“من عبقريات “الحوار” !!”

علي يس
“عبد الله جربوكس” كان هو “اللص” الوحيد ، والحَصريّ ، لقرية (عَجَل حديد)، تلك القرية الوادعة ، التي يحكمها العمدة “حاج الأمين” بمعونة خمسة خفراء مسلحين بأحدث أنواع “العكاكيز” ، و يتولّى هموم الوزارة فيها شيخ البلد – فكي أبكر- بجانب وظيفته كإمام لمسجدها الوحيد ، و مأذون للقرية …
** ولو أن الأمور كانت قد سارت على هذا النحو ، لما احتجنا إلى كتابة هذه الكلمة ، ولكن الأمور لم تسر على ما يرام .. استجدت أحداث عاصفة بقرية (عَجَل حديد) ، كان أخطرها ظهور “لص” منافس لعبد الله جربوكس ، اسمه “كتينة” ، شكل ظهوره المفاجيء صدمة و تحدياً صارخاً لجربوكس في عقر داره، فأقسم على تأديبه و جعله أضحوكة “للحرامية”
** المعركة بين اللصين اتخذت شكلاً حضارياً .. كل منهما تمكن من بث “عميل مزدوج” أو أكثر، بين مساعدي اللص الآخر ،حتى يزوده بأسرار غريمه ، وخططه و مشروعاته ، ومن ثم محاولة الإيقاع به.. و يبدو أن مخططات زرع العملاء نجحت لدى اللصين ، يؤكد ذلك ما جرى بعد ذلك للعمدة..
** العمدة ، حاج الأمين ، الذي كان يعاني – إلى حد الإحباط – من شكوى المواطنين المتكررة من السرقات الليلية ، سرقات أمتعة و محاصيل و أغنام و أموال و غيرها ، فيقف حائراً بإزائها دون أن يملك شيئاً سوى تكليف “شيخ الحلة” فكي أبكر – تكليفاً رسمياً – بدعاء الله سبحانه و تعالى ، عقب الصلوات، بأن :( يكفينا شر طوارق الليل والنهار ،وشر الحرامية ) – و كان “فكي أبكر” يبذل جهداً مقدراً في إنجاز التكليف المسند إليه من حضرة العمدة – حاج الأمين هذا ، أصبح ، فجأة ، يتلقى هواتف ليلية ، عبر تلفونه الحكومي ، بعد صلاة العشاء مباشرة.. يقول فيها محدثه من الطرف الآخر (والذي يعرّف نفسه ، دائماً، بأنه “فاعل خير”) أن هنالك “حرامية” يخططون لكسر دكان “حاج الطاهر” هذه الليلة عند الثانية صباحاً.. أو أن هنالك لصاً ينوي التسلل هذه الليلة إلى “زريبة” الحاجة سكينة ، وسرقة عنزتها الوحيدة ، أو أن مخازن “حاج النعيم – سر التجار – سوف تتعرض للسطو في الثالثة صباحاً..!!
** حاج الأمين تجاهل المكالمة الأُولى، التي حدثته عن احتمال كسر دكان حاج الطاهر، لأنه تصور أن محدثه عبر الهاتف مجرد “مطموس” من مطاميس القرية يريد السخرية منه ، ولكنه فوجيء بحاج الطاهر صباح اليوم التالي ، يبكي و يشكو كيف أن الحرامية كسروا دكانه و لم يتركوا له “التكتح”..!!.. بعدها لم يتجاهل حاج الأمين أية إخبارية تالية ، من تلك الإخباريات الهاتفية، التي حدثه قلبه أنها صادرة عن “بوليس سري” ربما تكون “الحكومة” قد أرسلته لمساعدته ، بعد تكاثر أخبار السرقات في قرية “عَجَل حديد”!!..
** ظل حاج الأمين بعدها ، كلما أخبره الهاتف بخبر سرقة محتملة ، بعث بخفرائه مدججين بعكاكيزهم إلى الموقع المحدد، و يوصيهم بعمل “كمين” محكم ، وعدم العودة إلاّ و “الحرامي” معهم.. ولم يخيبوا أمله بعدها أبداً..كانوا يأتونه مع الفجر، دائماً، يدفعون أمامهم لصاً مقيد اليدين، وهم يعتذرون للعمدة بأن :( البقية لاذوا بالفرار.. ولكن أفشلنا محاولة السرقة ..)
** خلال خمسة أشهر متتالية ، كانت مجالس أهل حِلّة “عجل حديد” عامرة بالحديث عن إنجازات العمدة و خفرائه الحاذقين ، والتي تمثلت في إفشال جميع محاولات السطو الليلي، والقبض على اثني عشر “حرامي”..ولكن المنصفين لم ينسوا دور فكي أبكر ،الذي كان ،بدوره، سعيداً أن استجاب الله دعواته وكفى القرية شر طوارق الليل من اللصوص..
** كان في الحِلّة رجلان فقط يعلمان أن الحرامية الأثني عشر هؤلاء ، نصفهم من رجال “جربوكس” ، ونصفهم الآخر من مساعدي “كتينة”..هذان الرجلان هما عبد الله جربوكس و كتينة، اللذين كان كل منهما يبلغ العمدة هاتفياً عن عمليات الآخر!!
** ثم انقطعت الهواتف عن العمدة لشهرين متتاليين، نعمت خلالهما القرية بالأمن، واستوعب خلالهما كل من جربوكس و كتينة درساً كانا بحاجة إليه، قبل أن يغيرا اتجاه المعركة..
** في منتصف الطريق بين بيت جربوكس و بيت كتينة ، التقى الرجلان، وقررا التصالح و العمل معاً..
** في الليلة التالية ، وما تلاها من ليال ، ظل العمدة يتلقى الهواتف من جديد، هواتف تحدثه عن سرقات ستحدث الليلة ، وظل يبعث بخفرائه المدججين بسلاحهم و ذكائهم ، إلى المكان و الزمان المحددين ،ليعودوا إليه فجراً و ليس في يدهم شيء ، بينما يأتي إليه عند الصباح من يخبره بحدوث سرقتين ، في مكانين مختلفين ..
** بعد عام واحد ، كان “عبد الله جربوكس ” قد أصبح هو العمدة الجديد لحلة “عجل حديد”، وكان شيخ البلد هو “كتينة”، وكانا قد أسسا شركتين تعملان في مجال واحد، وقد علمتهما صروف الدهر حكمة تقول :”إذا اختلف اللصان ، ظهر المسروق”..فاتفقا، ولم يسمحا للخلاف أن يدُبَّ بينهما بعدها..
لا فض فوك الاستاذ/علي يسن ، هذا هو واقع الحال اليوم.
ونسأل الله ان يهيء للسودان وأهله من امرهم رشدا.