سلع الاستهلاك٠
تعريف الدعم 
يعرف الدعم في علم الاقتصاد الجزئي بفرق السعر بين سعر السلعة او الخدمة المفروضة من قبل الدولة وسعر السوق لتلك السلعة حسب ما تحدده قوى العرض والطلب في تلك اللحظة وعليه يمكن ان يكون السعر المدعوم أعلى او أدنى من سعر العرض والطلب وذلك يعتمد على هدف تدخل الدولة فمثلا تفرض الدولة سعرا  أعلى من سعر السوق بغرض تشجيع المنتج (مثل سعر تسليم قمح المزارع للمطاحن) وفِي حالة سعر أدنى من سعر السوق يكون الهدف حماية المستهلك للحصول على تلك السلعة على أساس القوة الشرائية للدخول المتدنية مثل دعم السكر والخبز٠

وعليه فسياسات الدعم أو الضريبة علي السلع تكون اما واحدة من فرضيات سياسة او وسيلة لتحقيق هدف اقتصادي او اجتماعي ضمن برامج  الدولة ففي الحالة الأولى يمكن ان يكون دعم السلع هدفا أساسيا منفردا لتركيز أسعار تلك السلع أو غير مباشر لخدمة غرض اجتماعي واقتصادي مثل توفير السلع بأسعار اقل من سعر السوق حتى يتمكن المواطن من الحصول علي هذه السلع ليتمكن من بناء رأس المال البشري المهم لتنفيذ برامج  التنمية٠
ولفرض الغرض الأخير تبني معيار نموذج الفائدة والتكلفة الاجتماعية لتسعير تلك السلع بدلا عن معيار التكلفة الخاصة الحدية في نظرية العرض والطلب٠

وانطلاقا لهذا الفهم والنهج القياسي يتم حساب اساسيات الحياة من القوت حسب السعرات الحرارية اليومية اللازمة لحياة الفرد كما هو مقدر ومقترح من منظمة الزراعة والاغذية الدولية  فتوفي السلع الأساسية التي تضمن الحد الأدنى من السعرات الحرارية لمعظم أفراد المجتمع محسوبا علي أدني قوة شرائية  في المجتمع او ضمان الحد الأدنى من الدخل لاكتساب تلك السلع السياسة السعرية المطلوبة لتلك السلع والهدف إبعاد شبح الجوع وتوفير الحد الأدني لرأس المال البشري لرفع الانتاج والانتاجية كشرط اساسي للخروج من الازمة الاقتصادية للبلاد٠
نموذج  التسعير حسب التكلفة الحدية الاجتماعية والمنفعة الحدية الاجتماعية معمول به حتى في المدرسة النيوكلاسيكية  أضف إلى ذلك الممارسة العملية  لسياسات دعم السلع وبالذات السلع الزراعية  ومدخلات الإنتاج من الولايات المتحدة إلى الاتحاد السوفيتي مرورا بأغلبية دول العالم الثالث٠
الدعم ليست قاصرا على دعم المستهلكين ولكن في حالات كثيرة يشمل الدعم المنتجين كما هو الحال بالنسبة للأسعارالارضيّة لمحصول القمح الأمريكي حيث يدعم المنتج بسعر اعلي من السوق وكذلك دعم مدخلات الانتاج الاساسية في حالة تعدي المنفعة الاجتماعية على التكلفة الاجتماعية خاصة في مجال بدائل الاستيراد٠
خلاصة الدراسة

الدعم ليس بدعة اقتصادية تخص السودان بل اُسلوب اقتصادي ابتدعته النظريات الاقتصادية لتصحيح تسعير بعض السلع وربما رفع كفاءة استخدام وتخصيص الموارد الاقتصادية بين القطاعات المختلفة وكما يخدم الدعم العدالة التوزيعية بين مختلف طبقات المجتمع٠
إذن الدعم مواز للضريبة ومرغوب في بعض الحالات لتصحيح الجوانب الاقتصادية والمالية في المدى القصير كما هو مرغوب لرفع كفاءة وخدمة أغراض التنمية الاقتصادية والاجتماعية في المدي البعيد٠
وقد طبق في كل دول العالم شرقا وغربا مرورا بدول العالم الثالث
تأكد تطبيقيا كفاءة الدعم في تأمين غذاء الشعوب  وتشجيع الانتاج الزراعي والصناعي وزيادة الاحتياطي من المخز

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..