أهم الأخبار والمقالات

وزارة التعليم العالي: هل من رؤية جديدة تؤسس لإصلاحات جذرية لمكامن الخلل في أداء أجهزة الدولة؟

د. سليمان زكريا سليمان عبدالله

لن يجد المتابع لتطورات الأحداث في السودان كبير عناء في ملاحظة أن هناك فجوة ثقة بدأت تتشكل بين المواطن والحكومة، وذلك بسبب عدم تحقق العديد من الوعود الحكومية على أرض الواقع، لا سيما تلك المتعلقة بتحسين الأوضاع المعيشية للمواطنين، وتحقيق الأمن والاستقرار في ربوع الوطن المختلفة. فالمتابع للنقاشات الكثيفة التي تدور هذه الأيام حول أداء الحكومة، سيلاحظ تصاعداً واضحاً في مظاهر الإحباط، وخيبة الأمل لدى قطاعات واسعة من المواطنين الذين كان سقف توقعاتهم عالياً بأن تتمكن حكومة الفترة الانتقالية من إحداث التغيير الذي يلبي تطلعاتهم نحو حياة آمنة، ومستويات معيشية أفضل. 

ويبدو أن هذه الفجوة آخذة في الاتساع يوماً بعد آخر في ظل الأداء الراهن للحكومة ومؤسساتها التي ظلت تتبني العديد من التوجهات والبرامج في سياق غابت فيه الرؤية الاستراتيجية (الشاملة) للإصلاح، الأمر الذي جعل تلك البرامج محدودة النطاق والتأثير. ولعل من أهم الأسباب التي تفسر هذا الواقع هو أن الكثير من أجهزة الدولة ومؤسساتها تفتقر للقدرات المؤسسية والبشرية اللازمة لتطوير منظومة متكاملة من السياسات والاستراتيجيات التي من شأنها تقديم إصلاحات شاملة، تؤسس لمعالجات جذرية، وحلول مستدامة للتحديات والأزمات التي يواجهها الوطن في كافة المجالات. وقد أدى ذلك (ضمن أسباب أخرى عديدة) إلى أن تتعالى الكثير من الأصوات منادية بضرورة تصحيح/تغيير مسار الحكومة، وتقويم أداء مؤسساتها. 

في ظل هذه الأوضاع المتأزمة، أضحت هناك حاجة ماسة لتبني منهج جديد للإصلاح والتغيير يتجاوز كافة أنماط التفكير التقليدية، وكافة آليات إدارة الأداء (ضيقة الأفق وضبابية المقصد) التي ظلت تنتهجها العديد من الوزارات والمؤسسات الوطنية. وعلى وجه التحديد، نحن اليوم أكثر حوجة لمنهج إصلاح على درجة عالية من الكفاءة والفاعلية في مواجهة التحديات الوطنية، منهج قادر على إنتاج سياسات وطنية (بتوجهات سودانية خالصة) تقودها برامج وآليات تؤسس لمنظومة دولة المؤسسات في إطار من الشفافية، والوضوح، والأسس العلمية. 

لذلك، يحاول هذا المقال أن يطرح أحد الخيارات التي يمكن تبنيها للارتقاء بقدرات اﻟﻤﺆﺳﺴﺎت الوطنية في مجال صناعة اﻟﺴﻴﺎﺳﺎت والاستراتيجيات، يتمثل في إيجاد بيئة علمية حاضنة تمكن تلك المؤسسات من تبني سياسات وطنية متكاملة وفق رؤية استراتيجية مبنية على الأسس والأدلة والبراهين العلمية، وتأتي الجامعات ومراكز الفكر (Think Tanks) في طليعة المؤسسات التي تتوافر فيها متطلبات تلك الحاضنة، والتي يتمثل أهمها في القدرات المؤسسية والفنية، والكفاءات العلمية القادرة على الإنتاج المعرفي والعلمي الذي يمكن توظيفه لخدمة قضايا التنمية الوطنية. 

ويستند المقال على حقيقة مفادها أن هناك فجوة عميقة في التواصل والتفاعل بين الباحثين الأكاديميين، وصناع السياسات بالوزارات والمؤسسات الحكومية المختلفة. فمن جهة أولى يمكن القول أن الإنتاج البحثي للأكاديميين ظل قائماً على الجهود الفردية في سياق تحركه (بدرجة كبيرة) الدوافع الشخصية المتمثل أبرزها في الحصول على الترقية العلمية، الأمر الذي يجعل إنتاجهم البحثي حبيس الأروقة الأكاديمية، دون تحقيق التأثير المأمول على المستوى الوطني. في المقابل، مازالت أجندة أولويات صناع السياسات تخلو من الاعتراف الصريح بأهمية الإنتاج البحثي كأحد مرتكزات بناء منظومة السياسات والقرارات ذات الأبعاد الوطنية، وفي الغالب تغيب عنهم الإرادة، ويفتقرون للقدرات اللازمة لاستيعاب (أو يتجاهلون) الدور الذي يمكن أن يضطلع به الباحثون والأكاديميون في بناء تلك المنظومة.

لذلك، يتضمن هذا المقال تصوراً مقترحاً لتقليص تلك الفجوة، وفق رؤية وآليات جديدة يتم من خلالها نقل ﻨﺘﺎﺋﺞ الأبحاث والدراسات العلمية واﻟﻤﻌﺮﻓﺔ اﻟﻤﺘﻮﻟﺪة في اﻷروﻗﺔ اﻷﻛﺎدﻳﻤﻴﺔ، وتحويلها لمنتجات عملية (تطبيقية) تهدف لتحقيق أكبر قدر ممكن من التأثير في محتوى السياسات والقرارات التي تتبناها المؤسسات الوطنية. وتتمثل الفكرة الأساسية للتصور المقترح في أن تقوم وزارة التعليم العالي والبحث العلمي بإطلاق مبادرة: (البرنامج الوطني لدعم منظومة صناعة السياسات الوطنية). يتم تصميم هذا البرنامج ليؤسس لعلاقات تفاعلية مستدامة تحقق التقارب بين منتجي الأبحاث العلمية بمؤسسات التعليم العالي، وصناع السياسات بالمؤسسات الوطنية المختلفة. 

من المتوقع أن يحقق البرنامج المقترح العديد من الفوائد، من أبرزها أنه يمكن الوزارات والمؤسسات الحكومية من صنع سياسات وطنية مستندة على الأدلة العلمية، وفق إطار منهجي متكامل، يتضمن كافة المراحل التي تمر بها دورة السياسة والمتمثلة في: تحديد أولويات السياسة/المشكلة أو القضية محل السياسة، بلورة السياسة وطرح الخيارات/البدائل وتحديد الأهداف التي تسعي السياسة لتحقيقها، الإجراءات التنفيذية للسياسة، متابعة وتقييم السياسة. ومن مميزات البرنامج المقترح أنه سيضيف بعداً جديداً لتفاعل مؤسسات التعليم العالي مع التحديات والقضايا الوطنية، يتمثل في تبني ﻣﻮﺟﺰ اﻟﺴﻴﺎﺳﺎت (Policy Brief) كآلية يمكن توظيفها لتكييف مخرجات الأبحاث والدراسات العلمية على نحو يتوافق مع متطلبات واحتياجات صناعة السياسات بالمؤسسات الوطنية المختلفة. 

وموجز السياسات المتوقع تبنيه في البرنامج المقترح هو (ببساطة) عبارة عن وﺛﻴﻘﺔ ﻋﻠﻤﻴﺔ مختصرة تتناول مشكلة أو قضية ذات أبعاد وطنية، يتم فيها طرح مجموعة من السياسات والتوصيات العملية (القابلة للتنفيذ) والبدائل الممكنة لمعالجة تلك المشكلة أو القضية. وسيتم تصميم موجز السياسات بطريقة احترافية ﺗﻠﺨﺺ ﺗﻘﺮﻳﺮ بحثي معمق، أو دراﺳﺔ ﻋﻠﻤﻴﺔ، أو ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻟﺘﻘﺎرﻳﺮ البحثية ذات الصلة، ويكون ذلك من خلال استخدام لغة واضحة ومباشرة (تخلو من المصطلحات الفنية المتخصصة)، وﺑﺄﺳﻠﻮب ﻳﺴﻤﺢ ﻟﺼﻨﺎع السياسات واﻟﻘﺮارات بالوزارات والمؤسسات الحكومية المختلفة اﺳﺘﻴﻌﺎب ﻣﺤﺘﻮى اﻟﺘﻘﺮﻳﺮ البحثي أو اﻟﺪراﺳﺔ العلمية دون اﻟﺤﺎﺟﺔ للاطلاع على كافة اﻟﺘﻔﺎﺻﻴﻞ الفنية واﻟﻤﻨﻬﺠﻴﺔ التي يتبناها الباحثون والأكاديميون في تنفيذ تلك التقارير والدراسات.

من المهم الإشارة إلى أن موجز السياسات أضحى اليوم أحد أهم الآليات التي تعتمد عليها الحكومات في العديد من دول العالم ﻓﻲ ﻣﺠﺎل ﺻﻨﺎﻋﺔ اﻟﺴﻴﺎﺳﺎت، خاصة في ظل تزايد التحديات التي تواجه ﺗﻠﻚ اﻟﺪول في مختلف مجالات الحياة. وتعتبر ﻣﺮاﻛﺰ اﻷﺑﺤﺎث، واﻟﻤﻌﺎﻫﺪ اﻟﻤﺘﺨﺼﺼﺔ من أشهر اﻟﻤﺆﺳﺴﺎت إﻧﺘﺎﺟﺎً ﻟﻤﻮﺟﺰ اﻟﺴﻴﺎﺳﺎت، والتي منها على سبيل المثال، ﻣﻌﻬﺪ ﺑﺮوﻛﻴﻨﻐﺰ (Brookings Institution)، مؤسّسة كارنيغي للسلام الدولي ﻓﻲ اﻟﻮﻻﻳﺎت اﻟﻤﺘﺤﺪة، اﻟﻤﻌﻬﺪ اﻟﺪوﻟﻲ ﻟﻠﺪراﺳﺎت اﻻﺳﺘﺮاﺗﻴﺠﻴﺔ (IISS) ﻓﻲ ﺑﺮﻳﻄﺎﻧﻴﺎ، وﻣﻌﻬﺪ ﺳﺘﻮﻛﻬﻮﻟﻢ ﻷﺑﺤﺎث اﻟﺴﻼم (SIPRI) ﻓﻲ اﻟﺴﻮﻳﺪ، مركز السياسات العامة في الشرق الأوسط التابع لمؤسسة (RAND).

 أما في سياق المؤسسات الأكاديمية، فالأمثلة عديدة، نذكر منها: مركز (بلفير) للعلوم والشؤون الدولية التابع لجامعة هارفارد، ومركز الدراسات والبحوث الدولية التابع لمعهد العلوم السياسية في جامعة السوربون. وعلى المستوى الاقليمي ﻳﻤﻜﻦ الإﺷﺎرة إلى ﺗﺠﺮﺑﺔ ﺟﺎﻣﻌﺔ ﻗﻄﺮ، ﺣﻴﺚ ﻳﻘﻮم ﻣﻌﻬﺪ اﻟﺒﺤﻮث اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ واﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ اﻟﻤﺴﺤﻴﺔ اﻟﺘﺎﺑﻊ ﻟﻬﺎ ﺑﺎﻧﺘﺎج اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﺒﺪاﺋﻞ واﻟﺨﻴﺎرات اﻟﺘﻲ ﺗﺪﻋﻢ ﻋﻤﻠﻴﺎت ﺻﻨﺎﻋﺔ اﻟﺴﻴﺎﺳﺎت ﻓﻲ دوﻟﺔ ﻗﻄﺮ، وﺗﺠﺮﺑﺔ ﻣﻌﻬﺪ ﻋﺼﺎم ﻓﺎرس ﻟﻠﺴﻴﺎﺳﺎت اﻟﻌﺎﻣﺔ واﻟﺸﺆون اﻟﺪوﻟﻴﺔ ﺑﺎﻟﺠﺎﻣﻌﺔ اﻷﻣﺮﻳﻜﻴﺔ ﻓﻲ ﺑﻴﺮوت.

وﻓﻲ السودان، ﻓﺈن اﻟﻤﺘﺎح ﻣﻦ ﻣﻌﻠﻮﻣﺎت ﻳﺸﻴﺮ إﻟﻰ أن المؤسسات الوطنية (بما فيها ﻣﺆﺳﺴﺎت اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ اﻟﻌﺎﻟﻲ) ﻟﻢ ﺗﺸﺮع ﺑﻌﺪ ﻓﻲ إﻃﻼق ﻣﺜﻞ ﻫﺬا اﻟﻨﻮع ﻣﻦ أدوات صناعة اﻟﺴﻴﺎﺳﺎت، وﻫﺬا ﻣﺎ ﻳﺆﻛﺪ ﻋﻠﻰ أﻫﻤﻴﺔ تبني اﻟﻤﺒﺎدرة اﻟﺘﻲ يطرحها هذا المقال. ومن المؤكد أن نجاح الوزارة في إﻃﻼق ﻤﺒﺎدرة ﻣﻮﺟﺰ اﻟﺴﻴﺎﺳﺎت (في سياق البرنامج الوطني المقترح) ﺳﻴﻌﺰز ﻣﻦ ﺟﻬﻮدها ﻓﻲ ﺗﻮﻇﻴﻒ اﻟﺒﺤﺚ اﻟﻌﻠﻤﻲ ﻟﺨﺪﻣﺔ قضايا التنمية الوطنية في سياق جديد مرجعيته التكامل بين جهود الوزارات والمؤسسات الوطنية المختلفة.

تتم إدارة البرنامج المقترح عبر هيئة البحث العلمي والابتكار بالوزارة، وتتمثل أولى خطوات إطلاق البرنامج في تطوير إطاره المؤسسي، على أن يتضمن ذلك تشكيل لجنة استشارية (دائمة) تتولى إدارة كافة الجوانب الفنية والعلمية المتعلقة بإصدار موجز السياسات، والتي يتمثل أهمها في بناء قدرات ﻣﻨﺴﻮﺑﻲ مؤسسات التعليم العالي ﻓﻲ ﻣﺠﺎل ﺻﻴﺎﻏﺔ ﻣﻮﺟﺰ اﻟﺴﻴﺎﺳﺎت، وﻧﺸﺮ اﻟﻮﻋﻲ ﺑﺄﻫﻤﻴﺔ مشاركة أعضاء هيئة التدريس والباحثين في هذا المجال، ومن أهم الخطوات في هذا السياق، أن يتم إﺻﺪار دﻟﻴﻞ استرشادي/مرجعي (دليل إعداد ﻣﻮﺟﺰ اﻟﺴﻴﺎﺳﺎت)، والعمل على إتاحته لكافة منسوبي مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي. ومن الإجراءات المهمة التي يتوجب تبنيها، أن تعمل الوزارة على خلق قنوات تواصل، وايجاد شراكات فاعلة مع الوزارات والمؤسسات الوطنية المختلفة، يتم من خلالها التوصيف الدقيق للأولويات والقضايا ذات الأبعاد الوطنية والتي يتم على أساسها إصدار موجز السياسات. 

وأخيراً، لا يدعي هذا المقال أن الفكرة المطروحة قد لامست كل التفاصيل المطلوبة لتفعيل دور مؤسسات التعليم العالي في الارتقاء بمنظومة صناعة السياسات الوطنية التي يجب تبنيها لمواجهة التحديات والأزمات التي يواجهها الوطن، إلا أنها تمثل محاولة علمية جادة تتضمن بعض العناصر التي يمكن التأسيس عليها، إن توافرت الرغبة لدى الوزارة في تبنيها ضمن مجموعة آلياتها الموجهة لخدمة قضايا التنمية الوطنية. ومن المهم الإشارة إلى أن إطلاق البرنامج الوطني (المقترح) يتطلب أن تقوم الوزارة (عبر هيئة البحث العلمي والابتكار) بتصميم التصور المقترح بكافة التفاصيل والإجراءات التنفيذية المطلوبة، ومناقشته على نطاق واسع مع كافة الأطراف والجهات ذات العلاقة، تمهيداً لإطلاقة في أقرب وقت ممكن.

وفقنا الله وإياكم لما فيه خير البلاد والعباد

د. سليمان زكريا سليمان عبدالله – جامعة السلطان قابوس (سلطنة عمان)
[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..