مقالات وآراء سياسية

المتفائلونَ في الجحيم

علي يس

•       قبل أكثر من سنة  ، تكوّن أوّل مجلس للوزراء ، في أول حكومة مدنيّة بعد أكثر من ثلاثين عاماً ، بقيادة الدكتور عبدالله حمدوك ، فاحتفل الثُّوّار بما اعتبروهُ  أوّل و أهم الخطوات لإنجاز برنامج ثورتهم الواضح و النبيل.. وانطلقت وعود الوزراء متوالية ..
•       وزير  الصناعة و التجارة بشّرنا بحلّ مشكلات صفوف الخبز و الوقود ، و مشكلات التجارة و الصناعة و معاش الناس..
•       وزارتا الصحة و التعليم كان أول ما أعلنتاه من أهداف إعادة مجانية العلاج والتعليم ، كما كانا قبل انقلاب يونيو 89.. و معالجة التشوهات التي أنتجها انتشار ظاهرتي المستشفيات الخاصّة و المدارس الخاصّة ، التي جاءت بالأساس على حساب المستشفيات الحكومية و المدارس الحكومية ، إلى حدٍّ جعل ذوي المرضى لا يذهبون بهم إلى مستشفى حكومي إلاّ إذا  قهرهم على ذلك ضيق ذات اليد ، أو قرّروا التخلُّص من مرضاهم ، و جعل الناس لا يذهبون بأولادهم إلى المدارس الحكوميّة إلاّ  إذا عجزوا عن دفع رسوم المدارس الخاصّة ، و حينها كان عليهم أن يدبِّروا لأولادهم حِرفاً مناسبة ، فالمدارس الحكوميّة كانت أقصر الطرق إلى “مكبّات” الفاقد التربوي ..
•       مدير “شركة المواصلات العامّة” هيَّأ الناس لوداع أزمات المواصلات للأبد ، بعد أن قام بتنظيف “الشركة” ممن قال إنهم منسوبو جهاز الأمن و الأمن الشعبي و الدفاع الشعبي ، ثمّ ذهب إلى بيته لينام نومة أهل الكهف !!..
•       وزير العدل و النائب العام  أيقظا  أحلام العدالة في أفئدة أمّة ظلّت تكابد الظلم بظلماته ثلاثين عاماً حسوماً ، و بشّرا أمّة المظاليم ، أسر الشهداء ، ضحايا الفقر الناتج عن فساد لصوص الانقاذ ، المفصولين تعسفياً ، و كل مظلوم ، بشّراهم ببسط العدل و محاكمة كل قاتل و كل فاسد و كلِّ ظالم ..
•       السيد رئيس الوزراء نفسه ، لم يتوانَ في تبشيرنا بالعبور و النصر المؤزّر..
•       و مع كل ذلك ، كان تفاؤل الناس حذراً ، فهم يعلمون تماماً أن أعداء الثورة من فلول النظام البائد لن يناموا ، و أن إصلاح خراب المؤتمر الوطني خلال ثلاثين عاماً ليس نزهةً ، غير أنّنا ، في أسوأ  كوابيسنا ، لم نتوقّع أن تبلغ بنا الحالُ ، بعد  أكثر من عامٍ ما نعانيه اليوم  من انفلاتٍ غير قابل للسيطرة ، و صمتٍ مطبقٍ ممّن أطلقوا الوعود الزاهيات ..
•       غير أنّ الأسوأ من كُلِّ هذا ، هو ما يعاجلُنا به “الإخوة المتفائلون” كلّما تساءلنا عمّن يقف وراء هذا الفشل المبين؟ ، من يقيِّدُ أيدي القضاء عن القصاص و استرداد الحقوق و ردّ المظالم؟ ؟ من الذي يسّر هروب  العشرات من فسدة  نظام البشير و ما يزالُ يفعل ؟؟ من الذي يقف وراء صفوف الخبز و صفوف الوقود؟؟
من الذي يهيمن على صادر الذهب ، عشرات الأطنان ، و أين تذهب عوائده؟؟ ..
•       حين يضطرُّنا الواقع المجنون هذا إلى طرح هذه التساؤلات البدهيّة ، يعاجلنا (العالمون ببواطن الأمور) بالدعوة إلى “التفاؤل” ، يبشروننا بأن كل شيءٍ سيكون على ما يرام ، و بأننا “سنعبر و ننتصر”!!!..
•       لو سئلتُ عن أدقَّ معاني “العبَط” لقُلتُ إنّه ذلك التفاؤل الذي لا يقوم على ساق.. هو تفاؤل من لا يدري لماذا يتفاءل ، أو هُو ، بعبارة أوضح ، تفاؤل بطل رواية (المتشائل) للكاتب الفلسطيني الراحل “إميل حبيبي” ، ذلك الذي ظلَّ يقرِّر أنّ الموت نفسه ، الذي حصد أفراد عائلته ، كان يمكن أن يقع بطريقة أبشع من هذه ، و لكن الله سلّم ..!!
•       أسوأ من الفشل ، عدم الاعتراف بالفشل ..
•       و أسوأ من (الدولة العميقة) ، الدولة الضّحلة !!.. و ضحالة دولتنا هذه لا تحتاج إلى شهادة شاهد، و لا نستطيع ، مع  السيولة  الرهيبة هذه ، أمنياً و اقتصادياً  و اجتماعياً ، أن نواصل الموّال القديم اللزج ، بلعن فلول المؤتمر الوطني أو “بقايا الكيزان” أو “الدولة العميقة” أو غيرها من أوهام تآمريّة..
•       في الحقيقة ، لا يوجد تفسير واحد مقنع و موضوعي للحال التي نحنُ فيها الآن ، من غلاء متجاوز لأيّة حدود ، و انخفاض مذهل  لقيمة عملتنا الوطنيّة ، اعترف نائب رئيس مجلس السيادة أنّ الحكومة نفسها و ليس “المتآمرون” هي من تسبب فيه ، و تفاقم متصاعد لأزمة المواصلات ، و تجمُّد كامل للعدالة ، و بؤس يكتسح كل مجال ، و خزانة  تعجز عن توفير الدقيق و الدواء و الوقود  رغم  أطنان الذهب ، دعك من بقية الصادرات أو (المهرَّبات).. لا يوجد تفسير يقبله العقل لكل هذا إلاّ بكون الحكومة الحاليّة بكل مكوناتها و حاضناتها ، هي امتداد  لحكومة المؤتمر الوطني .. إمّا بوعيٍ منها و تآمُر ، أو هي رهينةٌ  لدى “قوّة خفيّة” تسيِّر الأمور إلى نهاياتها  القصوى لبدء مرحلةٍ أُخرى من التآمُر .. و ليغلق المتفائلون أفواههم حتى يجدُوا ساقاً يستند إليها تفاؤلهم.
(المواكب)
علي يس
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..