مقالات سياسية

في حضرة الشيخ الجليل نور الله الأنصاري

عبدالحميد البرنس

عند إحدى نواصي تقاطع شارعي سيرجنت وتورنتو، كان هناك ملهى ليليّ أغلقت أبوابه إلى حين انتهاء تحقيقات ما جنائية!

ذلك ما تناهى إليَّ أول عهدي بالمكان.

مرأى الأماكن المهجورة ظلّ يثير في نفسي على الدوام شعوراً غامضاً لمعايشة ما لم أكن عايشته. لكأن حياة واحدة لا تكفي.

كان الملهى يقع قبالة بقالة الزوجين الأثيوبيين المبتسميين دوماً، التي دلفنا إليها أنا وأماندا ذلك النهار لشراء علبة سجائر وبعض الأطعمة المُسكِّنة للحنين. “كيف تأكل مثل هذه الأشياء”، سألتني أماندا مستنكرة عند عتبة باب المحل المرتفعة، بينما نهبط عائدين إلى الشارع. والشارع يستقبلنا ثانية هكذا للتو، تجاهلت أماندا إجابتي المتوقعة تلك على سؤالها، وأخذت تشير ممسكة بذراعي بينما تكاد تقفز من فرح إلى ذلك الجانب من الشارع حيث يوجد الملهى المغلق، قائلة:

“انظر هناك إلى أُوْمَرْ صديقنا العزيز”!

لم تتردد أماندا وهي تخاطبه عبر فراغ الشارع من رفع عقيرتها بالنداء “أومر أومر، نحن هنا، أين كنت طوال الوقت يا رجل”؟
أدركتُ عندها بشيء من الذهول أن ما ظللت أراه بحكم العادة مبنى لملهى ليليّ قديم أوصدت أبوابه قد تحول في وقت ما من أوقات عشقي المستعرة إلى شيء آخر تعلوه يافطة كُتبت عليها بخطوط عربية شديدة الوضوح عبارة “مسجد المهاجرين لله ورسوله”. لقد رأتْ أماندا عمر بالفعل، حتى وهو داخل جلباب أبيض، بل تعرَّفت عليه على الرغم من تلك المسافة وما طرأ على وجهه من إطالة ما للحية وشوارب محفوفة. كان مضى نحو العام منذ أن رأيته لآخر مرة. أحزنني أن عمر لم يُعر صيحات أماندا أدنى اهتمام. لم يلوِّح لي كذلك بتحية مقابل تحيتي المتهادية نحوه عبر الفراغ العريض لشارع سيرجنت. لكأن حائطاً لا مرئياً ينهض هناك. مضى عمر في حال سبيله صحبة ما بدا لي عرباً من نواحي الشام.

اللعين! وأد فرحة حبيبتي، أماندا، به!!

بدا بعد مرور وقت طويل نسبياً على تلك الحادثة كما لو أن عمر أخبره بأشياء كثيرة عني. حدث ذلك أثناء آخر مرة رأيت فيها عمر، منذ نحو العام تقريبا!

كانت أماندا في زيارة لشقيقتها الكبرى مليسا. كانا عمر والرجل قد حضرا داخل جلبابين أبيضين نظيفين من غير موعد. كان الرجل سورياً في نحو الأربعين يدعى لسبب ما باسم “نور الله الأنصاري”. أحسنت وفادتهما بفاكهة صيفية طازجة. تنحنح الرجل في أعقاب التهامه مجموعة من العنب الأخضر الخالي من البذور دفعة واحدة. حتى ذلك الوقت، ظلّ عمر ملتزما الصمت وعلى مُحيّاه بدت آثار سجود سوداء حالكة. لم أشأ وأنا أخفي حيرتي من زيارتهما الغريبة أن أسأل عمر الذي زاد وزنه كثيراً على نحو أخفى أي أثر هناك لعنقه عن سر زيارتهما الغريبة وما طرأ عليه هو بالذات من تغير.

كانت زوجة عمر “شبيهة النخلة القطبية” وصلت إلى كندا صحبة بناتها الثلاث قبل نحو العامين. بعد مرور أشهر تقريبا على وصولهم شاع داخل مجتمع المنفيين في المدينة أن عمر لم يعد يُرى مع أسرته مرة أخرى. وإن كان لا يزال حتى ذلك الوقت يعيش بينهم. إنهم في مجالس مثل ذلك المجلس الذي يعقدونه يومياً في بورتيج بليس يرصدون كل شيء. ربما حتى عدد الشعر المكوّن لعانة. شأن أولئك المنفيين في القاهرة. لا بد أن يشعروا أنهم على قيد الحياة بصورة ما. تناهى صوت الأنصاري وسط أزيز الثلاجة الرتيب قائلا “نحن، يا أخانا في الدين الحنيف، أحببنا أن نزورك للتفاكر معاً في معاني وحكم ومواعظ قصة ظلت تحدث في كل زمان ومكان، قصة تحدث في حياة كل إنسان منذ عهد سيدنا آدم عليه السلام، قصة لن تتوقف إلى أن يرث الله سبحانه وتعالى الأرض بمن عليها. لن نطيل عليك، لكنها قصة ستشهد أحداثها أنت بنفسك بعد حين”. كان للرجل المُعمم ما أراد: أن يأخذني منذ البداية مثل حكَّاء بارع بكياني كله. حتى إنني لم أعد أتساءل بعدها بيني وبين نفسي عن ردود فعل جيسيكا المتوقعة لحظة أن ترى عمر في طبعته الجديدة.

يُحكى يا أخانا حامد أن رجلاً ما من عصور زالت طُلبَ منه الحضور إلى المحكمة على عجل. أي دونما أي إنذار مسبق!
هناك، في المحكمة، كانت تنتظره قضية حياة وعمر كامل.

كان الرجل يا أخانا الفاضل حامد عثمان حامد في حاجة ماسّة إلى أصدقائه الثلاثة الذين وثق بهم حتى تلك اللحظة للوقوف إلى جانبه والإدلاء بشهادتهم في المحكمة لمصلحته. قال يخاطبهم بنبرة الواثق: “تعلمون جيداً يا أصدقائي الأعزاء أنني لم أقم طوال حياتي بمصاحبة أحد ما من هذا العالم غيركم. كنتم رفقتي الوحيدة، وأنا بحاجة إليكم الآن”. قال مختصّاً بحديثه هذه المرة الصديق الأول “إنني في حاجة ماسة إليك يا أخي. لقد حرصتُ على أن أرعاك وأعمل على نمائك بلا توقف. آن الوقت كي تبادلني جميلاً بجميل”. ما حسبه من قبل صديقاً صدوقاً أجابه بكل برود معتذراً أنه لا يستطيع الذهاب معه إلى أي مكان آخر خطوة واحدة. أما الصديق الثاني فقد قال للرجل “يا أخي، والله لن أذهب معك إلى داخل المحكمة بإرادتي، فذلكم مكان مخيف، وليس هناك ما يجبرني على تحميل نفسي فوق طاقتها، لكنني سأعمل على توصيلك ربما من باب التشجيع والمساندة في حدود الاستطاعة حتى باب المحكمة، لن أتجاوز ذلك قيد خطوة، هنالك أشياء لا يجامل المرء فيها الأخلاء، وهذه حكمة ظننت أنك قد تعرفها من قبل بالفطرة”. أما الصديق الثالث، يا أخانا الفاضل الكريم حامد عثمان حامد، فقد كان “نعِم الصاحب”. قال له بكل جوارحه “أبشر، تالله لأذهبن معك يا أخي، بل لأكونن إلى جانبك حتى نهاية المحكمة، لقد وُجِدَ الأصدقاء الأخلاء لمثل هذا اليوم، لن أخذلك، فما يصيبك يصيبني”. تلك هي القصة ببساطة. كما لو أن حياتي كانت بحاجة إلى لغز وأُحجية أخرى، لما سألني الأنصاري بغتة:

“هل فهمتَ يا أخانا حامد مغزى هذه الحكاية”؟

قلت:

“إذا ولج الجمل، في سَمّ الخِيَاط، فقد فهمت”!!

ولو أن شكر الأقرع كان هناك في شقتي مستمعاً إلى حديث الأنصاري ذاك لطلب من عزيزنا الشيطان ماغ على وجه الخصوص أن يقوم حالاً بأكل الزوجين الأثيوبيين بالذات حتى يستطيع هو بوصفه شكر الأقرع أن يفهم “مغزى هذا الحكي”!

كذلك، ظلّ عمر مشدوداً إلى الأنصاري “هذا”.

أحياناً، يتتبع أثر كلمات الأنصاري تلك على وجهي وعلى عينيه الضيقتين غلالة رفيعة من دموع لا تكاد تُرى. أما يده اليمنى، فلم تنفك لحظة من اجترار حبات مسبحة حجازية خضراء لها خاصيّة الإضاءة الذاتية ليلاً. لكأنه يقول لي في ثنايا ذلك الصمت: “هيّا، يا أخانا الحبيب حامد بن فلانة، اصعد معنا، الآن حالاً، إلى مركب نوح، فالفيضان قادم، لا محالة”. قال الأنصاري بعد أن رشف من كوب الماء الموضوع على المنضدة الزجاجية الصغيرة أمامه، مواصلاً الموعظة بصوت بدا لي “الآن فقط” أنه لا يتناسب وهيئته العامة: “يا أخانا حامد، المحكمة هنا هي القبر، منتهى المرء بعد موته ومآله المحتوم، أما الصديق الأول فهو أموال المرء وبيته، أما الصديق الثاني فهم أهل الميت وأصدقاؤه ومعارفه، يحملون جنازته على أعناقهم بحزن ولوعة، يودعونها إلى جوار باب القبر، يهيلون عليها التراب ثم يمضون عنها، أما الصديق الثالث فهو العمل الصالح”! يا أخانا حامد، أقول لك الحق، إن الرحلة طويلة والزاد قليل والطريق موحشة، وتذكر جيداً أن هذه البلاد يفتح فيها الشيطان على المرء الصالح ألف باب للهلاك، كل باب ظاهره الرحمة وباطنه العذاب، نعم، المواعظ تفيد، يا أخانا. وقد علمنا من أخينا الفاضل عمر هذا، وهو يحبك لوجه الله، أن جماعة من أولئك المبشرين بالمسيحية، لعنهم الله، يزورونك هنا، أعني في محل إقامتك هذا، بل وتذهب معهم أنت نفسك، بقدميك هاتين، لحضور صلواتهم في الكنيسة أحياناً، وفي هذا قال سماحة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين: “لا يجوز للمسلم دخول معابد الكفار؛ لأن في ذلك إقراراً لهم على عبادتهم وتشبها بهم، ودعاية للجهال إلى غشيان أماكن عبادتهم مما قد ينخدع بهم بعض الجهلة، ويتقربون بمثل عباداتهم ويقلدونهم، لكن إن كان الداخل من أهل العلم والإيمان والمعرفة التامة بتعاليم الإسلام ودخل لسماع ما يقولونه حتى يرد عليهم، أو يعرف اختلافهم واضطرابهم ليحذر منهم، ويبين تفاهتهم وما يفعلونه من الخرافات والخزعبلات، ليكون على بصيرة من دينه، ويعرف الفارق الكبير بينه وبين أديان أهل التحريف والتبديل، أو دخل الكنائس للنظر في بنائها، وكيفية تأسيسها حتى يحذر المسلمين من التشبه بهم في معابدهم وخصائصهم؛ جاز له ذلك، والله أعلم”.

من شدة الغيظ، أخذت أسب في سري:

“اللعنة على المدعو عمر الخزين هذا”!

تسربتْ، خلال احدى نوافذ الصالة الزجاجية المواربة أفقياً، ذبابتان خضراوان، أخذتا تحوِّمان من حولنا من دون طنين. بدا ذلك بمثابة أمر آخر مثير للدهشة: وجود الذباب، ذباب أفريقيا نفسه، في كندا. سنوات مرت على وجودي في كندا وتلك المرة الأولى التي أرى فيها الذباب عياناً بياناً. تلك دهشة لا تقل عن دهشتي الأولى تلك لحظة أن رأيت الجليد لأول مرة في حياتي. كان اللهاث وراء أماندا والغثيان الذي أخذ يصيبني في أعقاب مضاجعة المومسات من شارع سيرجنت قد دفعني إلى الإقتراب كثيراً في تلك الأيام من جماعة مسيحية تدعى “شهود يهوا”. ليتني لم أبح بذلك لعمر الخزين. الأنصاري لا يزال يتطلع إليّ بأمل. لكن ما علاقة ابن جبرين بحياتي، الآن؟ ما الحياة نفسها في غياب الخمر والنساء؟

كنت أذهب معهم إلى الكنيسة أسبوعياً في صباح يوم كل أحد. أُرتِّل معهم أهازيجهم الدينية وصلواتهم بصوت منغَّمٍ ظلّتْ تحمله الجوقة بعيداً إلى داخل نفسي. ذلك القرب من الناس في أعلى تجلياتهم الروحية بدأ يهبني بعض السلام الداخلي. لو لا أنهم قد أخذوا يزعجونني بزياراتهم المتكررة إلى شقتي متأبطين كتبهم ومجلاتهم ومواعظهم. لكنّ شيئاً آخر جعلني أُقلِّب لهم ظهر المجن تلك الأيام فانقطعوا عن زيارتي بلا رجعة. علمت منهم مع مرور الوقت أن المرأة منهم لا بد أن تظلّ عذراء إلى أن تفض بكارتها بعد كتابة عقد زواج رسمي تباركه الكنيسة وأن الزوجة إذا ما أرادت الظفر بالفردوس فلا بد أن تكون مخلصة لزوجها حتى الممات. “اللعنة على سوء الحظّ”. كان عشمي منذ البداية قد بُنيت صروحه على أمل أن الإقتراب منهم في ثوب المريد قد يملأ فراشي أنا المنفي الغريب في أعقاب كل صلاة بعلاقة آثمة. اللعنة، اللعنة، ثم اللعنة سبعاً على حظي هذا وقد رأيت من بينهم فتاة شقراء تشبه “ضوء القمر على كأس المارتيني”.

كنت أتابع حديث الأنصاري ذاك والذباب يحوّم بذهنٍ غائم.

الوغد، ابن الزانيّة، المدعو عمر بن الخزين هذا، أخذ ينظر إلى ساعته على نحو متقارب. لعله يتهيأ لأن أصطحبهما “الآن” هو والأنصاري هذا لآداء صلاة المغرب جماعة داخل شقتي أو خارجها والتي غدت قاب قوسين أو أدنى. فجأة طلبت الإذن منهما لدقيقة واحدة، لا غير. فعلت ذلك الحقّ بتهذيب أدهشني بدءا. أحضرت ثلاث كؤوس زجاجية لها قوام عارضة أزياء خليع تصورت لسبب ما أنها من نواحي القوقاز في روسيا. واحدة لي، واحدة للأنصاري، وواحدة لعمر. عدت بزجاجة ويسكي ماركة ريد ليبل. ملأت الكأسات بأريحية تامّة. جلست ووجهي ناحية الأنصاري كمن يتابع حديثاً جرى قطع تسلسله. رأيتهما في لحظة تالية وهما يتبادلان النظر فيما بينهما في دهشة وحيرة وغيظ مكتوم وبلادة، لكأن الطير على رؤوسهم، قبل أن يغادرا الشقة من غير أن يلقيا عليَّ بالسلام حتى! لا شك أنهما ظنّا أن الشيطان نفسه يتقمّص منافذ روحي في تلك اللحظة. لكأن شيئا لم يكن. تابعت الشرب من زجاجة الويسكي مباشرة من غير أن أضيف هذه المرة شيئاً من الماء كما جرت العادة، بينما أخذ الظلام يخفي ملامح الأشياء وراء النوافذ الزجاجية الواسعة للصَّالة.

عبدالحميد البرنس

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..