
بالإطلاع على بنود اتفاقية جوبا للسلام، الموقعة بين حكومة السودان، وبعض حركات الكفاح المسلح، والتي تأتي في فترة سياسية خطيرة وهامة من تاريخ شعبنا الذي عانى من الحروب وويلاتها ونتائجها الكارثية، التي قد تذهب بوحدة الدولة السودانية نفسها، إذا لم تخاطب هذه الاتفاقية جذور المشكلة ومسبباتها، ومعالجة القضايا الكبرى ببنود واضحة لا تقبل أي تأويل أو أكثر من تفسير، وأن تكون بنودها منسجمة مع معايير الأمم المتحدة شكلا ومضمونا. وقبل البدء في إبداء ملاحظاتنا حول بعض بنودها، نود أن نشيد بالمجهود المقدر الذي بذل فيها، والاسلوب المهني الذي صيغت به هذه البنود، ولأهمية هذه الاتفاقية لتأسيس مبدأ السلام في شكله العادل والإيجابي، أود أن أسجل بعض الملاحظات التالية:-
أولا: إن بنود اتفاقية جوبا للسلام مثلها مثل كل الاتفاقيات المتقنة الصياغة، وفي رأينا المتواضع ينبغي أن تتجنب الغموض والابهام فيما تعالجه من قضايا، خوفا من إغراقها في تعقيدات اللغة التي قد تحمل أكثر من تفسير. وأن يكون البند قابل للتطبيق في حيزه الزماني والمكاني دون تركه لسلطة الأفراد التقديرية. كما يجب أن تكون هذه البنود أكثر تحديدا للمصطلح، وأن يكون المصطلح نافيا لكل لبس وغموض وألا يقبل أكثر من تأويل. وينبغي التعامل بحذر بين المصطلح وبين المفاهيم الدارجة للأشياء والمسميات.
قال أحد الحكماء: (إن السلام كالحرب، معركة لها جيوش وحشود وخطط وأهداف والثقة بالنفس معركة ضد كل مضاعفات الهزيمة). عطفا على هذا القول لم تنل الاتفاقية التأييد الكاسح كما كان مأمولا لها سيما في المناطق التي كانت الحروب مسرحا لها، الأمر الذي قد يعرضها لخطر الانتكاس، لأن الرضا الشعبي والالتفاف الجماهيري هو أساس نجاح ودعم كل الاتفاقيات التي تعقب الحروب. ومع ذلك أجمل ما في الحرب هو وقفها، ولا يعرف ويلات الحرب إلا من
يكابدها، فالسلام كلمة تحمل الأمل في بين طياتها.
أما من حيث الموضوع: فإن المنهج الذي تم اتباعه في مفاوضات جوبا كان منهجا خاطئا ومعطوبا منذ بداية التفاوض لأسباب كثيرة نذكر منها مثالا لا حصرا: هذا المنهج هو تفتيت لقضايا الحرب والسلام التي لا تعالج على أساس مناطقي لأنها قضايا سياسية في المقام الأول وهي قضايا متشابكة ومتداخلة. تجاهل هذا المنهج عن سابق تصميم وتعمد أصحاب المصلحة الحقيقين من تحقيق السلام ووقف الحرب. كما أدخل قضايا في مناطق ليس لها علاقة مباشرة بالحروب الأهلية، فقضايا تلك المناطق ذات طبيعة وظروف مختلفة، كما أن قضايا الحرب والسلام هي قضايا كلية تهم السودان ككل، صحيح أن إنسان دارفور وجنوب كردفان وجبال النوبة وجنوب النيل الأزرق قد دفع الكلفة العالية للحرب، ولكن تبعات الحروب قد تأثر بها كل السودان في انعدام التنمية والاستقرار السياسي والمجتمعي، ولذلك جاءت النتيجة تزييفا لمفهوم
السلام وابتذالا لمستحقاته وتحقيرا لضحاياه.
أن مبدأ المحاصصات لن يحقق السلام المستدام، بل سيزيد من بؤر التوتر والحروب بتناسل الحركات المسلحة كما سوف يؤدي إلى المزيد من ترهل جهاز الدولة، (السيادي والتنفيذي المركزي والولائي). مما يفاقم الوضع الاقتصادي المنهار في بلد يواجه شبح المجاعة.
أما ملاحظاتنا فيما يتعلق بالمادة 106 من اتفاقية سلام جوبا والتي تقول: (الفصل التام بين المؤسسات الدينية ومؤسسات الدولة …إلخ. جاء هذا النص عاما ومبهما بالرغم من أهميته البالغة باعتباره قضية محورية سبب تجاهلها الكثير من الحروب الأهلية. فعليه نقترح إعادة صياغته ليكون دقيقا وغير قابل للتأويل. تفادي إدراج الكلمات التي تحمل اكثر من تفسير، وإلا ما المقصود بالمؤسسات الدينية وما هو الدين الذي له مؤسسات كي يتم فصلها أوليس الدولة تقف على مسافة واحدة من كل الأديان؟. على أن يكون هناك نص قاطع الدلالة لا يحمل ألا
المعنى المقصود منه، ويكون هذا النص كالتالي: فصل الدين عن الدولة.
كما أن الاتفاق ملزما للأطراف الموقعة عليه وبالتالي فهو يستبعد القوى الاخرى الحاملة للسلاح والقوى السياسية الفاعلة.
إن تعديل الوثيقة الدستورية بتمديد الفترة الانتقالية وزيادة أعضاء مجلس السيادة وتخفيض نسبة قوى الحرية والتغيير (قحت) في المجلس التشريعي إلى 42% هو تكريس وهيمنة سلطة العسكر، وإضعاف لدور قحت في مسيرة الفترة الانتقالية والمجلس التشريعي.
الاتفاق على أن بنود اتفاقية سلام جوبا تعلو على الوثيقة الدستورية يعتبر سابقة خطيرة لم تحدث في أي مكان في العالم فالدستور هو الوثيقة الأسمى وتعديله أو إلغاؤه أو الاضافة إليه لا يتم إلا عن طريق نصوصه التي توضح ذلك. ففي هذه الحالة فإن الهرم قد أصبح مقلوبا فيجب
تعديله وذلك أن تحتكم الاتفاقية إلى الدستور المعمول به.
واستثناء ممثلي الحركات الموقعة على الاتفاق من المادة 20 من الوثيقة الدستورية فيه مخالفة لمبدأ تجريد القاعدة القانونية إذ يفترض أن تكون القاعدة القانونية عامة تخاطب كل المواطنين على مبدأ المساواة في الحقوق والالتزامات، لا أن تفصل على فئة معينة لتكرس مبدأ
المحاصصة والامتيازات الشخصية.
المادة الـ 10 التي تناولت مؤتمر نظام الحكم: تم الاتفاق على استعادة نظام الحكم الاقليمي في مدة لا تتجاوز الـ 60 يوما من تاريخ توقيع الاتفاق، على أن ينعقد مؤتمر نظام الحكم المحلي في فترة لا تتجاوز الـ 6 شهور هذه الفقرة الأخيرة أي عجز النص قد جاءت تزيدا وتحصيلا
للحاصل، لأن الحكم الإقليمي قد تقرر في صدر النص.
المادة 1.22 في العدالة والمحاسبة. لم يأتي تأكيد على المعاملة الايجابية والاعتراف الصريح بالمحكمة الجنائية الدولية.
المادة 14.3 ورد فيها، المسيحيون وأهل الديانات الأفريقية وكريم المعتقدات هذا تكريس للمعاملة الدونية لغير المسلمين، في اعتقادنا كان يجب اقتراح تكوين مجلس أعلى للشئون الدينية مستقل عن السلطة التنفيذية والسيادية.
تخصيص الأموال يجب أن يوجه نحو إعادة النازحين واللاجئين وسكان المعسكرات إلى قراهم وتوفير سبل استقرارهم، بتوفير الماء الصالح للشرب، وتشييد المدارس وإصلاح الموجود منها وبناء وتأهيل المستشفيات والبنى التحتية. على أن تظل قضية التنمية وقسمة الموارد قضية
تخطيط قومي محدد بفترات زمنية تخضع للمراجعة والتقويم والتطوير.
التمييز الايجابي لأبناء دارفور والمناطق المتأثرة بالحروب مطلوب وحق تقره القوانين والأعراف الدولية والمحلية، ولكن المغالاة في شروط ومتطلبات تنفيذه ينسف مبدأ المساواة ومعايير الكفاءة والخبرة في الخدمة المدنية وينسف مبدأ التأهيل وتكافؤ الفرص في العملية التعليمية. والتي هي قضية قومية تستوجب التأهيل والتطوير على نطاق القطر. كما أن التداخل القبلي في معظم مدن السودان سوف يعقد هذه المحاصصات والامتيازات ويعطل مسيرة الانصهار القومي ويعمق مزيد من الجراح وهنا يبرز سؤال جوهري ألا وهو هل يمكن استثناء المواطنين السودانيين من غير القبائل الدارفورية الذين استوطنوا في دارفور منذ عشرات ومئات السنين من هذه الامتيازات، وما مصير السودانيين من العناصر الدارفورية الذين
يعيشون في مناطق السودان الأخرى؟.
قضية الأرض والحواكير ذات خصوصية في دارفور، ولكنها قضية قومية أيضا، فلقد استباح النظام البائد اراضي السودان بالاستيلاء على اراضي السكان الأصليين وبتمليك بعض منسوبيه الأراضي الزراعية والسكنية، وبتأجير لبعض الأراضي الخصبة للأجانب بعقود إذعان مجحفة ولعقود طويلة، أضف إلى ذلك احتلال بعض أجزاء وأطراف الوطن بواسطة دول مجاورة،
ولذلك لابد من المعالجة الجادة والكلية لمسألة الأراضي وملكيتها واحتكارها.
مسار الشرق والشمال والوسط:
هذه مناطق لا توجد بها حروب بالمعنى المتعارف عليه، ولكنها مناطق تعاني من التهميش والافقار وانعدام الخدمات شانها في ذلك شأن معظم مناطق السودان ولكنها مناطق ذات خصوصيات وقضايا قومية تخص كل السودان كقضايا الأراضي والمشاريع الزراعية الكبرى وقضايا السدود ومصادر المياه وموانئ السودان البحرية والبرية وهي قضايا متداخلة ايضا، يجب مناقشة هذه القضايا ضمن القضايا الكلية والاستراتيجية القومية للدولة. وبالنتيجة تم رفض ونبذ المشاركين والمتحدثين باسم هذه المناطق وغير المفوضين من أهلهم واشتعلت بؤر الرفض
والمواجهة والاقتتال القبلي.
الرجوع لدستور سنة 73 المعدل لسنة 74
نرى أن الدعوة للرجوع لدستور 73 المعدل 74، هي دعوة تضحك وتبكي في آن معا، لأن من اقترح هذه الدعوة مع احترامنا لحسن مقصده، إما أنه لم يقرأ سطرا من هذا الدستور، أو أن اقتراحه جاء من باب القول الدارج (القحة ولا صمة الخشم)، إذ كيف نرجع إلى دستور جعفر محمد نميري، الذي يقول في المادة الرابعة منه : الاتحاد الاشتراكي هو التنظيم السياسي الوحيد في جمهورية السودان، وفي المادة السادسة منه: أن الشريعة الإسلامية والعرف مصدران رئيسيان للتشريع وغيرها من المواد التي تجاوزتها وقائع التاريخ وكنستها إرادة شعبنا في
السادس من أبريل 1985.
مقترحات:
القيام بحملة شعبية واسعة لشرح ورفض هذه الاتفاقية المنقوصة والشائه استنفار القانونيين الديموقراطيين لدحض عدم شرعية تعديل الوثيقة الدستورية الشروع فورا في تشكيل المجلس التشريعي وفق النسب التي نصت عليها الوثيقة الدستورية

تشكيل حكومة رشيقة وقليلة العدد (حكومة ادارة ازمة) تشكيل المجلس التشريعي، نقترح تقليص عدد اعضاء مجلس السيادة على ألا يتجاوز الـ 5 أعضاء. إعادة تشكيل المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير تكوين النقابات العمالية والمهنية فورا وفق قانون نقابات 86 دون الارتهان لحالة السيولة الماثلة والانتظار المميت لإجازة قانون جديد للنقابات.
د. أحمد عباس أبو شام – الجبهة السودانية للتغيير 16/ أكتوبر/