مقالات وآراء

عيش ريغان .. وخبز نتن ياهو

أبو الحسن الشاعر

لم أفاجأ بقرار الخزي والعار والركوع والخنوع الذي اتخذه المجلس العسكري وسار في ركابه حمدوك مجبرا بضغط من ” أولاد أميركا ” والحركات المسلحة والذي أعلنه البلطجي ترامب عبر اتصال هاتفي أرغم حمدوك على المشاركة فيه ولم يكن له إلا أن يفعل ما يؤمر ، فقد أشرت في مقالي السابق ” فرحة السودان .. ووصمة عار الأميركان ” إلى أن وراء أكمة الوعد برفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب ما وراءها .. وكنت قد ” فزعت في نهاية المقال بآمالي إلى الكذب حيت تمنيت ألا يكون وراء القرار التطبيع كرها وهو ما لم يتأخر حدوثه ..

تاريخيا كل حكومات العسكر خذلتنا .. فقد قبل الفريق إبراهيم عبود بعد انقلابه المعونة الأمريكية التي كانت محل رفض وجدل وخلاف كبير بين أحزاب النظام الديمقراطي وقتها ثم زار عبود أميركا وجعلها حليفا لكن يوم ثار الشعب عليه في أكتوبر 1964 وقفت منه موقف المتفرج يتجرع الهزيمة .. ثم جاء النميري وفي أواخر عهده المشؤوم حدثت مجاعة كبرى ضربت غرب السودان وامتدت آثارها لفترة وكانت من المعونات الخارجية ما عرف لاحقا بـ “عيش ريغان” الذي كان رئيسا للولايات المتحدة وقتها ثم أوغل النميري في العمالة وهو يبحث عن مخارج لسلطته من الأزمات المتراكمة متخبطا يمينا وشمالا فظن أن القشة التي ينبغي التعلق بها هي أميركا وإسرائيل فكان أن خضع لصفقة ترحيل يهود الفلاشا وتقاضى ثمنا بخسه لا يتجاوز مليوني دولار فقط ” أنظر مقابلات منعم منصور على اليوتيوب ” ولكن لعنة أميركا والتحالف في آخر عهده مع الإخوان المسلمين حلت به فكانت ثورة إبريل 1985 .. ووقفت أميركا تتفرج أيضا وحين استنجد نائب الرئيس اللواء عمر محمد الطيب بالسفارة الأميركية لم يجد ردا سوى عبارة التي السفير الأميركي المشهورة .. Game is over آي انتهت اللعبة .. وكانت المفارقة أن آخر رحلة للنميري للخارج كانت لأميركا وعاد منها ليحتجزه حسني مبارك ويقنعه أن عهد حكمه قد انتهى .. وقبل النميري كان عميل أميركا والغرب الذي كان يلقب بشرطي الشرق الأوسط محمد رضا بهلوي شاه إيران وسلطته تؤول للسقوط في أميركا مستشفيا وحين استيقنت من مصيره طردته شر طردة ليتجول بين العواصم فلا يجد سوى السادات ليستضيفه وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة ولو كان الخضوع ينفع لنفع القذافي الذي دفع المليارات في تعويضات لوكربي ثم حمل سلاحه الكيماوي وسلمه لأميركا في يدها لكن لم يجد منها سوى المساهمة في إسقاطه وقتله كما تقتل الكلاب ولم يع الدرس بعد فوات الأوان ويعبر عنه بصدق سوى حسني مبارك الذي قال قولته المشهورة ” المتغطي بأمريكا عريان ” ..وهاهو العسكري البغيض البرهان عميل الإمارات والأميركان يقود السودان مع القطيع للتطبيع !!

وقد سقنا هذه المقدمة المطولة حتى يعي الغافلون من قيادات الحكومة أن أميركا لا وعد ولا عهد لها وإسرائيل تأخذ ولا تعطي فقد قال نتنياهو علانية وهو يتحدث عن التطبيع مع الإمارات ” السلام مقابل السلام ولا شيء غير ذلك ” ، فإن ظن البلهاء أن وعد أميركا وإسرائيل سيحل مشكلة فهم واهمون فالمطالبات قادمة والتعويضات قادمة عبر قانون JASTA قانون ” العدالة ضد رعاة الإرهاب” وستتم مطالبة السودان بتعويضات عن 11 سبتمبر وغيرها وسيبقى ذلك سيفا مصلتا حتى لا نخرج عن بيت الطاعة.

إن ما يوجع القلب ويحز في النفس في تطبيع الخرطوم أنه تطبيع صنعته وقادته وخططت له ونفذته دويلة الإمارات التي لم تكن يوما لا في التاريخ ولا السياسة شيئا مذكورا .. بالتعاون مع ربيبها البرهان ، أحد بقايا الكيزان ومع ” أولاد أميركا ” من مزدوجي الجنسية في الحكومة المؤقتة الذين اصطنعتهم أميركا لنفسها بأيديها .. فالإمارات هي التي أوعزت لأميركا بالضغط وربط رفع العقوبات بالتطبيع لأنها المستفيد الوحيد والأول وعينها مع إسرائيل على البحر الأحمر والقرن الأفريقي.

ونقول ذلك لأن الإمارات هي التي أوصلت البرهان وحميدتي للحكم وسارعت لتأييده ووعدته بالدعم المفتوح خشية من سحب القوات من اليمن فكان لها ما أرادت وذلك قبل أن تكون أميركا على علم بتفاصيل التغيير في السودان وهي التي خططت للقاء يوغندا بين البرهان ونتنياهو ودلالة ذلك أن الاجتماع الذي تم لتنسيق التطبيع مع وفد أميركي وحضره البرهان وإسرائيليون ووفد التفاوض السوداني تحت غطاء رفع السودان من قائمة الإرهاب ، كان في الإمارات وهو اللقاء الذي تم فيه الاتفاق على كل شيء .

قلنا إنه اتفاق الخنوع والركوع لأن الذين وقعوه جبنوا من مواجهة الشعب السوداني الرافض للتطبيع .. ولم يمتلك رئيس مجلس السيادة الجرأة ولا رئيس الوزراء الشجاعة للإعلان عما حدث ودفعوا بوزير الخارجية بالوكالة ليقول كلاما فيه تخليط شديد على أذهان العامة ويتوارى وراء الكلمات ويتحدث عن ” اتفاقيات لا تطبيع “.. ويسوق مبررات الخضوع المذل بإخراج السودان من قائمة الإرهاب وقد كان هو نفسه أحد رعاة فرضها والحريصين على استمرارها بدعوى محاربة النظام السابق وهو يعلم تماما أنها أضرت بالشعب كله وليس السلطة ” راجع تصريحاته لإذاعة لندن الأسبوع الماضي ” أما وقد وقع التواصل فلا مناص من الاعتراف بالذنب .. أما التخفي وراء أن التطبيع سيعرض على المجلس الاستشاري الذي لم يولد ولن يولد ما دام العسكر هم المتسلطون ، لا تقوم به حجة .. وهذا إن صدقوا فيه ولن يصدقوا ، يعني أن على الحكومة وقف أي اتصالات من أي نوع كان حتى يتم إقرار التطبيع من المجلس الاستشاري الذي هو في علم الغيب.

وعلينا ملاحظة أن وعد الحكومة لأميركا وإسرائيل كان وعدا مغلظا بأنهم سوف يستطيعون إقرار وتمرير قرار التطبيع لأن الأغلبية ستكون لهم .. وذلك لأنهم وضعوا في حساباتهم النسبة التي منحوها مؤخرا لحركات النزاع المسلح / حركات التمرد وممثلي أقاليم النزاع دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق وبقية جوقة المؤيدين من الأحزاب مثل حزب المؤتمر الطلابي ومن لف لفهم .. وهذا يعني بالتأكيد أن اختيار الممثلين في المجلس التشريعي سيكون من المؤيدين للتطبيع وهو ما يطعن في قانونية وسلامة تشكيل المجلس وبالتالي يجب رفض أن يعطى مثل هذا القرار للمجلس التشريعي بل أن يخضع لاستفتاء شعبي أو أن يتم انتظار حكومة منتخبة وهذا هو الأصح لأن هذه الحكومة مؤقتة ولا يحق لها ولا لمجلسها التشريعي اتخاذ مثل هذه القرارات الخطيرة على حاضر ومستقبل السودان.

وليت الأمر توقف عند ذلك فقد خرج علينا ” الوزير الأبكم” نصر الدين عبد الباري ، وزير العدل ، الذي لا تحس له حركة ولا تسمع له ركزا بتصريحات نقلت عنه فيها افتئات وتجاوز خطير حيث جعل من الوثيقة الدستورية دستورا دائما للسودان بل جعل لها الحق في تجاوز تشكيل المجلس الاستشاري لأن ما يقوم به الاستشاري يمكن لمجلس السيادة ومجلس الوزراء القيام به من عقد تحالفات واتفاقيات واتخاذ قرارات مصيرية إلخ ، وخطورة هذا التصريح أنه سمح لمجلسي السيادة والوزراء فعل ما يشاءون دون انتظار ولعله أراد بذلك أن يسارع المجلسان لإدخال ما يسمى باتفاقية السلام ضمن بنود الوثيقة الدستورية ليكتمل لهم المخطط بل والذهاب لإجازة التطبيع .

إن المبررات التي يسوقها المتحمسون للتطبيع واهية ولا تنظر لأبعد من صف الرغيف وطابور الوقود ويتجاهلون تماما الخطر الذي يمكن أن يمثله الوجود الإسرائيلي الأميركي في السودان حيث سيتحول إلى بؤرة صراع أفريقي ودولي ومطامع لن تنتهي ستشكل في نهاية الأمر خطرا على الوجود السوداني نفسه ونعني به السودان الموحد وسيتيح ذلك لبعض المكونات الاجتماعية الاستقواء بالقوى الخارجية للمحافظة على كيانها ووجودها مقابل استقواء بعضها بإسرائيل وأميركا.

إن من المفارقة أن يحدثنا دعاة التطبيع عن الاستفادة من إسرائيل في الزراعة ونحن لا نعرف لها خبرة تتجاوز خبرة سوريا أو مصر مثلا أو الأردن أو فلسطين ..
إن الخيبة الكبرى كانت هي خيبة الحكومة في استنهاض الشباب والمجتمع للإنتاج متذرعين بالعقوبات وحروبات بقايا النظام البائد ونشير هنا إلى أن ذات النظام البائد حين تم حصاره تمكن باللجوء للصين وماليزيا وغيرها من استخراج البترول وتمكن من إعادة سعر الدولار إلى جنيهين ” ألفين ” ولولا الانفصال ما استطاع الحصار أن يؤثر فيه رغم أن معظم ما جاء من إنتاج ذهب لجيوب الحرامية .. وتمكنت كوبا من الصمود لحصار أميركا عقودا طويلة وهاهي كوريا الشمالية تقاوم حصار العالم كله .. فلماذا نرضخ لحصار لا نتحمل وزره وسقط بسقوط النظام الذي كان سببا فيه .. وكان بالإمكان رفع القيود بقليل من الصمود بدل الإذعان لشروط الأميركان ..

إننا لو كنا خلال هذين العامين من عمر الثورة قد التفتنا للإنتاج لما كان الحديث عن الحصار سيكون في صدارة المبررات لكن الحكومة قعدت تنتظر وعود الإمارات والسعودية فلم تنل سوى الخيبة التي جعلتها تتسول وتستجدي وتخضع للابتزاز الأميركي الإسرائيلي والمساومة وإلا قولوا لنا كيف تعجز السعودية والإمارات عن توفير الوقود فقط للسودان وهي تنتج ملايين البراميل يوميا التي لا تجد لها سوقا للشراء وترى عذاب السودانيين في الصفوف وكيف تعجز عن دعم الخبز جنود السودان يقاتلون لحماية أراضيهما للأسف ؟؟ هل ستكون إسرائيل أرحم بكم من هذه الدول ؟؟ إنها خيبة السياسة المستسلمة للوعود التي تقدم دون ضمان ومن ثم تقبض الريح ..

إذا كان التاريخ يعيد نفسه من عيش رونالد إلى عيش دونالد فهذه المرة يتحول لخبز نتن من يد نتنياهو و” أولاد أميركا ” !!.. فإن رأيتم أن الصفوف اختفت لأيام .. فاعلموا أنه خبز مغموس بدماء ضحايا الحروب وضحايا الصراعات والأطفال …. ومعجون بعرق ضحايا الحصار في كل العالم .. ومقدم على طاولات وصواني التنازل المذل والشروط المهينة.. ألا بئس الخبز الخبيث هو ، فهو خبز نتن نتانة نتنياهو ، بئس ما تأكلون وبئس ما تدعون يا دعاة التطبيع .. وستعود الصفوف بعد تمرير الفكرة وغياب السكرة ولات ساعة مندم .

أبو الحسن الشاعر

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..