مقالات متنوعة

قراءة في : فضاءٌ آيلٌ للغروب

علي يس

يوميات مسطول(2-2)

النّصُّ الثاني : سبَّابةٌ تعتزِلُ الوعيد
•       بينما كان عزفُ الكاتب في “اصطباحيّة” عزفاً منفرداً على تجربةِ التعامُل اليومي مع “سيجارة” يتمُّ لفُّها بطقوسه الكاملة المفصَّلة ، ثم إشعالُها و تدخينُها ، مع وصفٍ مفصّلٍ تصاعُديٍّ لمراحل الاستمتاع بها ، وصولاً إلى قمَّة “السَّطلة” التي لا يليها إلاّ الأكلُ ثمّ النومُ كجسرٍ ضروري لعبور طريق العودة من حال الانسطال إلى حال الوعي ، فإن الكاتب اختار أن يمارس في (سبابة تعتزل الوعيد) عزفاً ثنائياً على وتري “السَّطلة” و “السُّلطة” معاً ، حينما يأتلفان فيُشكِّلان انسطالاً مضاعفاً ، و عمىً مزدوجاً ..
•       اختيار العنوان هنا ، كما في اصطباحيَّة ، ينطوي على علاقةٍ عُضويَّةٍ بشخص القصّة – أو بطلها – و بأحداثها معاً . و المُدهِشُ في عُنوان هذه القصّة أن الكاتب أهدى إلى القارئ اكتشافاً عبقريَّا ، تمثَّل في محوريَّة دور الإصبع السَّبّابة ، و خطره العظيم ، في مضمار “السُّلطة” بذات القدر الذي يمثِّلُهُ في مضمار “السَّطلة” .. فهو هُناك يمثِّلُ المايسترو في لفِّ السيجارة بكل مراحلها ، و في عملية تدخينها بكل تعقيداتها ، بينما السَّبَّابة هنا ، في مضمار “السُّلطة” يمثِّلُ الأداة الأهمّ و الأعلى قدراً في عمليات الوعيد و التهديد ، حرباً ، و في عمليات التوقيع و التعامل مع القلم و مع الهاتف ، سلماً ، وفي عمليات التهليل و التكبير و التشهُّد ، نفاقاً  .. و في نهش الأموال و الأعراض ، شهوةً ..
•       و إذا كان المُنفرِدُ بالسَّطلة ، يُدرِكُ أنَّهُ هدفٌ دائم لسيف “القانون” ، فيضطرُّ إلى الاحتراز و الاختباء و إعدامِ آثار السطلة أوّلاً بأوّل ، كما رأينا في “اصطباحيّة” ، فإنَّ الذي يجمعُ بين السُّلطة و بين السَّطلة هو شخصٌ آمنٌ تماماً من ملاحقة القانون ، لأنَّ القانون في يده .
•       في لغةٍ قويّةٍ ، جزلةٍ و رشيقةٍ ، يضعُنا شاذلي أمام “بروفايل” متقن التفاصيل ، لبطل قصَّته هذه الملقّب “الصَّبرة” بما تحملُهُ دلالات اللقب في تاريخ الشخصيّة منذ طفولتها الباكرة ، التي لعب الفراغُ و الخواءُ في دفعها إلى مضمار “السَّطلة” ، ثم لعب الحظُّ الأعمى ، أو قُل الحظُّ “المسطول” في دفعها إلى مضمار “السُّلطة” ..
•       قوَّة الاقتباس ، سواءً من القرءان العظيم ، أو من مدخور الحكمة و مأثور الشعر ، ميِّزةٌ فارقة في نصوص شاذلي جعفر شقَّاق ، و في هذين النصين تحديداً .
•       في مدى متابعتي على مدىً يزيد عن ثلاثين عاماً ، لم أصادف نصَّاً قصصيَّاً يعالج موضوعة “الإنسطال” بمثل هذه البراعة و هذا التفصيل و هذا الاستقصاء الاحترافي ، الذي ربّما صوَّر للقارئ أن الكاتب من ذوي الخبرة في هذا المضمار ، و بالمستوى ذاته لم أصادف عملاً يستكشف و يكشف دقائق العلاقة بين “الإنسطال” و بين “الإنسلاط” ، بمثل هذه البراعة.
مصطلحات :
مع أنَّ القارئ العادي ، الذي لا خبرة له بطقوس الإنسطال ، يستطيع استيعاب الخطاب العام للقصة ، و لكنه قطعاً سيقف مكتوف الفهم أمام بعض المصطلحات الواردة في القصَّة ، ربَّما أمكنه أن يتصوّر لها معاني ، تقترب أو تبعد من الحقيقة ، و لكن المعنَى الكلي للمصطلح لن يتجلّى إلاّ لمن أوتي علماً بهذه الثقافة التي تنتمي ، تشريحياً ، إلى ثقافة ما نسميه بقاع المدينة.
من هذه المصطلحات :
1-      عنوان القصة الأولى – اصطباحيَّة : و واضح أنهُ مشتقٌّ من الصَّباح ، فهي السيجارة التي يتم تناولُها باكراً في الفجر أو قبل شروق الشمس ، و الاصطباحيّة لها طقس زمكاني ، إذ يفضِّل المتعاطون ذوو الخبرة أن يتم تعاطيها في مناطق مفتوحة و خالية من البشر ، حيث تتوفَّرُ نسمات الفجر التي تسهم إسهاماً جوهريَّاً في تدعيم نشوة الانسطال ، و أفضل مكان بالنسبة لسكان المناطق القريبة من النيل هو رمال شاطئ النيل، أو المناطق الزراعيّة .
2-       ورق البرنسيس : ورق مخصوص كانت تبيعه الكناتين إلى وقت قريب ، كان يُصنعُ أساساً لهواة لفِّ التبغ العادي يدويّاً ، من عامّة المدخنين.  و لفُّ التّبغ يدويّاً كان أمراً مألوفاً في أرياف السودان خصوصاً ، ربما حتى ثمانينيات القرن الماضي ، و كان المدخِّنون في الأرياف يفضِّلون التبغ “الفلت” الذي يشترونه من الكناتين بالرطل ، و يشترون معهُ دفاتر ورق اللّف من ماركة (برنسيس) أي الأميرة ، و هي الماركة الأشهر لهذا النوع من الورق ، و يقومون بلفِّ تبغهم يدويَّاً قبل تدخينه بنشوة كبيرة ، و طقوس لفّ التبغ تمثل لدى هذا النوع من المدخنين جزءاً أساسياً من نشوة التدخين.
(المواكب)

علي يس
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..