“كيف يعمق سلام الكراسي فشل الدولة؟”

مجاهد بشير
من أكبر الأخطاء التي ارتكبها جماعة الحرية والتغيير، رفضهم الإلتزام بتشكيل حكومة الكفاءات الوطنية غير الحزبية، وإصرارهم على منهج المحاصصة في مقاعد المدنيين بمجلس السيادة، وفي مجلس الوزراء، بما في ذلك وزارات بالغة الأهمية لا سيما في ظروف البلاد الحالية كالمالية، بل امتدت التعيينات على أسس حزبية وشخصية وجهوية لتشمل كل وظيفة في القطاع الحكومي بما في ذلك شركاته، بل والمؤسسات الأهلية التي وضعت السلطة الجديدة يدها عليها، وحجتنا في ذلك أننا لم نقف في هذا العهد الجديد على طرح شفاف وعلني لأي وظيفة أو موقع قيادي للتنافس بين عموم المؤهلين من المواطنين، ما يعني أن مجموعة ضيقة من النافذين الجدد يصدرون قرارات التعيين في كافة المناصب العامة كيف شاءوا، أو كيف شاءت أحزابهم في واقع الأمر، دون التزام بمعايير الكفاءة والشفافية، التي يجب أن تلتزم بها الحكومات الشرعية المنتخبة، ناهيك عن الحكومات غير المنتخبة.
فلما تورط هؤلاء الإخوة في هذا المسار الذي لم تسعفهم البصيرة لتجنبه، تم اختيار الأسماء على أساس التوازنات الحزبية والجهوية، ولم يعد من الممكن تقييم أداء وزير أو مسؤول في بيئة عمل صحية ونظام مؤسسي ومفاهيمي سليم ، فإقالة هذا أو ذاك تضاعف حدة الصراع بين مكونات الحرية والتغيير، ولا يعتبر إنتقاد أو إعفاء أو محاسبة مسؤول عملية مؤسسية روتينية ، بل اعتداء غير مقبول على نصيب هذا المكون أو ذاك.
ولما انغمس الحكام الجدد في منهج المحاصصة حتى النخاع لم يعد ممكناً أن يحتجوا على طاولات التفاوض مع الإخوة أمراء التمرد بأن المناصب العامة لا يشغلها المواطن إلا عن كفاءة وجدارة.
لذلك، كان متوقعاً أن تفتح نصوص اتفاقيات السلام الجديدة الباب على مصراعيه للتوظيف وتقاسم المناصب والمخصصات المالية والصلاحيات، على أسس حزبية وجهوية وعرقية، بل بلغ من إعوجاج منهج هذا السلام الذي رقص له الراقصون، أن تنص بعض بنوده على تعيين مدراء جامعات وقضاة على أساس حزبي وجهوي وعرقي، وهذا في تقييمنا أحد الأدلة الحاسمة على عدم رشد العقلية التي أنتجت هذه الاتفاقيات.
وكنا قد أوضحنا سابقاً أن قضية المناطق الأقل نمواً تعالج بزيادة المخصصات المالية التنموية والخدمية، كبناء مزيد من المدارس والطرق والمستشفيات والمشروعات الإنتاجية في المناطق المتضررة بالحرب وتأهيل عامة أبناء هذه المناطق ضمن سائر المواطنين للمشاركة في القفزة التنموية والحضارية القومية الكبرى، ومنح مزايا تفضيلية لترجيح قبول طلاب هذه المناطق في مؤسسات التعليم العالي، أما أن يتم تقاسم المناصب والأموال والصلاحيات العامة بين مجموعة من المتحزبين وأمراء التمرد غير المنتخبين، واستبعاد الشخصيات المستقلة، وبعض التيارات السياسية والفكرية، وقبل وبعد كل ذلك ممارسة السلطة والصلاحيات الإدارية والمالية بطريقة معيبة لا تستوفي معايير الشفافية والمؤسسية والرقابة، ناهيك عن الافتقار إلى الرؤية والاستراتيجية الفعالة لحل مشكلات السودان المعقدة، فهذا ما لا نستطيع أن نقبله أو نسكت عليه، سواء من الإخوة حكام العهد السابق، أو الإخوة متنفذي العهد الجديد.
إن منهج تقاسم السلطة وما يسمى الثروة في هذه البلاد الفقيرة المنكوبة، بين فئة محدودة من المتحزبين والعساكر وأمراء الحرب، وإساءة استخدام هذه السلطة على نحو بيناه سابقاً، يشمل إدارة الشؤون المالية للدولة بطريقة غير علمية ولا منطقية، تنحدر إلى مستويات كارثية من الإهمال وعدم الأهلية والرشد، إلى جانب الغياب الشامل للرقابة والشفافية، لا يمكن له إلا أن يفجر الغضب والإحتجاج ويعزز النزعات العرقية والجهوية بما يؤدي عاجلاً أم آجلاً إلى تفاقم حالة عدم الاستقرار وسقوط نظرية الدولة.
إن المنهج الصحيح لتقاسم السلطة إنما هو توزيع الصلاحيات بين الأجهزة والمؤسسات في الدولة، بما في ذلك مستويات الحكم الإقليمية والقومية، لا تخصيص نسبة معلومة من المناصب العامة حصراً لفئة من المواطنين أيا كانوا، والمنهج الصحيح لتقاسم الثروة إنما هو التوزيع العادل للخدمات والاستثمارات والمشروعات العامة والتنمية والبنية التحتية بين مناطق البلاد وفق تقديرات حجم السكان مع جواز منح أولوية للمناطق الأقل نمواً.
لا يمكن لعاقل أن يتوقع نجاح حكومة بعناصر عديمة الكفاءة، يتم تشكيلها بمنهج ترضيات ومحاصصات وتوازنات، تعمل دون منظومة مؤسسية وقانونية ورقابية محكمة وفعالة.
ثم إن سلاماً هذه منهجيته و أهدافه، لا علاقة له من قريب أو بعيد بمشروع إعادة بناء الإنسان السوداني، وإنجاز النهضة القومية الشاملة، إنما يورد بعض الإشارات التنموية الغامضة تحمل آثار صياغة سطحية على عجل، قبل أن يصرف اهتمامه إلى تفصيل أمور المخصصات والكراسي.
نقول قولنا هذا، ونحن على قناعة بأن ما يسمى “الكفاءات والتكنوقراط الوطنيين” مجرد خرافة، ففي هذه الثقافة المتخصصة في إنتاج العقليات القاصرة العاجزة، تتساوى قدرات وإنجازات خبير الأمم المتحدة المزعوم مع جنرال الخلاء، وربما كانت قدرات التكنوقراط الوطنيين أكثر تواضعاً حتى مقارنة بهؤلاء الإخوة من السياسيين الذين يديرون دولة فاشلة يتطلب إنقاذها قيادة فائقة الجودة والفعالية، ببرامج ورؤى ومشاريع من نوعية قصائد السنبلة وبراميل الرؤى المنامية..!
لا نتوهم بتاتاً أن هذه الثقافة الفاشلة يمكن أن تنتج قيادات بعقليات قادرة على حل المشكلات التي تعترض طريق الأمة، إنما طالبنا ونطالب بحكومة الكفاءات المستقلين، خاصة على مستوى صناعة السياسات والقرارات الإدارية الحاسمة في الوزارات والهيئات والمؤسسات والشركات الحكومية، لعل ذلك أن يكون أهون الشرور. كما أن مراقبة ومساءلة واعفاء التكنوقراط، أهون من تحمل تبعات عربدة سياسيين وأمراء حروب بدون مؤهلات أو خبرات أو مصادر دخل معلومة، يتشبثون بكراسي السلطة مهما كان الثمن.