
• للقاص و الشاعر الشاب ” شاذلي جعفر شقاق” قدرة باهرة على التقاط دقائق الصورة في ما يتناولُهُ من موضوعات قصصية. وقفتُ عند مجموعته القصصيَّة (فضاءٌ آيلٌ للغُروب)، التي نُشرت أواخر العام 2018 و التي تكادُ تجمعُ بين قصصها قضيَّة واحدة ، هي قضيَّة “المُخدِّرات” التي تُعدُّ اليوم إحدى أخطر المهددات لشباب هذه الأمّة.
• و ضمن معالجاته المتنوِّعة ، التي تكادُ تقتصر على المخدرات المحلِّيّة “البنقو” ، أبدى شاذلي براعة لافتة في تجميع و رصد ، ثم إعادة تكوين “الصورة” المعبرة عن طقوس تهيئة ثم تناول المخدرات ، ثم رصد آثارها المدمرة ، كل ذلك في لغة غاية في الجزالة و الرشاقة. أتناول في هذه المساحة نصّين من مجموعته، هما “إصطباحيَّة” و “سبَّابة تعتزلُ الوعيد”.
النصُّ الأوّل: إصطباحيّة :
1- العنوان:
عنوان القصة ، يمثل مصطلحاً مألوفاً لدى متعاطي المخدرات المحلِّيّة ، و بحسب ثقافة متعاطي “البنقو” – التي يبدُو أن الكاتب بذل جهداً موفَّقاً في التعرُّف إليها – فإن “الاصطباحيَّة” هي السيجارة الأقوى تأثيراً ، والتي تحدِّد سيرورة بقية اليوم بالنسبة للمتعاطي .
2- المتن
هذا النّصّ يمثِّل استقصاءً دقيقاً و أميناً لقصّة حياة “سيجارة بنقو” ، بكل مراحل صناعتها منذ أن كانت أمشاجاً من نبتةٍ عزيزة ، مخبّأة بعناية في لفاقة أو كيس ورقي ، و من “دفتر” من ورق لفٍّ مخصوص ، و من تبغ عادي يتم توفيره من تفكيك لفافة تبغ أو أكثر مما تنتجه مصانع التبغ .. هذه المكونات الثلاثة هي المادَّة الخام التي يتوفَّرُ عليها بعد ذلك الصَّانع الماهر ، فيستخدمُ أصابع كفَّيه – تماماً بالوجه و التفاصيل التي تصفُهُا القصَّة – للحصول على سيجارة بنقو، ثم يتوالى الوصف الدَّقيق شاملاً طقس التدخين بكل تفاصيله و حتى آخر نفس . ما يميز هذا الوصف الذي يُمكنُ الحصول عليه من أي “مسطول” متمرِّس ، هو اللغة الأدبيّة الرفيعة التي نقلت تجربة متعاطي مخدراتٍ عادي ، قد لا يحسن القراءة و قد لا يدرك معنى “قصّة” ، من مجرّد طقس يومي بائس ، إلى عملٍ أدبيٍّ رفيع ، هو ، بغض البصر عن محتوى خطابه أو رسالته ، يمثل تحفةً أدبيَّة جديرة بتأمُّل محتواها الجمالي ، فضلاً عن محتوى خطابها الفاضح لحقيقة “الإنسطال”.
3- الرسالة:
هذه القصّة تقدِّمُ وصفاً تصاعُديَّاً ، و واقعيَّاً لحقيقة و مآلات “الإنسطال” الذي هو النتيجة المألوفة لتعاطي المخدرات. و يبدُو من رسالة هذا العمل أنّهُ يستهدف دحض الفكرة الشعبيَّة السائدة – و القادمة من شمال الوادي – التي تتسامحُ مع فكرة الإنسطال و تمجد (المسطول) أو على الأقل تفترضُ له أهمِّيّة ما في الحياة ، فتنسبُ إليه أحياناً تصرُّفاتٍ تدُلُّ على الذكاء ، و أحياناً أخرى تجعلُهُ شخصاً خفيف الظل سريع البديهة ، قادراً على اقتناص المفارقات المدهشة. و لا يخفى أن هذه الفكرة عن “المسطول” قامت على أساسٍ ضعيف ، متمثل في تصرُّفات بعض مدمني المخدرات (المساطيل) الناشئة عن تشوُّهات الوعي “التي وصفها الكاتب بدقّة باهرة في هذا النص”: ((قهقهة فيَلة .. صراخ قرود ..حمْحمة ضمائر .. غنْج أتن ..فرفرة موتى ..زغاريد رجال ..هدير نساء ..نوبة.. نحاس.. دلّوكة.. دليب.. كرَنْقْ .. اشتباك أجنَّةٍ في أرحامها ..جعْجعة جوعى .. نبا ح تخمة ..تهليلٌ ، تكبيرٌ ..شخيرٌ ، نخيرٌ ..ظلامٌ مشرقٌ ، نهارٌ دامسٌ ..غروبٌ هاربٌ ..ظلالٌ يابسةٌ .. يستدرُّ التداخل السريع بين فصول اللوحة السريالية المتحركة ضحكةً تسقط سهْواً من كنانة أفقٍ ساطعٍ على حاشية ندْبةٍ سادتْ ردْحاً من الزمان ولا زالت ..! أنت وحدكَ مَنْ يبرِّر دواعيها !)).
و تشوهات الوعي هذه هي في الحقيقة ما يميز من يغيبُ وعيه بسبب المخدرات ، عمن يغيب وعيه لأسباب أخرى ، كالخمر مثلاً ، فتأثير المخدِّرات يتمثلُ في إحساس المسطول بقدرته على إعادة تشكيل العالم ليكون هو بؤرته ، و إحساسهُ بقدرته على تعديل نواميس الكون بحيث تبدو أمامهُ مشاهد الحياة بالشكل الذي صوَّرهُ الكاتب في الاقتباس أعلاه. و تشوه وعي المسطول ناتجٌ عن تأثير المخدرات على حواسِّه ، بحيث يقع الدّماغ تحت تأثير رسائل كاذبة من الحواس ، العينُ ترى البعيد قريباً و القريب بعيداً فتبعث برسائلها الخادعة إلى الدماغ ، فيصدر أوامره للجوارح لتتصرف وفقاً لرسالة العين الكاذبة ، و السمع يسمعُ انفجار بذرة حشيش داخل السيجارة بفعل النار ، فيبعث برسالة إلى الدماغ بأنهُ سمع انفجار قنبلة .. إلخ .
ظلال السياسة في أدب القصَّة :
• الاشتراك الحرفي ، و التناظر الصياغي بين كلمتي (سَطلة) و (سُلطة) أتاحا للكاتب تظليل القصة بمحمولات سياسيَّة شفيفة ، عبر استخدام تناظري مكشوف لمفردة “سطلة” ، فكما أنَّ للمصطلح السياسي (اقتسام السُّلطة) شيوعهُ و دلالات استخدامه المخاتلة و الوهميّة في واقعنا الراهن ، فإن (اقتسام السَّطْلة) مصطلح يستطيع أن يأخذ مكانهُ في عالم المحششين بذات المعاني المخاتلة و الوهميّة ، و كما أنّ ” السَّطلة” تُعمي قلوب المساطيل ، فإنَّ “السُّلطة” تُعمي قلوب السَّاسة ، و جامعُ العمى بين الفريقين ينتجُ ضحكاً بلا مبرر ، و أحياناً رقصاً بلا مبرر!!
أواصل غداً، بمشيئة الله.
• و ضمن معالجاته المتنوِّعة ، التي تكادُ تقتصر على المخدرات المحلِّيّة “البنقو” ، أبدى شاذلي براعة لافتة في تجميع و رصد ، ثم إعادة تكوين “الصورة” المعبرة عن طقوس تهيئة ثم تناول المخدرات ، ثم رصد آثارها المدمرة ، كل ذلك في لغة غاية في الجزالة و الرشاقة. أتناول في هذه المساحة نصّين من مجموعته، هما “إصطباحيَّة” و “سبَّابة تعتزلُ الوعيد”.
النصُّ الأوّل: إصطباحيّة :
1- العنوان:
عنوان القصة ، يمثل مصطلحاً مألوفاً لدى متعاطي المخدرات المحلِّيّة ، و بحسب ثقافة متعاطي “البنقو” – التي يبدُو أن الكاتب بذل جهداً موفَّقاً في التعرُّف إليها – فإن “الاصطباحيَّة” هي السيجارة الأقوى تأثيراً ، والتي تحدِّد سيرورة بقية اليوم بالنسبة للمتعاطي .
2- المتن
هذا النّصّ يمثِّل استقصاءً دقيقاً و أميناً لقصّة حياة “سيجارة بنقو” ، بكل مراحل صناعتها منذ أن كانت أمشاجاً من نبتةٍ عزيزة ، مخبّأة بعناية في لفاقة أو كيس ورقي ، و من “دفتر” من ورق لفٍّ مخصوص ، و من تبغ عادي يتم توفيره من تفكيك لفافة تبغ أو أكثر مما تنتجه مصانع التبغ .. هذه المكونات الثلاثة هي المادَّة الخام التي يتوفَّرُ عليها بعد ذلك الصَّانع الماهر ، فيستخدمُ أصابع كفَّيه – تماماً بالوجه و التفاصيل التي تصفُهُا القصَّة – للحصول على سيجارة بنقو، ثم يتوالى الوصف الدَّقيق شاملاً طقس التدخين بكل تفاصيله و حتى آخر نفس . ما يميز هذا الوصف الذي يُمكنُ الحصول عليه من أي “مسطول” متمرِّس ، هو اللغة الأدبيّة الرفيعة التي نقلت تجربة متعاطي مخدراتٍ عادي ، قد لا يحسن القراءة و قد لا يدرك معنى “قصّة” ، من مجرّد طقس يومي بائس ، إلى عملٍ أدبيٍّ رفيع ، هو ، بغض البصر عن محتوى خطابه أو رسالته ، يمثل تحفةً أدبيَّة جديرة بتأمُّل محتواها الجمالي ، فضلاً عن محتوى خطابها الفاضح لحقيقة “الإنسطال”.
3- الرسالة:
هذه القصّة تقدِّمُ وصفاً تصاعُديَّاً ، و واقعيَّاً لحقيقة و مآلات “الإنسطال” الذي هو النتيجة المألوفة لتعاطي المخدرات. و يبدُو من رسالة هذا العمل أنّهُ يستهدف دحض الفكرة الشعبيَّة السائدة – و القادمة من شمال الوادي – التي تتسامحُ مع فكرة الإنسطال و تمجد (المسطول) أو على الأقل تفترضُ له أهمِّيّة ما في الحياة ، فتنسبُ إليه أحياناً تصرُّفاتٍ تدُلُّ على الذكاء ، و أحياناً أخرى تجعلُهُ شخصاً خفيف الظل سريع البديهة ، قادراً على اقتناص المفارقات المدهشة. و لا يخفى أن هذه الفكرة عن “المسطول” قامت على أساسٍ ضعيف ، متمثل في تصرُّفات بعض مدمني المخدرات (المساطيل) الناشئة عن تشوُّهات الوعي “التي وصفها الكاتب بدقّة باهرة في هذا النص”: ((قهقهة فيَلة .. صراخ قرود ..حمْحمة ضمائر .. غنْج أتن ..فرفرة موتى ..زغاريد رجال ..هدير نساء ..نوبة.. نحاس.. دلّوكة.. دليب.. كرَنْقْ .. اشتباك أجنَّةٍ في أرحامها ..جعْجعة جوعى .. نبا ح تخمة ..تهليلٌ ، تكبيرٌ ..شخيرٌ ، نخيرٌ ..ظلامٌ مشرقٌ ، نهارٌ دامسٌ ..غروبٌ هاربٌ ..ظلالٌ يابسةٌ .. يستدرُّ التداخل السريع بين فصول اللوحة السريالية المتحركة ضحكةً تسقط سهْواً من كنانة أفقٍ ساطعٍ على حاشية ندْبةٍ سادتْ ردْحاً من الزمان ولا زالت ..! أنت وحدكَ مَنْ يبرِّر دواعيها !)).
و تشوهات الوعي هذه هي في الحقيقة ما يميز من يغيبُ وعيه بسبب المخدرات ، عمن يغيب وعيه لأسباب أخرى ، كالخمر مثلاً ، فتأثير المخدِّرات يتمثلُ في إحساس المسطول بقدرته على إعادة تشكيل العالم ليكون هو بؤرته ، و إحساسهُ بقدرته على تعديل نواميس الكون بحيث تبدو أمامهُ مشاهد الحياة بالشكل الذي صوَّرهُ الكاتب في الاقتباس أعلاه. و تشوه وعي المسطول ناتجٌ عن تأثير المخدرات على حواسِّه ، بحيث يقع الدّماغ تحت تأثير رسائل كاذبة من الحواس ، العينُ ترى البعيد قريباً و القريب بعيداً فتبعث برسائلها الخادعة إلى الدماغ ، فيصدر أوامره للجوارح لتتصرف وفقاً لرسالة العين الكاذبة ، و السمع يسمعُ انفجار بذرة حشيش داخل السيجارة بفعل النار ، فيبعث برسالة إلى الدماغ بأنهُ سمع انفجار قنبلة .. إلخ .
ظلال السياسة في أدب القصَّة :
• الاشتراك الحرفي ، و التناظر الصياغي بين كلمتي (سَطلة) و (سُلطة) أتاحا للكاتب تظليل القصة بمحمولات سياسيَّة شفيفة ، عبر استخدام تناظري مكشوف لمفردة “سطلة” ، فكما أنَّ للمصطلح السياسي (اقتسام السُّلطة) شيوعهُ و دلالات استخدامه المخاتلة و الوهميّة في واقعنا الراهن ، فإن (اقتسام السَّطْلة) مصطلح يستطيع أن يأخذ مكانهُ في عالم المحششين بذات المعاني المخاتلة و الوهميّة ، و كما أنّ ” السَّطلة” تُعمي قلوب المساطيل ، فإنَّ “السُّلطة” تُعمي قلوب السَّاسة ، و جامعُ العمى بين الفريقين ينتجُ ضحكاً بلا مبرر ، و أحياناً رقصاً بلا مبرر!!
أواصل غداً، بمشيئة الله.
علي يس