قبل أن يصبح الإسلام هو المشكلة

فهمي هويدي

تواجه الحالة الإسلامية تحديا كبيرا بعد الثورة جراء هبوطها الاضطراري من فضاء الشعارات والتعاليم على أرض الواقع المدبب والملغوم، الأمر الذى فرض عليها إعادة النظر في الكثير من مواقفها ومقولاتها.

(١)

أدري أن مصطلح الحالة الإسلامية فضفاض إلى حد كبير، لكني أقصد الناشطين في الساحة الإسلاميين وليس كل المسلمين الذين هم جزء لا يتجزأ من “الحالة”، ولست أشك في أن منهم كثيرين أشد إخلاصا وأكثر إسلاما من أولئك الناشطين، ثم إنني أفهم أن هؤلاء الآخرين ليسوا شيئا واحدا، وأن تبايناتهم حاصلة في البلد الواحد (في مصر ثمانية أحزاب إسلامية غير الجماعات التي يقودها شيوخ مستقلون).

ليس ذلك فحسب وإنما تلك التباينات حاصله أيضا في خبرات الناشطين الإسلاميين في مختلف الأقطار العربية والإسلامية، ومما يحسب للربيع العربي أنه سلط الأضواء على هذه الخرائط كلها (أغلبها إن شئت الدقة)، بحيث أسفر الجميع عن وجوههم فسمعنا أصوات المعتدلين والمتطرفين، والعقلاء والسفهاء، ولأسباب مفهومة احتفت وسائل الإعلام بالمتطرفين والغلاة، وكانت الحفاوة أشد بكل من ذهب بعيدا في الغلو والشذوذ.

في مصر وفي تونس وسوريا ابتلي الجميع بالإيذاء والإقصاء، لكن الابتلاء كان أشد بعد الثورة لأنه حل بهم من باب الغواية والتمكين، وإذا كانت العزائم هي سلاح التصدي للابتلاء الأول، فإن الخبرات والعقول صارت السلاح الأمضى في التعامل مع الثاني، إن شئت فقل إنهم في الابتلاء الأول كانوا يصدون ويقاومون، أما الابتلاء الثاني فقد فرض عليهم التقدم والمبادرة، ولأنهم لم يكونوا جاهزين لمواجهة ذلك الموقف الذي فاجأهم في مسار لم يتوقعوه، إذ فرض عليهم أولويات لم تكن في الحسبان، واستدعى ملفات وعناوين ظلت مؤجلة طول الوقت وجلّها يتعلق بكيان الدولة الحديثة ومؤسساتها وبإطار التعامل مع الآخر في الداخل والخارج.

(٢)

منذ سبعينيات القرن الماضي على الأقل، حيث ظهر عنوان الصحوة الإسلامية في الأفق ظلت فكرة الدولة عند الإسلاميين محل لغط كبير في بعض أوساط المثقفين العرب فضلا عن الباحثين الغربيين، فقد اعتبرها البعض نموذجا للدولة الدينية إلى عرفتها التجربة الأوروبية، ولم تكن العلاقة بين الدولة والأمة واضحة، كما كان شكل الدولة غامضا حتى تحدث البعض عن الإمارة وقال آخرون بالخلافة، وكان هناك من يجادل في علاقة الشورى بالديمقراطية، ويتساءل عما إذا كانت الشورى مُعلمة أو ملزمة، كما كان الجدل مثارا حول صيغة التعددية السياسية والموقف الشرعي من فكرة الأحزاب، وطال الجدل مسألة العلاقة مع العالم الخارجي وهل ذلك العالم هو دار الكفر أم دار العهد أم أمة الدعوة (في مقابل ديار الإسلام التي اعتبرت أمة الإجابة)… إلخ.

وحين قامت الثورة الإيرانية وتأسست الجمهورية الإسلامية في عام 1979، فإنها قدمت نموذجا لم يوقف الجدل، لكنه هز بعض القناعات والانطباعات. إذ قدمت فكرة “ولاية الفقيه” صورة جاءت أقرب إلى صيغة الدولة الدينية، إلا أن الدولة الجديدة وضعت دستورا وأقامت مجلسا نيابيا وأجرت الانتخابات الديمقراطية على أكثر من مستوى، فيما غدا تجسيدا قريبا من فكرة الدولة الحديثة، ورغم أن قلة من الباحثين أدركوا أن النموذج الإيراني مرتبط بخصوصية المذهب الشيعى ومرجعياته الفقهية، إلا أن شبحه ظل يطارد الإسلاميين في مجتمعات أهل السنة طول الوقت، وباتوا يلاحقون بالسؤال عما إذا كانوا يتطلعون إلى احتذائه وتطبيقه، ومن ثم عما إذا كانوا يسعون إلى إقامة دولة دينية أم مدنية؟

الثورات العربية التي تلاحقت في المنطقة منذ عام 2011 استدعت كل الأسئلة المعلقة منذ السبعينيات بما فيها الأسئلة المستجدة التي فرضتها الثورة الإسلامية في إيران، وكان السبب في استدعاء تلك الأسئلة أن التيار الإسلامي فاز بالأغلبية في الانتخابات التشريعية التي أجريت في ثلاث دول على الأقل هي تونس ومصر والمغرب، وكان على تلك الأغلبية أن تقدم إجاباتها عليها إن لم يكن من خلال المواقف والممارسات العملية فعلى الأقل في الناحية النظرية لطمأنة المجتمعات التي شهدت تلك الثورات.

اختلف الوضع في أقطار الثورات العربية من عدة نواح، فالثورات كانت وطنية ولم تكن ذات صيغة إسلامية كما في الحالة الإيرانية، بالتالي فإن الإسلاميين كانوا فصيلا معها فيها وليسوا صناعها أو قادتها، ومن ناحية ثانية فإن الثورات وقعت في مجتمعات أهل السنة التي تختلف في بيئاتها وهياكلها وتراثها الفقهي عن بيئة المجتمعات الشيعية، ومن ناحية ثالثة فإن مجتمعات أهل السنة العربية تحفل بالاجتهادات الفقهية المستنيرة (من محمد عبده إلى القرضاوي) التي تنحاز إلى قيم الدولة الحديثة وفي مقدمتها الديمقراطية والتعددية السياسية، ويعد الأزهر في مصر رمزا للمرجعية التي تعبر عن ذلك الانحياز.

(3)

قبل عدة سنوات تداول السلفيون في الإسكندرية رسالة كان عنوانها: “القول السديد في أن الاشتراك في الانتخابات مخالف للتوحيد”. إلا أن الدنيا تغيرت بحيث شكلت الجماعة السلفية في الإسكندرية حزب النور بعد الثورة، وخرج من عباءتها حزب آخر باسم الوطن، وحزب ثالث مشترك بينها وبين الإخوان هو حزب الإصلاح والنهضة، وفي حين كان الاعتقاد الشائع في أوساط السلفيين أن الحزبية مكروهة باعتبارها بابا للفرقة والفتنة، فقد تشكل في مصر بعد الثورة نحو ثمانية أحزاب (أحدثها حزب الراية للشيخ حازم أبو إسماعيل)، وبدا أن بعضها أحزاب تمثل الجهة بأكثر مما تمثل فكرا مغايرا “النور في الإسكندرية -الشعب في الدقهلية -الإصلاح في البحيرة -الأصالة والفضيلة في القاهرة -الهدف في 6 أكتوبر”.

خارج الدائرة السلفية هناك ثمانية أحزاب أخرى تعتمد المرجعية الإسلامية، الأمر الذي يعني أنه في مصر وحتى إشعار آخر هناك 16 حزبا إسلاميا كل منها يتطلع إلى المشاركة في الانتخابات والفوز بعضوية مجلس النواب القادم، وهو ما يمكن أن يسوغ لنا أن نقول بأن الجدل حول الأحزاب بات محسوما على الصعيد العملي.

حين دخلت الأحزاب الإسلامية بما فيها السلفية إلى ساحة العمل السياسي من باب الانتخابات فذلك يعنى عمليا أن الواقع فرض نفسه على الفكر، ولن نذهب بعيدا إذا قلنا إن الواقع سبق الفكر وصوبه، بالتالي فلم يعد هناك مجال للجدل حول النظام الحزبي والتعددية السياسية، أو حول الديمقراطية واختلافها أو اتفاقها مع الشورى، كما لم يعد هناك خلاف حول النظام البرلماني ومؤسسات الدولة الحديثة، الأمر الذى يستبعد تلقائيا أي حديث عن فكرة الدولة الدينية أو دولة الخلافة أو صيغة الإمارة، وهو ما يسوغ لنا أن نقول إن هذه المشاركة في مجملها كرست فكرة التصالح بين الأحزاب الإسلامية والديمقراطية، والدولة المدنية. وهي العلاقة التي ظلت محل جدل ومثار لغظ لم يتوقف خلال العقد الأخير.

لا أستطيع أن أدعي أن هذه الأمور حسمت تماما، لأن ثمة أصواتا لا تزال تشكك في الديمقراطية وترفض التعددية وتتململ من فكرة المواطنة، لكنها تظل أصواتا شاذة لا وزن لها ولا تأثير على المسار الديمقراطي لأن الأغلبية انحازت إلى صف الديمقراطية وقيمها وتقدمت للمشاركة في بناء النظام الجديد على ذلك الأساس.

(4)

تصالح الإسلاميين مع الديمقراطية لا يعني أن الأمور كلها حسمت لأن ثمة تحديات, ينبغي عدم الاستهانة بها, لا تزال تواجه العقل الإسلامي الذي له دوره في إدارة شؤون الدولة بعد الثورة، ولا أستطيع في هذا الصدد أن أتجاهل حقيقة أن الإقصاء الذي فرض على الحالة الإسلامية لم يمكنها من اختبار الأفكار على صعيد الواقع، كما لم يمكن الناشطين من اكتساب الخبرات التي تمكنهم من المشاركة في تسيير ماكينة إدارة الدولة.

لذلك لا مفر من الاعتراف بأنه في الحالة المصرية وأمثالها فإن أداء الإسلاميين في إدارة شؤون الدولة يبدأ من الصفر تقريبا، الأمر الذي فرض عليهم إجراء مجموعة من المراجعات الضرورية للكثير من رؤاهم الإستراتيجية واجتهاداتهم الفكرية، وتلك دعوة لا أتفرد بها، لأن بعض القيادات الإسلامية التي خاضت التجربة عبرت عن ذلك بصورة أو أخرى، إذ في مناسبتين منفصلتين قال كل من الشيخ راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة التونسية والدكتور محمد مرسي رئيس مصر أن الأوضاع التي تعامل معها كل منهما في تونس ومصر، مختلفة وأصعب بكثير مما تصوروا في البداية.

وإذا جاز لي أن أعرض لبعض أبرز الملفات العالقة والتي يحتاج بعضها إلى حسم ويحتاج البعض الآخر إلى مراجعة وتصويب ومنها ما يلي:

* العلاقة بين الدين والسياسة وكيف يمكن ضبط التمايز بين الدائرتين دون انفصال يهدد المرجعية ودون اتصال يعيد إلى الأذهان فكرة الدولة الدينية.

* ترجمة الشعارات إلى سياسات تستلهم المرجعية وتستهدف خدمة الناس وتنمية المجتمع متجنبة الاستغراق في وعظ الناس وفرض الوصاية على المجتمع.

* تصويب العلاقة بين الجماعة والوطن، واعتبار الأولى وسيلة لا غاية ينبغي أن تتراجع مصلحتها أمام أي مصلحة مرجوة للوطن.

* رد الاعتبار لفقه المقاصد وتقديمه على الوسائل، باعتبار أن المقاصد في المرحلة الراهنة تشكل المظلة والإطار الأوسع الذي يوسع في محيط المشترك مع الآخر، بما يعزز من قيمة الوحدة الوطنية التي تشكل حجر الأساس في ضمان الاستقرار والتقدم للمجتمع.

* تأصيل فقه العيش المشترك، الذي يسع المخالفين في الرأي والمذهب والاعتقاد، الأمر الذي يرد الاعتبار لقيمة المواطنة التي يتساوى فيها الجميع في الحقوق والواجبات.

* فض الاشتباك مع التيارات الأخرى العلمانية واليسارية، واستلهام صيغة “حلف الفضول” الذي امتدحه النبي عليه الصلاة والسلام حين عقد في الجاهلية لحماية الضعفاء والانحياز للفقراء.

* إعمال وتطوير قواعد فقه الأولويات وفقه الإنكار، وفي ظل الأول ترتب الواجبات طبقا لمدى إسهامها في تحقيق المصالح العليا للمجتمع التي تقدم على مصالح الأفراد، وبتطوير فقه الأفكار توضع ضوابط الإصلاح التي تحملها الدولة وتلك التي يباشرها المجتمع وحدود ما يخص الأفراد منها.

* التعامل الإيجابي مع قضية الحريات بما يرفع من سقف الحريات العامة ويحول دون المساس بالحريات الخاصة طالما أنها تتم في إطار القانون وبما لا يمس النظام العام للمجتمع.

* حسم العلاقة مع العالم الخارجي، بما ينهي اللغط المثار حول تكييف تلك العلاقة عند بعض الإسلاميين بما يضعها في دائرة التضاد والتقاطع وليس التوازي أو التفاعل والتعاون.

لقد كان البعض يرفعون في السابق شعار الإسلام هو الحل، وأخشى إذا تعثرت المسيرة في ظل وجود الإسلاميين بالسلطة أن تنقلب الآية في نهاية المطاف بحيث يصبح الإسلام في نظر البعض هو المشكلة.
ــــــــــــــــــ
ملحوظة: النص خلاصة محاضرة دعيت لإلقائها في العاصمة الأردنية عمان يوم السبت الماضي ٢/٣، بدعوة من منتدى مركز دراسات الشرق الأوسط.
المصدر:الجزيرة

تعليق واحد

  1. ما يثير الدهشة وأشد الإستغراب هو كيف أن المصريين لم يستفيدوا من تجربة الحكم الإسلامي في السودان – الشق الآخر لوادي النيل – الذي شهد تجربة إسلامية فاشلة إلى مدى 22 عام قبلهم .. تجربة إسلامية أفرزت فشلاً ذريعاً في القيام بأوجب واجبات الدولة ألا وهو الحفاظ على وحدة التراب .. وما يدعو إلى العجب هو أن الإسلاميين السودانيين هم صنيعة الإسلاميين المصريين كما الشيوعيين السودانيين!!
    تجربة شهدت إنفصال جزء عزيز من الوطن ليصير دولة مستقلة بسبب ضيق أفق الإسلاميين وضيق مواعينهم الفكرية في تقبل الآخر والتعايش معه؟؟
    تجربة تجلت أهم وأوضح مظاهر فشلها في إنقسام الإسلاميين أنفسهم وتحولهم إلى أعداء بدلاً من إخوان؟؟
    تجربة حفلت بصنوف من الفساد لم يشهد السودان مثيله في تاريخه المعاصر ؟؟

    تجربة شهدت ولأول مرة دخول عساكر أجنبية إلى أرض السودان بموافقة الدولة رغماً عنها الأمر الذي لم يحدث منذ خروج الجنود الإنجليز والمصريين من السودان ؟؟
    تجربة نشرت الحروب بين أجزاء الوطن الواحد بين مركزه وهامشه .. كما توطنت معه أعمق الخلافات بين قواه السياسية ؟؟
    تجربة عرفها أصحابها بأنها المشروع الحضاري .. إلا أنها بدلت أفئدة ورؤى السودانيين من التماسك الإجتماعي من خلال التمسك بالفضائل والإصرار عليها في أحلك الظروف إلى شعب لا يبالي بإنتشار الرذائل في جميع صورها بينهم (بغاء الطالبات .. اللواط وزواج المثليين .. السرقة .. جرائم الشرف .. القتل .. إغتصاب الأطفال .. الأنحلال من خلال الجري وراء مواقع الجنس في الشبكة العنكبوتية ألخ ألخ ألخ) !!!

  2. تتمة لتعليقنا على مقال الاستاذ فهمي هويدي:

    في السودان الإسلام أصبح هو المشكلة فعلاً بدليل المصائب التي يعيشها السودانيون والتي تستعصى على الحصر .. وفي مصر الأرهاصات تقول “يكاد يكون” !!

    وإنقسام الإسلاميين سلفييهم وإخوانهم إلى فرق وشيع كثيرة في مصر مسألة وقت ليس إلا .. لأن للحكم مفاسد لم يراها الإسلاميين المصريين ولكن رأها الإسلامييون السودانيون ومواطنيهم من غير الإسلاميين أو حتى المسلمين .. ولقد أثبتت تجربة الإسلاميين السودانيين مدى ضعف الإسلاميين أمام المال والسلطة .. فبمجرد وصولهم إليهما يتحولون إلى غيلان متوحشة إطلقت من عقالاتها فيستحيل لجمها.. هذا ثبت على الأقل في الإسلاميين السودانيين ..

  3. سيد القمني – روز اليوسف

    لكي لا يخدعنا بعضهم: هل كان تاريخنا ماضيا سعيدا؟

    معاوية بن أي سفيان وولده يزيد لم يمنعهما اسلامهما من قتال آل بيت الرسول وجز رأس الحسين ,الحجاج بن يوسف الثقفي اعدم من العراقيين مئة وعشرين ألفا واستباح نساء المسلمين ,العباسيون قتلوا خمسين ألفا من أهل دمشق وجعلوا من المسجد الأموي إسطبلاً لخيولهم.

    هل كان ممكنا أن ترتج أجهزة الدولة كلها مستجيبة لاستغاثة مواطن يعاني القهر والظلم في بلاد المسلمين على يد المسلمين، في الإمبراطورية الإسلامية العظمى الغابرة، كما ارتجت وتحركت بعدّتها وجيوشها في القصة الأسطورية إستجابةً لصرخة امرأة مجهولة منكورة لا نعرف من هي، وهي تنادي الخليفة من على الحدود عندما اعتدى عليها بعض الروم? ? وامعتصماه?؟!.

    إن هذا النموذج من القصص يريد أن يعلن مدى اهتمام الدولة جميعا بمواطنٍ فردٍ يعاني أزمة، وهو ما يستثير الخيال العربي المقموع ويدفعه إلى محاولة استعادة هذه الدولة الأبية التي كانت تردع الأعادي بكل فخر ومجد كما كانت تنشغل بالمواطن الفرد كل الانشغال، حتى بات عزيزا كريما مرهوب الجانب أينما كان. لكن بين القص الأسطوري وبين ما كان يحدث في الواقع مفارقات لا تلتئم أبدا، ولا تلتقي أبدا. والنماذج على ذلك أكثر من أن تحصيها مقالة كتلك، بل تحتاج إلى مجلدات من الكتب. لكن يكفينا هنا اليسير منها لنكتشف هل كانت ثقافة ?وامعتصماه? أمرا حقيقيا فاعلا في الواقع أم أنها مجرد قصة لرفع الشعارات دون الفعل وليس أكثر، كالعادة العربية المعلومة! خاصة أن هذه الدولة العزيزة بمواطنها الكريم هي الدولة النموذج التي يطلبها اليوم المتأسلمون على كافة فصائلهم وأطيافهم، ويزينونها للناظرين بقصٍّ كهذا عادة ما يبدأ بمسئولية الخليفة الراشد وهو في يثرب عن دابة لو عثرت بالعراق.

    وينتهي بالحفل البانورامي حول احتلال ?عمّورية? انتقاما للفرد العربي الأبي حتى لو كان امرأة! مع علمنا بحال المرأة قياسا على الرجل في تراثنا.

    لقد صرخت القبائل العربية في الجزيرة منذ فجر الخلافة ?واسلاماه? تستغيث بالمسلمين لردع جيوش الدولة عن ذبحها وسبي حريمها وأطفالها لبيعهم في أسواق النخاسة، تلك القبائل التي تمسكت بحقها الذي أعطاه لها ربها بالقرآن في الشورى والمشاركة الفاعلة في العمل السياسي. فرفضت خلافة أبي بكر? الفلتة? بتعبير عمر بن الخطاب لأنها تمت بدون مشورتهم ولا ترشيح احد منهم ولا اخذ رأيهم، فامتنعوا عن أداء ضريبة المال للعاصمة تعبيرا عن موقفهم ، لكنهم عملوا برأي الإسلام فجمعوا الزكاة ووزعوها على فقرائهم في مضاربهم التزاما بهذا الركن الإسلامي بجوار صلاتهم وصيامهم وقيامهم بقية الأركان المطلوبة. فلم يعفها ذلك من جز الرقاب والحصد بالسيف. والصراع هنا لم يكن حول الإيمان والكفر، بل كان الشأن شان سياسة دنيوية لا علاقة لها بالدين.

    ورغم الجميع فقد تواطأ السدنة مع السلطان ضد تلك القبائل ليؤسسوا في التاريخ المذهب السنّي الذي وجد فرصته في مكان سيادي بجوار الحاكم، فقام بتحويل الخلاف السياسي إلى خلاف ديني، واعتبر أن محاربة هؤلاء واجب ديني لأنهم قد كفروا وارتدوا عن الإسلام لا لشيء، إلا لأن هكذا كان قرار الخليفة؛ ولأن هذا الخليفة كان ?الصدّيق? صاحب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وصهره ووزيره الأول. فالبسوا الخليفة أولا ثوب القدسية ولو ضد منطق الإسلام الذي لا يقدس بشرا، ثم البسوا القرار قدسية الخليفة، ثم أصدروا قرارهم بتكفير هذه القبائل بتهمة الردة عن الإسلام لأنها حسب القرار البكري قد ?فرّقت بين الصلاة وبين الزكاة?، وهو أمر فيه نظر من وجهة نظر الشرع لا تبيح قتالهم ولا قتلهم. لذلك تم تدعيم القرار بان تلك القبائل قد خرجت على رأي الجماعة وخالفته وهو اختراع آخر كان كفيلا بوصمها بالارتداد منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم.

    وهكذا، ومنذ فجر الخلافة جلس الفقيه في معية السلطان يصوغان لنا إسلامنا، إسلام يؤسلم ويكفّر حسب مدى التزام المواطن بالمذهب السيد الذي هو مذهب السدنة والسلطان وأولي الأمر، وطاعتهم أمر رباني وفرض سماوي. ومنذ خرجت جيوش أبي بكر تحارب تاركي الزكاة تحت اسم الدين والصواب الديني، أصبح معنى أن تخرج جيوش المسلمين لتحارب الكفار ?غير حروب الفتوحات?. إنها خارجة للقضاء على المعترضين أو المخالفين في الرأي السياسي الذي تتم إحالته إلى الدين، حتى يتم الذبح والحرق والسبي بإسم الدين وليس لخلاف سياسي.

    ونظرة عجلى على تاريخ العرب المسلمين ستكتشف أن مقابل ?وامعتصماه? الأسطورية، ألف ?واسلاماه? كان جوابها مختلفا. وبلغ الأمر غاية وضوحه في زمن عثمان بن عفان الذي فتق بطن عمّار بن ياسر ضربا وركلا، وكسر أضلاع ابن مسعود حب رسول الله، ونفى أبا ذر إلى الربذة، فقتل المسلمون خليفتهم، وتم قتله بيد صحابة وأبناء صحابة. ومن بعدها خرجت الفرق الإسلامية تحارب بعضها بعضا وتكفّر بعضها بعضا، حتى مات حول جمل عائشة خمسة عشر ألف مسلم، ومن بعدهم مائة ألف وعشرة من المسلمين في صفّين، لا تعلم من فيهم من يمكن أن نصفه بالشهيد ومن فيهم من يمكن أن نصفه بالظالم المفتري!

    أما عن زمن معاوية وولده يزيد فحدث ولا حرج عما جرى لآل بيت الرسول، وكيف تم جز رأس الحسين لترسل إلى العاصمة، وكيف تم غرس رأس زيد بن علي في رمح ثم غرسه بدوره فوق قبر جده رسول الله!. وإن ينسى المسلمون السنّة، فان بقية الفرق لا تنسى هذه الأحداث الجسام التي فرقت المسلمين فرقا وشيعا، كلها تمسحت بالدين وكان الشأن شأن سياسة ودنيا وسلطان.

    وإن ينسى المسلمون أو يتناسوا فان التاريخ يقرع أسماعنا بجملة مسلم بن عقبة المري لتأديب مدينة رسول الله ?يثرب? ومن فيها من الصحابة والتابعين بأمر الخليفة القرشي يزيد بن معاوية. فقتل من قتل في وقعة الحرة التي هي من كبرى مخازينا التاريخية، إذ استباح الجيش نساء المدينة أياما ثلاثة حبلت فيها ألف عذراء من سفاح واغتصاب علني وهن المسلمات الصحابيات وبنات الصحابة والصحابيات.

    أما زياد بن أبيه، والي الأمويين على إقليم العراق، فقد شرّع القتل بالظن والشبهة حتى لو مات الأبرياء إخافة للمذنب، وشرّع قتل النساء. أما نائبه الصحابي ?سمرة بن جندب? فان يديه قد تلوثتا فقط بدماء ثمانية آلاف من أهل العراق على الظن والشبهة، بل اتخذ تطبيق الحدود الإسلامية شكلا ساخرا يعبر عن تحكم القوة لا حكم الدين، كما في حال ?المسود بن مخرمة? الذي ندد بشرب الخليفة للخمر، فأمر الخليفة بإقامة الحد إحقاقاً للشرع لكن على المسود بن مخرمة.

    ثم لا تندهش لأفاعيل السلطة وشهوتها في التقوى والأتقياء. فهذا الملقب بـ?حمامة المسجد? عبد الملك بن مروان لكثرة مكوثه في المسجد وطول قراءاته للقران وتهجده ليل نهار، يأتيه خبر انه قد أصبح الخليفة فيغلق القران ويقول له: ?هذا آخر العهد بك?، ثم يقف في الناس خطيبا فيقول:?والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا وإلا ضربت عنقه?.

    ولابد أن يجد الحجاج بن يوسف الثقفي هنا ولو إشارة؛ لأنه كان المشير على الخليفة؛ ولأنه من قام على إصدار النسخة الأخيرة من القرآن بعد أن عكف مع علماء الأمة على تصويب الإصدار العثماني وتشكيله وتنقيطه بإشراف شخصي دائم منه، ولم يثبت عليه حب الخمر أو اللهو. لكنه كان أيضا هو الرجل الذي ولغ في دماء المسلمين، وكانت مخالفته في أهون الشئون تعني قص الرقبة، فهو الذي قال:? والله لا آمر أحدا أن يخرج من باب من أبواب المسجد فيخرج من الذي يليه إلا ضربت عنقه?. وهو أحد خمسة ذكرهم عمر بن عبد العزيز قبل خلافته في قوله: ?الحجاج بالعراق والوليد بالشام وقرة بمصر وعثمان بالمدينة وخالد بمكة، اللهم قد امتلأت الدنيا ظلما وجورا?.

    وقد سار الحجاج على سنّة سلفه زياد في إعدام النساء والقبض على أهل المطلوب حتى يسلم نفسه، ومنع التجمهر، وإنزال الجنود في بيوت الناس ووسط العائلات يلغون في الشرف كيفما شاءوا إذلالاً للناس وكسرا لإنسانيتهم، حتى انه أعدم من العراقيين في عشرين سنة هي مدة ولايته مائة وعشرين ألفا من الناس بقطع الرأس بالسيف أو الذبح من القفا أو الرقبة، دون أن نعرف من هم هؤلاء الناس ولماذا ذبحوا اللهم إلا على الاحتجاج على ضياع كرامة الإنسان، أو لمجرد الشبهة والظن.

    وقد وجد هؤلاء السادة في الذبح والحرق لذة وسعادة، بل فكاهة دموية. ففي فتوح جرجان سال أهل مدينة طمسية قائد المسلمين سعيد بن العاص بن عم الخليفة القائم عثمان بن عفان الأمان، مقابل استسلامهم على ألا يقتل منهم رجلا واحدا، ووافق القائد سعيد ففتحوا له حصونهم فقرر الرجل أن يمزح ويلهو ويضحك، فقتلهم جميعا إلا رجل واحد!

    وعندما وصل العباسيون إلى السلطة بدأوا حملة تطهير واسعة شملت من مواطني دمشق خمسين ألفا تم ذبحهم، وجعلوا من المسجد الأموي إسطبلاً لخيولهم. ولما استقام لهم الأمر استمروا على النهج الأموي في ظلم العباد وقهر آدمية الإنسان، وهو ما كان يدفع إلى ثورات، تنتهي بشي الثوار على نيران هادئة، أو بمواجهتهم للضواري في احتفالات رومانية الطابع.

    وهكذا كان الإنسان سواء مواطنا عاديا كان، أم كان في جيوش السلطان، في مقتطفات سريعة موجزة مكثفة من تاريخنا السعيد وزماننا الذهبي الذي يريد الدكتور محمد عمارة استعادته، لماذا؟ يقول لنا تحت عنوان ?مميزات الدولة الإسلامية?، إن الشريعة الإسلامية فيها ?تفوقت على غيرها من كل الشرائع والحضارات والقوانين الدولية، في أنها جعلت القتال والحرب استثناء مكروها لا يلجا إليه المسلمون إلا للضرورة القصوى?. لذلك يرى الدكتور عمارة: ?أن الدولة الإسلامية لم تخرج عن هذا المنهاج السلمي، حتى تضمن الدولة للمؤمنين حرية العيش الآمن في الأوطان التي يعيشون فيها?- مقالاته الحروب الدينية والأديان السماوية 7،8″.

    لكن ماذا عند سيادة الدكتور ليقوله بشان تلك الجسام الجلل في تاريخ ما يسميه الدولة الإسلامية؟!.

    هذه دولتهم الإسلامية التي يريدون استعادتها لإقامة الخلافة مرة أخرى لتحرير فلسطين والعراق وإعادة الإمبراطورية القوية مرة أخرى. لقد كان زمنا ذهبيا بكل المعاني الذهبية بالنسبة للسادة الفاتحين الغزاة الحاكمين وحواشيهم من سدنة الدين وتجار البشرية، لكنه كان زمانا تعسا بائسا دمويا بالنسبة للمحكومين المغزوين المفتوحين.

    وإذا قيل هنا أن ذلك كان منطق ذلك العصر، فلا خلاف أبدا حول قول القائل. وإذا قيل انه لا يصح محاكمة ذلك الزمان بذوق زماننا الأخلاقي، أيضا ليس ثمة خلاف. لكن الخلاف ينشأ فور القول باستعادة هذا الشكل من الحكم والأنظمة بحسبانها الأمل والمرتجى. هنا لابد أن نحاكمها بذوق أيامنا، لنرى إن كانت هي الحلم المنشود والأمل المفقود، أم ستكون هي الختام لخير أمة أخرجت للأنام!

  4. عزيزى الدكتور سيد القمنى أوفيت وكفيت. هذا المفلس لم يتحدث عن جذور النظرة الشمولية لهؤلاء المتطفلين على نظام المجتمع الحديث واقتصاده ومجتمعه ويحاول جاهدا ان يعكس جوانبا يختارها هو ليضلل الناس بأن هنالك نموذجا اسلاميا يمكن الاستناد اليه وهو ثراث انسانى جيد يصلح اتباعه وتعميمه على البشريةوهذا مالم يكن موجودا فى ىوم من الايام شاء من شاء وأبى من أبى.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..