مقالات وآراء سياسية

قبل أن يجتاح الطوفان كل أخضر  ويابس

عبدالدين سلامه

معظم الحضارات والدول والمجتمعات يبدأ موتها أو هزيمتها بالصغائر قبل الكبائر ، فإهمال السواك تسبب في هزيمة جيش من قبل ، والكنداكه عجوبه تمكنت وحدها من خراب سوبا وصارت مثلا يضرب  ، والأمثلة تتعدد ، والتفاتنا لأزماتنا الكبيرة كأزمة الوقود والخبز وغيرها ، أنستنا الأسباب التي نراها صغيرة ولكنها أشد فتكا بحاضر ومستقبل بلادنا من تلك الكبيرة التي ستجد طريقها للحل طال الزمن أوقصر ، ومن أبجديات تعريف الفرق بين الهاوي والمحترف أن الأخير يركز على أدق وأصغر التفاصيل ويهملها الأول ، وقد شهدت بنفسي في آخر مؤتمر للإعلاميين السودانيين بالخارج تم عقده في الخرطوم قبل سنوات ، أن المعرض الذي تم تنظيمه بقاعة الصداقة لرسامي الكاريكاتير وقصاصات مختارة من الصحف ، كان القائمون عليه يعملون على عجل قبل آذان الفجر لافتتاحه عند الصباح ، وكان المعرض مذهلا في الترتيب ، غير أن المنظمين نسوا إحضار الدبابيس والمسامير التي يتم عبرها تثبيت المعروضات ، وكاد المعرض يفشل لولا أن أحد الزملاء القادمين من الخارج كان يحمل في معيته قليل صمغ أنقذ الموقف .
حاليا تعاني بلادنا من ذات الشيء، فالكل يهتم بالأشياء الكبيرة الظاهرة وينسى الصغيرة ، فدولة مايسمى بالدعم السريع المتمددة في دولتنا ( تفلق وتداوي ) وتتصرف بوقاحة وغرابة وهيمنة ، فتضرب النساء وتحلق الرؤوس وتلهب أجساد شبابنا اليافعين بسياطها التي لم تفارقها منذ أن كانت الحارس الامين للنظام البائد الذي أوجدها من العدم ، وبكل ( قوة عين ) تعتذر ، بل ويهلل الناظرين للأمور بسطحية لنهجها في الاعتذار وتشكيل محاكمة عسكرية سريعة لمن سمّته بالمتفلت ناسية أن القوات كلها قامت على قاعدة التّفلّت الذي يشكّل جيناتها الأٍساسية ، فمافعلته قوات الدعم السريع يستوجب الاستنكار ، وماقامت به بعد الضغوط الاعلامية لايستوجب الشكر بل يستوجب مزيدا من الاستنكار في وطن أراد ثائروه أن يبنوه وطن حرية وسلام وعدالة وقانون ، فتشكيل قوات الدعم السريع لمحكمة ليس من صميم اختصاصاتها ، والقضاة الذين نصّبتهم لمحاكمة متفلّتها ليسوا قضاة تعترف بهم الدولة ولا القانون الذي تمت به المحاسبة هو قانون دولتنا ، على الأقل ولحفظ ماء وجه جيشنا ، كان من المفترض أن يقوم الجيش بتشكيل المحكمة ومحاسبة المفسد طالما أنه يحاول جاهدا إقناعنا بانتماء الدعم السريع له ، ولست أدري لماذا تنفق الدولة على المحاكم ورواتب القضاة ودعم الكليات القانونية في الجامعات لو كانت كل قوة نبتت شيطانيا كما الدعم السريع ترتكب الجرائم وتنفذ ماتراه قانونا وعدالة ّ، وماعلاقة طالبنا المعتدى عليه أو مذيعتنا التي تم تصفيعها بالمحاكم العسكرية للدعم السريع ، ولماذا لاتتم محاكمة العسكري الذي يعتدي على مدني في المحاكم المدنية التي مهما اختلفنا حول أداءها ، فإننا واثقون من كفاءة مسؤوليها وعلاقتهم الحقيقة بدراسة القانون وتطبيقه .
نفس الصغائر الانصرافية شهدناها في التعليقات الساخرة التي ملأت الأسافير على ملابس وزيرة المالية ، متناسين أنها في خاتمة الأمر امرأة كغيرها من النساء يحق لها أن  تتزين وتظهر في أبهى حلّة ، فاحتفال التحاصص تنقله مختلف قنوات التلفزة السودانية وغير السودانية ، ولا أظن بأن أحد المنتقدين سيسعد لرؤية صورة وزيرة سيادية تمثل موطنه في وسائل الاعلام العالمية بصورة مزرية أو مهينة ، ولماذا لم يتم انتقاد اناقة المطربات والمذيعات وغيرهن من نجمات الواجهة ؟؟ وكان الأمر سيكون أكثر منطقية لو جاء التعليق على ساستنا الذين شهدوا التوقيع الذي اعتبروه إنجازا وطنيا وهم يرتدون أحدث ماركات البدل الأفرنجية في وقت يقف فيه إخوتهم الآخرين الذين شهدوا الإحتفال من خليجيين وأفارقة كلّ بزيّه الوطني الذي يعتز به ، ولو كان القائمون على الأمر يهتمون بالتفاصيل لماسمحوا لشخصية لاترتدي الزي القومي بتوقيع اتفاق يخص الوطن ، فللزي دلالاته في مثل هذه المواقف كما تقول علوم كتابات السيناريو ، وزينا الوطني لايقل جمالا عن أي زي مثيل .
ويظل توقيع سلام جوبا معاقا وناقصا ، لأن المتفقين ومعهم الوساطة انشغلوا بتفاصيل تقسيم كعكة الثروة والسلطة والأضواء عن إشراك شباب ممثلين للثورة في هذا الاتفاق مثلما حدث في الوثيقة الدستورية المعيبة وغيرها من الاتفاقات السرية المهينة التي يسربها الاعلام بين وقت وآخر ، وانزعاجهم من غياب عبدالواحد والحلو وليس غياب الشباب الذين لولا صدورهم العالية وشهداءهم البررة لما كانت هذه البهجة الأشبه برقصة الزنوج في دائرة حول الضحية .
إنشغالنا بأزماتنا الكبيرة يجب أن لاينسينا مانراها صغائر وهي كالسرطان تنمو وتكبر دون أن نحس بها حتى تتمكن منا وتقضي على الأخضر واليابس ويستحيل علاجها ، فعدم ثقة الشعب في قدرة قادة الحركات الموقعة على إدارة وطن بحجم السودان ، تحتاج من الموقعين الكثير من الجهد لاثبات العكس وليس مطالبات بتغيير اسم اقليم دارفور لأنه يرمز لمكون واحد من مكوناتها ، ولا رهن التفاوض بخطط جديدة أو تغيير اشخاص ، ولا بتلك ( الجقلبة ) الاعلامية التي تنتقد بلا عقل ومنطق فقط من اجل الانتقاد والاضواء.
بلادنا تحتاج الكثير والثورة تحتاج ثورة على مانراها صغائر قبل أن تكبر ويجتاح طوفانها كل أخضر ويابس
وقد بلغت
عبدالدين سلامه <[email protected]>
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..