مقالات سياسية

“كردفان وحصاد الهشيم!”

محمد التجاني عمر قش

ظلت منطقة كردفان، على مر التاريخ، ساحة لصراعات سياسية بين مختلف التكوينات السياسية في السودان. فقديماً قاتل الفونج مملكة تقلي حتى أضعفوها تماماً، بيد أنها كان من الممكن أن تمثل جسراً للتواصل بين شمال كردفان وجنوبها، تنتقل عبره الديانة الإسلامية والعروبة إلى مناطق الجبال؛ خاصة الشرقية منها، وبالتالي يتعزز النسيج الاجتماعي والثقافي والهوية، ولكن طمع الفونج في التوسع أجهض تلك التجربة الكردفانية الفريدة، ووأدها ولما يقوى عودها بعد. ثم تصارع الفونج والفور من أجل السيطرة على هذا الإقليم الواسع، الذي يمتد من أقصى جبال النوبة حتى تخوم المديرية الشمالية! ثم حارب سلاطين الفور ضد أبناء عمومتهم من المسبعات الذين سعوا لبناء سلطنة مستقلة في كردفان، في المناطق التي تقع حول مدينة الأبيض الحالية
وغزا جيش محمد علي باشا كردفان وأخضعها لنفوذ الدولة العثمانية إسمياً، بعد تدمير قوة سلطنة الفور بقيادة المقدوم مسلم في معركة بارا الشهيرة في عام 1821، وبذلك أصبحت كردفان جزءاً من السودان. وعندما ظهرت المهدية في الجزيرة أبا، واشتد ضغط الأتراك على المهدي وأنصاره، قرر الإمام الهجرة إلى جبل ماسا في قدير، ووجد التأييد والمؤازرة من أهل كردفان حتى قويت شكوته واستطاع فتح الخرطوم معتمداً على سواعد الكردفانيين!
باختصار، نستطيع القول إن كردفان قد ظلت حديقة خلفية لكل السلطنات والممالك والحكومات المتعاقبة في السودان منذ وقت مبكر وحتى يومنا هذا! ومع ذلك لم يجني أهل كردفان من تأييدهم ووقوفهم مع الحكام إلا التهميش والتبعية العمياء. وقد ظل الحال كما هو حتى الوقت الراهن حتى خرجت كردفان من محادثات جوبا الأخيرة “بدون حمص “إذ لم يسمح لها حتى بالمشاركة ولو بصفة مراقب، بينما دعيت للمشاركة في المداولات جهات لا وزن لها على الإطلاق. مع الإقرار بأن التفاوض عبر المسارات يكرّس الجهوية وربما القبلية وهو بالتالي يعتبر على حساب الانتماء القومي أو الوطني. وهذا المسلك ربما يكون مدعاة لسلسلة من الحروب على أساس جهوي أو مناطقي بسبب الإقصاء وغمط الآخرين حقهم في التعبير عن مشكلاتهم، مع أن الدولة تدعي الآن أنها تسعي لترسيخ مبدأ المواطنة.
وكما قال أحد الظرفاء إن كردفان ظلت “رايحة بين الرجلين ساكت”. وهل فعلاً يراد لكردفان أن تظل بقرة حلوباً لكل أهل السودان دون مقابل من تنمية، ونصيب من المشاركة في السلطة والثروة، وأن تظل حاجزاً جغرافيا وعرقياً بين الغرب والبحر، أم لماذا هذا الإقصاء؟ مع العلم بأن كردفان، بكافة ولاياتها قد تأثرت بالحرب في دارفور وجبال النوبة فكان من الأجدر أن يكون لها شكل من الوجود والتمثيل في جبوا حتى تطرح ما لديها من قضايا مطلبية وتنموية وربما سياسية.
صحيح أن كردفان لم يكن لها تمثيل في الجبهة الثورية، ولذلك لم تتاح لها الفرصة للمشاركة في محادثات جوبا بينما حاول التوم هجو الحديث باسمها ضمن مسار الوسط، ليس لأن الوسط قد عرف التمرد وحمل السلاح في وجه الدولة، ولكن لأن بعض أهل اليسار قد أستطاع زرع ممثليه في كل الأجسام، التي شاركت في المفاوضات، بما في ذلك مسار الشمال والشرق؛ حتى يكون الاتفاق المزمع بين مكونات اليسار دون سواها، ولعل هذا هو التوجه العام في السودان بأكمله. وهذا ما جعل البعض يعتقد أن المسارات أصلاً تشكيلات يسارية أو بالأحرى شيوعية محضة لا تحمل أي بذرة خير للوطن، ولذلك ظلت محادثات جوبا ذات طابع سري لا يرشح عنها للإعلام إلا النذر القليل أو ما يريد أهل اليسار الإفصاح عنه للناس، بينما ظل السواد الأعظم من الشعب السوداني مغيباً عنها تماماً؛ ولذلك لا ينبغي لأهل كردفان أن يحزنوا على ما فاتهم من مؤامرة دبرت بليل وأشرفت عليها جهات خارجية وداخلية لا تريد بالسودان أو بأهله خيراً على الإطلاق. وكردفان ستظل بخير ما دام أنها بعيدة عن هذه الصفقات المشبوهة التي تفوح منها رائحة التآمر على الوطن برمته!
وبغض النظر عن كل الاعتبارات، كانت هنالك محاولة شعبية من أهل كردفان للمشاركة في محادثات جوبا، إلا أن المحاولة قد اكتنفها كثير من العوامل التي حالت دون مشاركة مسار كردفان في المفاوضات. فقد شابت تكوين المسار “مناكفات” بين أبناء كردفان؛ نظراً لأنهم لم يكن لديهم سابق خبرة في العمل الجماعي المنظم، واحتدمت بينهم المنافسة حول قيادة المسار، فتفرق رأيهم أيدي سبأ! وزاد الطينة بلة كونهم لم يخرجوا من مشكاة واحدة، لا فكرياً ولا حزبياً، فعمد بعض منسوبي قحت، داخل المسار، للسعي لدى الجهات الراعية والمشرفة على التفاوض؛ حتى حالوا دون مشاركة المسار مع أنه ليس ذا طابع سياسي بل هو تنموي! وهنالك من أتهم المسار بأنه إحدى المظلات السياسية للكيزان، وهذا محض افتراء قصد به شيطنة القائمين على الأمر باستغلال وركوب الموجة التي تجتاح الوطن، ولذلك لم تحصد كردفان إلا الهشيم. فهل سيظل الحال في كردفان على هو عليه؟

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..