ربطة جرجير . .

حاجة السارة إمرأة ريفية جاءت الى المدينة مضطرة بعد أن هجر ابناؤها الزراعة وباعوا البيوت الواسعة الحيشان و كل ما تركه لهم والدهم حاج النور من أنعام وغلال وجروف وهو الذي توفي منذ سنوات قليلة. .. جلال الدين ابنها الأصغر المتعلم هاجر الى الخليج .. بينما تزوجت ابنتها نعمات الكبرى من ابن عمها وارتحلت للإقامة معه في القرية البعيدة عن الضفة الشرقية للنهر أما بتول الصغرى فسافرت مع زوجها الغريب عنهم الى ليبيا..وبقي معها نصر الدين إبنها الأكبر الذي تزوج من علوية إبنة شقيقتها المرحومة السرة وقد تعهداها بالرعاية ولم يرزقهما الله بابناء وهذا ما دفع بالإبن وزوجته الى التفكير في سكنى وعمل المدينة لمتابعة العلاج فيها أملاً في الإنجاب .
لم تكن السارة ذات الثمانين ربيعاً تعرف طيلة حاتها في قريتها شراء الخضروات ولاعلف حيواناتها ولا تلجأ للجزارة إلا لماما فلديها ما يكفيها وأسرتها من الخير الوفير .. منتوج الجرف الطازج و الغلة المشونة طيلة العام ..و الدواجن والسخلان والحملان الذكور حيث تحرص على الإبقاء على الإناث بغرض التكاثر.
لم تستطع أن تقاوم قرار فراق الأهل و لم يهن عليها في ذات الوقت أن تترك كل ذكرياتها في تلك المنطقة الوادعة التي ترقد متوشحة خضرتها وتستنشق أنفاس النيل صباح مساء ..وماذا عن صديقاتها بنت المنا والشول ونفيسة هل ستعود لتجدهن على قيد الحياة وهل ستعود أصلا هي وقد بلغت هذا العمر.
فحضنت رفيقات العمر وشقاء اللحظة يعتصر قلبها قبل أن تضع قدمها بصعوبة وتثاقل فوق السلم بمساعدة الفضلي صبي الحافلة التي تحركت بهم فبدأ شريط حياتها السابقة يتراقص من خلف الغبار على الطريق مع تباعد ملامح ماضيها في قريتها والناس على جانبي السكة يلوحون لهم وحاجة السارة تكتم دمعاتها الحرى خلف ثوبها الذي التصق بوجهها من شدة البلل .
مضت الأيام والشهور وانهاك مشاوير سوق الحي قد بدا واضحا على جسد الحاجة التي كانت تتولى احضار اللحوم والخضروات من ذلك السوق في غياب ابنها المتواصل من بعد الفجر والى ما بعد صلاة العشاء في عمله وقد افتتح مخزنا متواضعا لتجارة مواد البناء في سوق المدينة الكبير ومع استحالة خروج زوجته الشابة نسبياً للتبضع وهو الرجل الريفي القح .
اصبحت حاجة السارة احدى معالم ذلك الحي .. فالكل يعرفها ويهفو لتحيتها و تقديم الخدمات لها .. عوض الله الجزار والريح بائع الخضار و التومة بائعة الدواجن و جحا ذلك الشاب الظريف الذي يعمل في طاحونة عبد الكريم زكريا ..الى عم حنا البقّال العجوز وزوجته ميري وحاج ابكر الحطاب وحتى مختار الملقب بابي القنفد لست أدري لماذا والذي يبيع الطايوق وعفشة الذبيح يترك لها نصيبها متى ما أوصته قبل ذلك بيوم !

يمضي قطار العمر متخطيا حاجز الثمانين وحاجة السارة ترفض الإستسلام وهي تجرجر الخطى بعناد الكبرياء رغم ضعف الجسد ..بل ولم يكن كل ذلك يهمها في شي ..غير أن أكثر ما كان يشغلها ذلك الحنين الدافق الذي يشد عقلها الى البلد وقد ماتت أغلب صديقاتها إلا نفيسة التي بلغ بها العمر درجة الخرف .. وكثيرا ما كانت تسرح السارة وهي تعبر الطريق و ذلك الشريط من ذكرياتها يشغلها عن الإنتباه وهي تعبر الشارع الذي تمر به أرتال السيارات فينبهها السائقون بينما لاتزال غارقة في شرودها في صورة تلك الأيام من رغد العيش على الفطرة والبساطة ودون تكلف أو تصاعد في الأسعار تجده صادما هنا في كل شي و عند كل صباح !
وقفت قليلا عند الريح الذي كان مشغولا مع زبائن آخرين.. فجلست القرفصاء تستمع اليه وهو يشتبك مع أحدهم الذي احتج بأن تصل ربطة الجرجيرفي بلاد النيلين مبلغا قدره (ثلاثون ) جنيها .. فجحظت عينا السارة وهي تردد بعسر من خلف سعالها الذي أسقطها لمرتين وهي تحاول النهوض … كم.. يا الرييييييح يا ولدي .. النبي عليك .. قلت ثلاثين الف .. !
ثم ارتدت الى الآرض متمددة بلا أنفاس ..وكانت الفاجعة التي لم تكن بداية القصة ولا نهايتها .. والسبب المعلن ربطة جرجير .
كان فائضه في الحيضان بالنسبة للمرحومة يُعزق لترميه في بلاد الخير التي تركتها قسراً ..ليصبح علفا للبغال والعجول والدواجن والأغنام والحمير !

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. التباكي ليس على ر بطة الجرير التي وصل سعرها ثلاثون ألف جنيه بل نزرف الدموع على جنيهنا أبو ألف جني والذي كان يتحدى كل العملات الأجنبية متطاولا عليه بقامته السامقة

  2. حقيقة لم نتخيل يوماً أن يصل سعر ربطة الجرجير الثلاثون ألف جنيه , طيب “كوليكة” القصب للبهائم تكون بكم؟

    التحية لك أستاذه نعمة صباحي.

  3. الله يخليك بانعمه ( عنوان قصتك ذكرنى برائعة الرائع صلاح احمد ابراهيم بمناسية حادثة عنبر جوده المعروفه التى بقول فيها لو كانوا حزمة جرجيرالخ ) وذكرتى حميد ومصطفى سيد احمد فى (عم عبدالرحيم ) لك التحيه

  4. التباكي ليس على ر بطة الجرير التي وصل سعرها ثلاثون ألف جنيه بل نزرف الدموع على جنيهنا أبو ألف جني والذي كان يتحدى كل العملات الأجنبية متطاولا عليه بقامته السامقة

  5. حقيقة لم نتخيل يوماً أن يصل سعر ربطة الجرجير الثلاثون ألف جنيه , طيب “كوليكة” القصب للبهائم تكون بكم؟

    التحية لك أستاذه نعمة صباحي.

  6. الله يخليك بانعمه ( عنوان قصتك ذكرنى برائعة الرائع صلاح احمد ابراهيم بمناسية حادثة عنبر جوده المعروفه التى بقول فيها لو كانوا حزمة جرجيرالخ ) وذكرتى حميد ومصطفى سيد احمد فى (عم عبدالرحيم ) لك التحيه

  7. والله انت يا نعمة انت النعمة الفضلت ومعاك دكتورة تماضر الكترت الغيبة الله يديكم العافية انتو فاكهة الراكوبة.

  8. لقد شعرت بحزن عميق وانا اتخيل منظر الحافلة وهى تقل الحاجة السارة وهى تعتصر الما لفراق واقعها واهلها الجميلين..شكرا لكى اختى نعمة على هذا الابداع وهذا الألق المتأصل فى سودانيتنا..ادام الله عليكى نعمةالصحة والعافية.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..