مقالات وآراء سياسية

أرفعوا أيديكم عن رمالنا! (1)

محمد التجاني عمر قش

في 1821م عندما اقترب جيش محمد علي باشا، من بارا، خرج المقدوم مسلم لملاقاة الجيش الغازي، وهو يقود جنوده بكل بسالة وجسارة ورباطة جأش؛ فخرج من بين صفوف الجيش رجل مهاب الطلعة، قوي الشكيمة وهو يمتطي صهوة جواده الأشقر، فسار حتى وقف على مقربة من معسكر العدو، ورأى آلة ضخمة يحركها جنود الأتراك، ولما سأل عنها قيل له إنه مدفع يطلق القذائف النارية، فلم يروعه ذلك أبداً، بل امتشق سيفه وأخرج رمحه وأقسم ليضربن ذلك المدفع؛ حتى إذا أصابه كان قسمته من الغنائم، وإن لحقه أذى سيترك وسمه على فوهة المدفع! وقد كان له ما أراد؛ فانطلق يدفعه الحماس الزائد دفاعاً عن أرضه ومسقط رأسه ومصدر رزقه وموطنه. لقي إبراهيم ود دير حتفه في تلك المعركة، غير المتكافئة، ونحتسبه عند الله شهيداً، حيث مزقت جسده العاري نيران الأتراك الطغاة، وخلف من بعده رجال ظلوا يذودون عن رمال بارا البيضاء والحمراء، ويحرسونها من كل باغٍ أو معتدي حتى يومنا هذا، ولم يغادروها ولم يهاجروا عنها قيد أنملة، بل دأبوا على حرثها وزراعتها على مر السنين، ولم ينازعهم أحد في ملكيتها على الإطلاق.
تلك الرمال البيضاء الناعمة تغطي مساحة من الأرض تقدر بما يقارب 50000 كيلومتراً مربعاً، وتكسو سطحها مادة لامعة فضية اللون يقال إنها السليكا أو السيلكون الذي يستخدم في كثير من الصناعات الإلكترونية المتطورة وغيرها من الصناعات الحديثة. والسيلكون عنصر كيميائي يصنف من أشباه الفلزات، وهو ثامن عنصر شائع في الكون، ولكن من النادر وجوده نقيًا في الطبيعة، وكثيرًا ما يكون مختلطًا بالرمال. ولدى عنصر السليكون تأثير كبير على اقتصاد العالم الجديد. ولعل هذا هو السبب الذي جعل بعض الشركات العملاقة، عابرة القارات، تتكالب على رمال بارا دون مراعاة لحقوق المجتمعات المحلية، ولا مراعاة لتأثير استخراج السليكون على البيئة المحلية ولا جغرافية المنطقة؛ لأن هؤلاء همهم الأول والأخير هو ما يدخل حساباتهم المصرفية من أموال طائلة؛ ولذلك لا ينظرون لإفريقيا عموماً، والسودان على وجه الخصوص، إلا باعتبارها مستودعاً كبيراً، ومشرع الأبواب لكل من هب ودب، وحدثته نفسه الشرهة بالثراء السريع حتى لو كان ذلك بنهب ثروات الشعوب، التي لا يزال يعتبرها غافلة، مثلما كان الحال في القرن التاسع عشر، عندما غزت أوروبا بلدان العالم الثالث، على حين غرة من أهلها وبنت مدنيتها وصناعتها، في المجلات كافة، باستخدام تلك المواد الخام التي تحصلت عليها مقابل لا شيء!   وكأن التاريخ يعيد نفسه، فثمة أناس يسعون للاستفادة من رمال بارا، وبعض المواقع الأخرى في بلادنا، وهم يهتبلون فرصة السيولة أو الميوعة السياسية التي يشهدها السودان في ظل الوضع القائم حالياً، للأسف الشديد.
عموماً، نحن لا نعترض على الاستثمار والاستفادة من مواردنا الطبيعية، سواء في ذلك المعدنية منها أو الزراعية أو غيرها، فهي كثر، ولكننا نعترض على طريقة التي تمت بها المقايضة، حسبما رشح في بعض الصحف المحلية. وإذا كانت الشركات، التي تنوي استخراج السليكون من رمال بارا، لا تدرك بعض الحقائق والواقع، أو أنها قد كانت ضحية لبعض “تماسيح السمسرة”، الذين لا يهمهم إلا ما يدخل جيبوهم من أموال طائلة، ولو كانت بشكل غير مشروع، دون مراعاة لمصالح الأطراف ذات الصلة، فإننا نود أن لفت أنتباهها أن المجتمع المحلي، الذي يقيم في المنطقة المعنية بهذا النشاط المزمع، مدرك تماماً لما تحوي أرضه من معادن وفلزات وخيرات كثيرة؛ ولذلك نعترض بشدة على التعامل بهذه الطريقة التي تنقصها الشفافية وتشوبها “الدغمسة” التي لا تفضي إلا إلى الفشل أو ربما إلى التصادم مع المجتمع المحلي.
يأتي هذا الكلام في وقت تتحدث فيه بعض المصادر الصحفية والإعلامية عن صفقة استثمارية أو بالأحرى مقايضة في مجال السيلكون مقابل بعض الخدمات مثل إدخال الطاقة الشمسية. ولكن يبدو أن الصفقة قد لا زمها قدر من الاستعجال وغياب المعلومة الصحيحة، ناهيك عن الدراسة المتخصصة من النواحي الجيولوجية أو دراسة الجدوى. مثل هذه المشاريع واسعة النطاق تحتاج لنقاش مستفيض من أطراف عديدة بحيث يطمئن كل طرف للإجراءات المتعبة والنتائج المرجوة.
هذه الأرض، ملك متوارث لأحفاد إبراهيم ود دير والفرسان، الذين رووا ثراها بدمائهم القانية دفاعاً عنها، بكل قوة واقتدار، وظلت هي مصدر الرزق الأول لأهالي المنطقة، وقد ارتبطوا بها وجدانياً، وعشقوها حتى تغنوا بها في اشعارهم وتراثهم. وقد ورث هؤلاء الأحفاد ضمن ما ورثوا من ذلكم النفر الكريم سيوفاً صوارماً، وعزماً لا يلين. ومن يريد التعامل معهم يجب أن يأتيهم من الباب ويبسط لهم أوراقه على الطاولة حتى يكون كل طرف على بينة مما له من حقوق وما عليه من واجبات والتزامات تعاقدية واجبة النفاذ والأداء. نحن نريد اعتراف الدولة بحق الأفراد والجماعات المحلية فيما يتعلق بحيازة بالأراضي واستخدامها، عبر رؤية تحقق التنمية والاستثمار والإعمار، وإلا فأرفعوا أيديكم عن رمالنا!
محمد التجاني عمر قش <[email protected]>
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..