عن الفارس المزيف الذي سرق عذرية الفتاة!
عبدالحميد البرنس


…
كان يتناول كأساً.
…
يقذف بمحتوى الكأس وعيناه مغمضتان في فمه. يُبقيه هناك لحظة. يهز بشدة رأسه ذاك حسن التكوين. ما يلبث أن ينفث آهة تنفرج معها عضلات وجهه المتقلّصة قليلاً. يفتح عينيه باحثاً عن سيجارته المشتعلة دوماً قبل أن يواصل ما انقطع من حبل الكلام بلذة. نادراً ما كان جمال هذا يصغي. شأن أولئك الأوغاد في كل زمان ومكان. إن فعل فيبدو كمن يتزود مكرهاً بوقود لا بدَ منه لمواصلة الكلام عن أمر آخر. حاسة الاستقبال لديه ضعيفة. ضعيفة جداً. جداً جداً. قال إن تناول الخمر على ذلك النحو بمثابة عادة لازمته منذ أن بدأ يتعرّف على الخمر لأول مرة عبر طعم العرقي المُر وهو في سنّ السابعة عشرة. لم يستطع الإقلاع عنها حتى بعد قدومه إلى كندا وحتى خلال بعض أمسيات القاهرة، حين كان بعض المسافرين يجلب معه “خمر الأسواق الحرة الراقية”. متهكماً على ذاته، قال: “ما قد رماه الله لا يرفعه أحد”!
…
“ثمة أساطير، لا حصر لها هناك، تُحكى، يا حامد والصيني، عن حبيبنا العرقي هذا”، قال جمال في هذه المرة ببهجة مغال فيها نوعا ما. وقال كذلك على طريقته الاستعراضية تلك عند بداية ذلك المساء: “خذا مثلا آخر هنا، يا الصيني وحامد”!
…
كان الرفيق منتصر جيفارا يبرهن في القاهرة على جبروت “حبيبنا العرقي هذا” بحركة ساحرة تصحبها في العادة صيحات سخط الجالسين من حوله على إهدار “نعمة المنفى المسماة العرقي”. كان جيفارا يسكب جرعة كبيرة من زجاجة العرقي على البلاط. يشعلها فترى ألسنة اللهب زرقاء خضراء صفراء ترتفع من البقعة المراقة للتو. لا تملك لحظتها سوى أن تردد في نفسك قائلاً: “رحم الله هذه السيدة التي تدعى في القواميس الطبية باسم المعدة”. كما لو أن معجزة سماوية تحدث أمامي. أخذ الصيني بغتة يشارك في الحوار، متخلياً عن تلك القواعد التدريبية الصارمة التي تتطلبها وظيفة ساق محترف في كندا. بدا صوته ربما لطول الصمت والإصغاء أشبه بمسار خطى طفل شرع للتو في المشي. قال إن العرقي في بعض مناطق السودان يتم استخدامه في حالة الطواريء كوقود للسيارة. لم ينتبه جمال لمعجزة كون الصينيّ شرع يتكلم. قطع عليه حبل الحديث، قائلاً “قد لا تصدقني يا رجل هنا! أنا لا أسكر إذا لم أتخيل طعم العرقي المرّ في فمي”!
أتصور أحياناً أن وظيفة مذيع نشرات أخبار وظيفة ملائمة لجمال جعفر هذا. من سوء تقدير كندا أن يكون جمال غاسلَ أطباق في مطعم سويس شاليه. مهنة قد لا تهب شيئاً من سعادة. إلا إلى أولئك الأشخاص من ذوي الحوارات الداخلية الصامتة الطويلة الممتدة. الصيني بدا لي بمثابة خيار موفّق لجمال كرفيق سكنَى. كان أشبه بصندوق ما ملائم لاستقبال خواطر رفيقه المختزنة طوال ساعات تلك الورديات الشاقّة. لعل ما يُبقي الصيني على صبره أن جمال ظلّ معظم الأحيان يدبج كلامه كخطيب سياسي سابق بالكثير من قصص مشاهير السياسة والثقافة، في ذلك الوطن البعيد النائي.
ما ظلّ يسمع عنه الصيني في الماضي بكثير من الرصانة في سياق إذاعة نشرات “هنا أمدرمان إذاعة جمهورية السودان الديمقراطية” إذا به يتحول في حكايات جمال عن القاهرة إلى شخص من لحم ودم. يركب الترماي كوزير سابق مع جمال في طريقهما إلى ميدان العتبة لشراء ما يسميه جمال “لوازم إنسانية”، كتلك الملابس الداخلية بنسيجها القطني من ماركة رويال. ظلّ يسعدني بدوري أن أنصت إلى تلك القصص ذات “اللوازم الإنسانية” الأكثر فرادة من نوعها. خاصّة أن ملابسات منفاي تلك في القاهرة كانت غير ملابسات منفى كادر الخطابة الجماهيري جمال جعفر هذا، تلك الملابسات المترفة بمنحة التفرغ للعمل الحزبي وإعانة شقيقه رئيس الخدم وقتها بقصر الأميرة جواهر آل عبد العزيز في جدة.
…
كان في حديثِ الزمان يا ما كان.
كان هناك وزير “ديمقراطي سابق”، “لا أريد ذكر اسمه”، “يعشق الرقص على الإيقاعات الغربية الصاخبة حد العبادة”، يقول جمال، لكن هذا الوزير ظلّ يخاف على صورته العامة أن تهتز أمام الجماهير، كان يفعل ذلك سرا أثناء تقلّده للوزارة، يقول لسكرتيرته العجوز المعينة من قبل الحزب الحاكم إن عليه أن يعمل في بعض الأوراق المتعلقة بأمن الوطن والمواطن قبل انعقاد مجلس الوزراء القادم، “لا زيارات اليوم”. كان يعطي أوامره لها بصوتِ مَن يهم بفتح ملف حدودي ما عالق مع دولة مجاورة. لتواضعه الجم، كان الوزير يتأكد بنفسه من إغلاق باب المكتب السميك المبطن بالقطيفة الخضراء، بعد أن يلتفت نحوها عبر الباب الموارب مشدداً على لهجته “تؤجل كل المواعيد المتعلقة بخصوص اليوم، يا أستاذة”. كان الوزير الراقص ينفق في الداخل ساعات طيبة من الطرب. المزاج معتدل، الهواية مشبعة، الصورة العامة مصانة. ما إن يغادر المكتب، وفي داخله رغبة في النوم بأسرع ما يمكن، حتى تبتدره السكرتيرة كما تفعل في أعقاب كل مرة يأخذه خلالها مزاج الرقص قائلة له بوجه جاد ونبرة رصينة متفهمة: “حفظكم الله يا سيادة الوزير لخدمة المواطن والوطن”.
