مقالات سياسية

إتفاقية جوبا .. من مأمنه يٌؤْتى الحذِر

عباس فوراوي

تحدث سعادة رئيس الوزراء عبدالله حمدوك أثناء احتفال توقيع اتفاقية جوبا بجوبا ، يوم 3/10/2020 بين جماعة الحكومة الانتقالية ، وبعض الحركات المسلحة بدارفور ، وجنوب النيل الأزرق ، فقال بالنص ( اتفاقنا اليوم ليس معاهدة لاقتسام السلطة والثروة ) واضاف في فقرة أخرى ( الإتفاق الذي وقع في جوبا اليوم بين الحكومة الانتقالية ، وحركات الكفاح المسلح، صفحة جديدة لنهضة السودان ) .. حسناً ، لقد طالعنا هذه الاتفاقية المكتوبة والموقعة ، ولاحظنا اكتناز نصوصها بالمحاصصات المخلة ، وتوزيعات السلطة والثروة غير المتوازنة ، على حساب كل أقاليم السودان الأخرى ، التي ما انفكت تدفع ثمن هذه الحروب العبثية ، وتداعياتها ، منذ أمد ليس بالقريب ، حيث اتضح أن لا فكاك من الاستمرار في هذا الاستنزاف لعشرات السنين القادمات ، وفي ظل أوضاع سياسية ، واقتصادية ، واجتماعية ، وأمنية ، حرجة ومتردية ، ويكابد مراراتها كل الشعب السوداني !! اذا كانت هذه الاتفاقية ليست لاقتسام السلطة والثروة ، فلأي معنى ترمي العبارة النصية الواردة في صلب الاتفاقية ، والقائلة بتقسيم السلطة في اقليم دارفور وحده ، لتكون 40% لمكونات مسار دارفور ، و30% الحكومة الانتقالية ، و 10% الحركات الأخرى الموقعة ، و20% لأصحاب المصلحة حيث لا يعلم أحد من هم أصحاب المصلحة الحقيقية في هذا الاتفاق !! كما نصت قسمة السلطة على تعيين ابناء دارفور بقرار سياسي ، خلال 45 يوم في خُمس الوظائف العليا ، والوسيطة “20%” (وكلاء الوزارات، السفراء، الجهاز القضائي، البنوك، مجالس ادارات الشركات..الخ) ، إضافة لتعيين 20% من أبناء دارفور في السلطة القضائية، وكذلك تخصيص 15% من التخصصات الطبية والبيطرية والهندسية والإنتاج الحيواني، المختبرات الطبية، الصيدلة وغيرها لأبناء دارفور لمدة 10 سنوات. وكذلك نصف مقاعد جامعات دارفور لابنائها لنفس المدة ، وأيضاً تخصيص 40% من عائدات دارفور لصالح الإقليم لمدة 10 سنوات ، إضافة لحصة دارفور من الموارد القومية، تلتزم الحكومة بدفع مبلغ 750 مليون دولار أمريكي لمدة عشر سنوات ، وتلتزم الحكومة بتنفيذ مبلغ 100 مليون دولار خلال شهر من تاريخ 3/10/2020 ، وكل ذلك خلاف دمج قوات الحركات المسلحة في الجيش والأمن والشرطة وما يتبع ذلك من التزامات مالية وأعباء ادارية ضخمة ، حيث لم نلحظ أي اشارة لكفاءة او تأهيل ، ويأتي رئيس الوزراء ليقول لنا بعد كل هذا ، أن هذا الاتفاق ليس معاهدة لتقسيم الثروة والسلطة !!! .. لم يقف الأمر عند هذا الحد بل منحت الاتفاقية سلطات نوعية خطيرة من ذوات الخطوط الحمراء ، باعطاء مناطق جنوب النيل الأزرق ، وجنوب كردفان وأجزاء من غرب كردفان حكماً ذاتياً ، في أسوأ استنان لحقوق وهمية مصطنعة ومدعاة ، ترمي جميعها لتفتيت الوطن ، وبعثرة أوراقه وتشتيت شمله .. لن نتحدث بالطبع عن أنصبتهم المخصصة لهم في مجلس السيادة ومجلس الوزراء والمجلس التشريعي القومي ، حتى لجان إزالة التمكين والمفوضيات ، وكل ما من شأنه تمكينهم من تمرير الاتفاقية بحذافيرها ، بجانب رفقائهم ، الذين أصلاً يحتكرون مناصب الوزراء ، وبعض المناصب الحساسة في الدولة ، وكل هذا يحدث في تغييب مخل ومقصود ، لحقوق الأقاليم الأخرى ، ومكونات مجتمعاتها المختلفة ، بما فيهم حملة السلاح الآخرين الذين لا يزالون ينتظرون حظوظهم ، لابتلاع ما تبقى من السلطات والثروات ، وفق شروطهم التي منها تقرير المصير ، وفصل الدين عن الدولة .
رئيس وزراء الفترة الانتقالية يصف هؤلاء المتمردين الآيبين ، بحركات الكفاح المسلح ، ماسحاً بالأرض كل مجهودات ، ونضالات أفراد القوات المسلحة والنظامية الأخرى ، الذين قاتلوا هذه الحركات المسلحة ، وتصدوا لها كواجب وطني وقانوني ودستوري ، بل لم يتكرم أحد من خطباء ذلك اليوم ، بأي اشارة ايجابية نحوهم . نعم .. لدينا قناعات راسخة بأن كل روح أزهقت هناك – نظاميين ومتمردين وأبرياء – تشكل خسارة فادحة للوطن بحسبان أن الضحايا سودانيون ، وأن كل من أصابته حية الحرب ، يجب أن يتم تطبيبه وتعويضه ، والمساهمة في استقراره في دياره ووسط أهله ، وأن كل من فقد وسائل كسبه المعيشية أن تسعى الدولة لخلق فرصة عمل له حسب امكانياته ومؤهلاته ، وأن تسعى الدولة جادة في تهيئة البيئة الصحية ، والتعليمية المناسبة في مناطق الحرب القديمة حتى يتساوى الجميع في نيل الخدمات ، بمختلف أنواعها بمثلما هو متوفر ، ومتاح في الأقاليم الأخرى ، بلا تمييز مخل .
لقد وقفت كثيراً ، ومستغرباً أيضاً عند تصريح الفريق حميدتي في جوبا ، الناعت للمتمردين بقوى الكفاح المسلح والقائل بالنص ( التفاوض بين الحكومة وقِوى الكفاح المُسلّح نجح لأنّ بدايته كانت مُوفّقة، وقال “نجحنا في الوصول للسلام لأننا بدأنا التفاوض كإخوان وليس أعداء” … إذاً فهذا ليس اتفاقاً ، وإنما توافق بين توأمين هما الحكومة الانتقالية، والحركات المسلحة ، أو الجبهة الثورية ، فهما يتشابهان في كل شئ ، وينحدران من صلب واحد ، ولذا افتقرا لفضيلتي الحياد الموضوعي ، والرؤية العميقة ، وكان الأجدى ترك الأمور لحكومة منتخبة وبرلمان منتخب قادم ، فهما ليسا أكثر من أحمد وحاج أحمد ، حيث تعوزهما القراءة الصحيحة ، والناجعة ، والاستراتيجية لجذور المشكلة السودانية ، وتعوزهما الرؤية الثاقبة للحلول المتكاملة ، ولذا مشطا رأس المشكلة بقملها بكل أسف ، وبالتأكيد ستكذب الغطاسَ الميةٌ ، بمجرد الشروع في تنفيذ بنود هذه الاتفاقية المخجلة وغير المسنودة !!… لم يتخلف صديقنا المكافح الفندقي محجوب حسين عن الركب المعوج فصرح قائلاً ( على الشعب السوداني أن يعي أننا لا نتحدث عن فوائد مادية من هذه الاتفاقية ) .. لا بالله !!! هل أردت أن تتذاكى على الشعب السوداني ، وتوهمه بأن فوائد الاتفاقية هي فوائد أخروية ، سيجني الناس ثمارها يوم البعث والنشور ، أم تعتقد أنك تخاطب شعباً من أصحاب القنابير ؟!!.
واخيراً :
اطلعت على حوار عبدالواحد نور رئيس أحدى الحركات المسلحة الدارفورية مع صحيفة الشرق الأوسط ، وأرجو أن يكون صادقاً ، في رؤيته للمشكلة السودانية وأسباب حلها جذرياً ، ولعله قد صدق حين قال معلقاً على اتفاق جوبا وبالنص ( إن اتفاق السلام الذي وقع في جوبا عاصمة جنوب السودان، بين الحكومة السودانية، والجبهة الثورية التي تضم عددا من الحركات المسلحة سيعمق الأزمة ولن يحلها ) .. وعدَّ الاتفاق بأنه «اتفاق محاصصة» ولم يخاطب جذور الأزمة. ) … من جانبنا فان السعادة والرضى يحفانا من كل جانب ، بايقاف الحروبات في كل المناطق الملتهبة ، وتفرحنا عودة كل اللاجئين والنازحين لأوطانهم وديارهم ، وتعويضهم ما فقدوه ودعمهم من أجل الاستقرار ، وفقاً للمعقول ، أما أمور توزيع الثروة والسلطة في السودان ، فلا تتم بمثل هذه الاتفاقيات المختلة ، والتي لن تنتج سوى مزيداً من الحروب والمظالم ، وبالتالي لن يجني السودان منها شيئاً سوى التفكك والدمار ، وارتفاع ضغط المظالم للآخرين . على الناس الواعية أن تستبين الخطر الذي يكمن في نصوص هذه الاتفاقية ، ولا يركنوا لتصريحات المسؤولين المضللة فالتجارب التاريخية أثبتت المقولة الصائبة ( من مأمنه يؤتَى الحذِر ) وما أسوأ أنواع الأفعال التي تصيب الناس في مقتل في حين كان الظن أنهم في مأمن وطمأنينة .
عباس فوراوي
4/10/2020
عباس فوراوي
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..